السبت، ديسمبر 31، 2011

سنة أولى ديمقراطية"8"



سنة أولى ديمقراطية"8"

من أنتم؟ سؤال أجبنا عليه فأحرزنا الانتصار.
 من نحن؟ سؤال يجب أن نجيب عليه لإحراز الاقتدار.


الكثير من تلاميذ السنة الأولى ديمقراطية لم يتيسر لهم فهم ما تضمنته العبارات السابقة التي ظهرت على اللوحة الذكية. أما من تمكنوا من استيعابها فقد ظهرت على وجوههم علامات دهشة اختلط فيها شعور الفرح بالانتصار، مع الشعور بالخوف من عبء مسئولية إحراز الاقتدار.

ترك المعلم فئة الطلاب القليلين الذين أدركوا مضمون هذا العنوان جانبا، وأعجبه انخراطهم في نوبة تفكير وتأمل تشي بفهمهم لما يطرحه مضمون الدرس من إشارات خفية، وتفرغ للفئة التي استعصى عليها فهم مضمون كلمتي السر"من أنتم؟" و "من نحن؟".

قال المدرس:

من أنت؟ سؤال معتاد ودائما ما يوجه إلى الكثيرين منا، وبشكله الصريح المباشر الذي نعرفه، وتكون الإجابة عليه صريحة ومباشرة أيضا، حيث نجيب سائلنا بذكر أسمائنا إذا أراد التعرف على هوياتنا، أو نقوم بتعداد رغباتنا لمن أراد أن يتعرف على هوانا.

أما السؤال من أنا؟ فهو سؤال غير اعتيادي وقلما يخطر على بال أحدنا أن يقوم بطرحه على نفسه. وحتى وإن حدث ذلك، على ندرته، فإن الإجابة عنه تتسم ببعض الغموض والتعقيد والمواجهة مع الذات، والتي هي من أخطر المواجهات التي يتعرض لها كل منا.

قد يعيش الكثير منا، وبكل أسف، العقود الطوال وهو ينظر إلى وجهه في المرآة كل يوم، ولكنه لا يخطر بباله القيام بمغامرة اكتشاف ذاته ومواجهتها ولو لمرة واحدة، وذلك راجع ربما لفرط ثقتنا في أنفسنا، أو لتعصبنا لها وتنزيهها عن كل شبهة من تقصير قد تؤدي إلى جرجرتها حيث ساحة محكمة الذات، وهي محكمة يكون فيها الإنسان نفسه مدعيا ومحاميا وخصما وقاضيا.

حقا إنها لمهمة صعبة أن يكون الشخص مدعيا وخصما ومحاميا وخصما وقاضيا، ومع من؛  مع النفس. ولكنها مهمة ضرورية!

إن مواجهة كل واحد منا ذاته حرب يشتعل أوارها منذ اكتشاف كل منا نفسه، وتستمر مستعرة حتى ملاقاته ربه. وهي رغم استعارها المستمر ولكنها تظل حربا باردة وذات مفعول تدريجي تراكمي يدب دبيب الزمن ويفعل فعله. والزمن كما يعرف الجميع سيف إن لم نبادر بقطعه قطعنا، ولكن على البارد!

أحد عللي وأمراضي النفسية، وربما الكثير غيري، هو جنوحي الدائم إلى تأجيل فتح ملفاتي الشخصية المزعجة المعنوية منها والمادية. دليل ذلك كرهي إجراء الفحوص الطبية الروتينية خوف اكتشاف ما يسوءني معرفته من أورام أو علامات مرضية خطيرة أخرى، وأفضل، ويا لبلاهتي، حمل تلك الأسقام والأورام وتسمينها.

وإلى جانب تأجيلي لعللي وأمراضي الجسمية المادية، فإنني أؤجل أيضا، وإلى أجل غير مسمى، أمراضي المعنوية الكثيرة المزمنة، والذي يأتي في مقدمتها بالطبع مرض التأجيل ذاته.

بعض أنصار القذافي ومحبيه اتخذوا من علة كتماننا الشعور بالخوف من المستبد، وعدم مواجهتنا لذاتنا في الوقت المناسب بهدف تخليصها من الشعور المرضي المفضي إلى الخنوع للحاكم الظالم، اتخذوه حجة علينا، ومبررا لتشبث القذافي المرضي بحكمنا.

وبمعنى أدق تم تحميلنا جريرة عدم مواجهتنا أنفسنا، ورفع أصواتنا بالسؤال الخطير: من نحن؟

القذافي، ومن حيث لا يدري قدم لنا مفتاح أخطر ثغرة في حصون الاستبداد والدكتاتورية والعدوانية التي تمترس فيها العقود الطوال، وذلك عندما قام من وراء أسوار هذه الحصون العملاقة وقذف إلينا بكلمة السر التي فتحت أمامنا كل منغلق، وقادتنا إلى الانتصار.

الثغرة كانت ثغرة الخوف. أما كلمة السر فهي: من أنتم؟
وما إن طرقت هذه الكلمة أسماعنا حتى سرت فينا رعشة الحياة، واتصلت الدائرة الكهربية المشغلة لآلة حساب عددنا وعتادنا، فأعلمتنا هذه الحاسبة، وللمرة الأولى، بأننا عددنا ستة ملايين إنسان كرماء على خالقهم العظيم، ولكنهم مأسورين مغبونين مهانين لدى حاكمهم الحقير الوضيع.

نهض أحد الطلبة، وقاطع المدرس قائلا:

هذا تفسير نفسي ميتافيزيقي قد لا يقنع الكثير. وظني بأن القذافي عندما سأل هذا السؤال وهو متمترس في خندقه إنما كان يتمثل حال حاملي السيوف في معارك المبارزة القديمة، والذين كانوا يصرون على معرفة هوية من يبارزون، ورشف الجرعة الأخيرة من الحماس، والتي تتأتى من خلال معرفة الفارس الفارس الذي يبارز، وبأن من يبارزه كفؤ له ولائق بمنازلته. ولذا قال القذافي من أنتم؟ منتظرا بطبيعة الحال الإجابة، ومبادلته سؤالا بسؤال. أليس كذلك يا أستاذ؟
ضحك المدرس ملء شدقيه، وقال للطالب أظنك قلت ما قلت مازحا، وذلك من أجل رفع السآمة والملل عن زملائك، ولكنني رغم ذلك سأجيبك على تساؤلك.
القذافي، يا بني، لا يحتاج أن يسأل الليبيين عن إمكانياتهم فهو أعرف الناس بهم، ويعرف المارد الذي يسكنهم، ولذلك وظف ما يزيد على أربعين ألفا من أعوان الأمن الداخلي، كما وظف مثل هذا العدد أو يزيد ما بين أمن خارجي ولجان ثورية وكتائب عسكرية، وسوف لن يضيف هذا السؤال جديدا لما يعلمه.

أجزم، يا أيها الثائر الصغير، بأن هذه العبارة ألقاها جند من أجناد الله على لسان القذافي حتى تكون هي كلمة سر انتصارنا عليه. ذلك أنه وبقدر ما حمَّل القذافي هذه الكلمة من سخرية واستخفاف بالليبيين، بقدر ما وجد الليبيون في هذا السؤال الصاعق ذاتهم المنهزمة المتشظية، وكيانهم المعنوي الذي سحقه الدكتاتور على مدى العصور، فلملموا كل هذه الشظايا وصنعوا منها كأس الانتصار الذهبي الذي أذهل العالم بريقه.

ولبلوغ وقت الدرس نهايته سارعت اللوحة الذكية بتذكير الحضور بشطر الدرس المهم وهو قيام الليبيين أنفسهم بتوجيه السؤال الكبير الخطير إلى أنفسهم بعد أن حرروها من مغتصبها ومسترقها:

من نحن؟

وهو ما سيكون موضوع الدرس القادم إن شاء الله.

محمد الشيباني



       

الخميس، ديسمبر 29، 2011

سنة أولى ديمقراطية"7"



سنة أولى ديمقراطية  "7"

     " تحتاج الوظيفة العامة للعلم والحب، ولكنها للحب أحوج"

ما إن ظهر هذا العنوان على اللوحة الذكية حتى انخرط طلبة السنة الأولى ديمقراطية في سجال ساخن حول قيمتي العلم والحب والأهمية النسبية لكل منهما في امتحان إحراز شهادة الكفاءة في تولي المناصب العامة، بدءا من منصب رأس الهرم، ومرورا بالوزراء والمدراء الكبار، وانتهاء بالوظائف العامة الكثيرة المنتشرة على قاعدة الهرم.

احتدم الجدل، وأخذ كل فريق يدافع عن وجهة نظره بشواهد وأدلة كان قد سجلها التاريخ لسير رجال شغلوا الوظائف العامة في كثير من الدول العربية والأجنبية، وفي مقدمة هذه الدول بطبيعة الحال بلادنا ليبيا.

لم يصل المتنافسون إلى حسم لهذه المشكلة، وكاد وقت الدرس أن ينتهي، وتعلن اللوحة الذكية تأجيل المداولة إلى الدرس القادم. 


وفي المدى الضيق للدقائق الأخيرة للدرس، لم يُخفت ضجيج المتكلمين المتنافسين سوى صوت أصغرهم وأقلهم مشاركة منذ بداية العام الدراسي. قال ذلك المشارك الصغير متسائلا:

ــ ماذا لو اعتبرنا وظيفة ولي أمر الأسرة الصغيرة من الوظائف العامة؟

ــ ماذا تعني بسؤالك؟ علق المدرس.

ــ لم أرِدْ بسؤالي هذا سوى الإتيان بنموذج افتراضي للمشكلة المطروحة، واتخاذ ذلك النموذج وسيلة إيضاح لحل هذه المشكلة الكبيرة.

ــ قال المدرس: كأنك بهذا تريد تحوير سؤال الدرس المطروح ليكون على النحو التالي:

ما هي الأهمية النسبية لعنصري العلم والحب لدى الأم أو الأب عند إدارتهما لشأن الأسرة. أيْ أيُّ هذين العنصرين أهم من الثاني؟

ــ وعلى الفور صاح الجميع بصوت واحد: الحب الحب!

أجل. الحب الحب. ردد المدرس، وبصوت متهدج، هذه الكلمة التي أثارت لديه الكثير من الشجون، ثم استطرد قائلا:

طوال عقود التسلط والاستبداد الماضية، لم يكن يسمح لنا، ونحن نناقش أمر الوظيفة العامة، وخاصة تلك المحتلة لرأس الهرم والدائرة المحيطة به، سوى مناجاة أنفسنا، وفي أحسن الأحوال مناجاة الزوج زوجته أو الأب ابنه. وكم كان الغبن يطحننا ونحن نقارن أصحاب الوظيفة العامة في بلادنا مع قرنائهم في بلدان أخرى.

كنا نعقد هذه المقارنات بيننا وبين دول تجمعنا وإياها ظروف وصفات مشتركة جغرافية واقتصادية وسكانية وغيرها، ولكننا سرعان ما نجد الاختلاف واضحا بيننا وبين هذه الدول في نواتجها الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية. ونظل نبحث عن سبب ذلك فنجده كامنا هناك في قلوب الرجال الذين تقلدوا الوظيفة العامة من رأس هرمها حتى أخمص قدميه.

وجه الشبه بين ليبيا والإمارات كبير جدا، ولكن وجه الشبه بين انجازات حكومة الشيخ زايد وحكومة معمر القذافي يكاد يكون منعدما.

الشيخ زايد رجل دولة الإمارات الأول ومؤسسها، كان  بسيطا في كل شيء؛ في مظهره، وكلامه، وحتى نظرات عينيه. كان رئيسا ولكنه أشبه ما يكون بأب لعائلة كبيرة اسمها دولة الإمارات.

معمر القذافي المتعالم المتفاخر المتعاظم المتكبر، لم يشعرنا يوما بأنه أبونا، وإن كان يجبرنا على أن نسميه كذلك.

وباستنتاج منطقي بسيط نستطيع أن نقول: إن بساطة علم الشيخ زايد لم تحل دون تقدم الإمارات ونهضتها، وأن جرعة حب الشيخ زايد الزائدة كثيرا عن جرعة علمه هي التي كانت وراء نجاح الإمارات.


وفي المقابل نجد أن تعالم القذافي وحسبان نفسه فيلسوفا ومنظرا وحكيما، وشعوره بأنه لم يسبقه إلى علم قيادة الشعوب أحد، مع نقصان وربما انعدام جرعة الحب لديه، هو الذي أدى إلى تخلف ليبيا وتورطها أخيرا في حرب أكلت الأخضر واليابس.

دعونا من الإمارات، ولنضرب مثلا بدولة عربية أخرى لديها بعض الشبه بليبيا، ألا وهي عُمان.

لم يعلن قابوس سلطان عمان حربا أهلية ضد مناوئيه ومنافسيه على الحكم عندما شقوا عصا الطاعة عليه في وقت مضى. وعملت جرعة الحب المعقولة لديه كصمام أمان في حفظ سلطنة عمان من حرب أهلية. جرعة الحب في قلب قابوس جعلت يده ناعمة رفيقة فامتدت إلى أيدي منافسيه وتصالح معهم. وهو تصرف أبوي حكيم حقن به الحاكم الأب المحب دماء أبنائه المشاكسين.

وليس هناك أدنى شك في سريان عدوى الحب أو الكره من أعلى هرم السلطة إلى أسفله، ومن أعلى مكان حيث رئيس الدولة إلى من هم دونه من وزراء ومدراء كبار وحتى أصغر مسئول عام.

أحاول عبثا كدَّ ذاكرتي لأخرج منها مجرد شذرة من حب عذري لليبيا والليبيين بدت ذات يوم من أيام العقود الطوال على وجه ولسان القذافي وكذا معظم أعوانه الذين استعبدونا واحتكروا حكم بلادنا ليبيا طوال العقود.

كان حب أولئك الأمناء الخونة للسلطة والمال يطغى على كل حب ولو كان حبهم لأبنائهم.

ألم يقدِّم معمر القذافي والدائرة المقربة منه من الضباط والأمناء المخلصين له أبناءهم قرابين لآلهة السلطة التي كانوا يعبدونها؟

بلغ دليل انعدام حب الوطن لدى القذافي ومؤيديه مرتبة الحجة القاطعة، وتجلى هذا في مساء ذلك اليوم المشئوم الذي صاح القذافي فيه بأعلى صوته، وردد وراءه أنصاره قائلا: سأجعل ليبيا جمرا.

وكان لهم ما أرادوا، وجعلوها بكرههم لها جمرا.

هل هناك دليل يثبت خلو قلب القذافي من حب ليبيا أعظم من هذا؟

ليس هناك من مهر نهديه لأمنا ليبيا في سنتها الأولى ديمقراطية أثمن وأغلى وأزهى وأبقى من غمرها بحبنا، والذي يجب أن تعلو جرعته على جرعة كل شيء آخر ولو كان هذا الشيء هو العلم.

"على كل ما يقال في السياسة من قذارة، ولكن لا مناص من بناء محراب حب ببعض طوبها القذر".

"ليس هناك من شهيد أعظم من شهيد عمَّد حبه لوطنه بدمه الغالي".

"ليس هناك أعظم من رئيس أغناه نبض قلبه عن حد سيفه في سياسة شعبه".
 

محمد الشيباني



السبت، ديسمبر 24، 2011

سنة أولى ديمقراطية 6



سنة أولى ديمقراطية، أم سنة 43 ثورقراطية
النظام الثورقراطي يستمد شرعية وجوده من شرعية الثورة ذاتها

صدم هذا العنوان الذي أظهرته اللوحة الذكية الجميع. كيف لا وهو يلغي بجرة قلم تضحيات الثوار التي لا يمكن لأحد أن يتجاهلها!

المعلم هو الآخر فوجئ بهذا العنوان الذي قذفت به اللوحة، ليس لأنه لم يسمع بهذه التسمية من قبل فحسب، بل لاحتواء العنوان على إشارات متناقضة لا يمكن أن يقبلها الثوار، فضلا عن فهمها ومحاولة تحليلها والاستفادة منها.

وحتى لو تمكن المعلم، بما يملكه من حنكة وذكاء، من تمرير لفظة الثورقراطية الغريبة المثيرة هذه، إلا أنه لا يستطيع إخفاء الرقم 43 ، وذلك لما يشي به هذا الرقم من علاقة مشبوهة بالرقم 42 سيء السمعة.  

أما ثالثة الأثافي فهي إلحاح العنوان على إجراء المقارنة غير المعقولة بين السنة الأولى ديمقراطية التي ملأ بريقها عيون الثوار واستحوذ حبها على قلوبهم، وبين ما يلقيه العام 43 من امتداد لحقبة البؤس والشؤم.

حقا إنه لمأزق!

ليت اللوحة اكتفت بمجرد طلب عقد المقارنة، ولكنها، ولغاية في نفسها الكومبيوترية اللئيمة، أعادت إلى الأذهان  تلك المتلازمة اللفظية المقيتة السوداء، والتي صبغ سوادها عقود الاستبداد الثوري الأربعة، عندما كان الثوريون السبتمبريون الدائمون المعمرون يغلفون جرائمهم الفظيعة بغلاف الشرعية الثورية، حتى صارت  جرائمهم وفق شرعهم الثوري حلالا ثوريا صرفا.

وللخروج من هذا المأزق عمد المدرس الديمقراطي كعادته إلى التلاميذ طالبا منهم المشاركة والتعليق على ما أظهرته اللوحة.

خيم الصمت على الفصل الدراسي الذي يتشكل في معظمه من الشباب، ولم يقطع هذا الصمت سوى خطوات رجل ستيني انطلق من بين الحاضرين وتقدم نحو المدرس واستأذنه في الحديث قائلا:

ربما نحن الكهول ندرك أكثر من الشباب دلالات العنوان الذي أظهرته اللوحة الذكية، وذلك بسبب مبلغ كرهنا لكلمة الثورة ومشتقاتها، والتي أجبرنا نظام الاستبداد على تجرع حنضلها 42 عاما، حتى بلغ كرهنا لهذه الكلمة حدا تمنينا فيه ألا تأخذ ثورة فبراير عند انطلاقها هذا الاسم، الثورة. وما كان لنا من مبرر لتسمية انتفاضتنا باسم الثورة إلا عدم توفر كلمة أخرى مرادفة لها في لغتنا العربية.

كان الثوريون السبتمبريون المجرمون، يا أبنائي الشباب الثوار، يعتقلون ويعذبون ويقتلون ويهتكون الأعراض ويغتصبون أملاك وأموال الناس، ثم يبررون ويمهرون هذه الأفعال الشنعاء بعبارة " الثورة" و "الشرعية الثورية".

أجل كان تعبير "الشرعية الثورية" هو التعبير القانوني الدستوري المقدس الفذ، والذي بلغ من القدسية في نظر مبتدعيه حدا قصر عنه حتى وحي السماء.


حفزت مشاركة الكهل أحد الشباب الذي صرخ من بعيد وبدون استئذان قائلا:

لا تصح المقارنة بين ثورة سبتمبر التي قام بها حفنة من الضباط المتمردين، وبين ثورة فبراير التي قام بها الشعب كله!

أبدى المدرس والتلميذ الكهل كلاهما الرغبة في الرد على الثائر الشاب، لكن تدخل اللوحة الذكية حال دون ذلك، وقامت  اللوحة بقذف العبارة التالية الأكثر إثارة وتحد:  

تمتلك الثورة عند قيامها شطر شرعيتها، وبقدرتها على إقامة الدولة تمتلك كل شرعيتها أو تفقدها



حقا. صاح الكهل، ودليل ذلك عجز ثورة سبتمبر المستمرة المزمنة عن بناء دولة حقيقية، ولم يكن لذلك أي مبرر يذكر سوى أنانية من قاموا بالثورة، وتشبثهم المخجل المخزي بإطالة عمرها خدمة لأغراضهم الشخصية الدنيئة.  

النظام الثورقراطي الاستبدادي هو الذي  حكم ليبيا 42 عاما مانعا إياها من أن تكون دولة، وكلما أطلنا نحن الثوار عمر ثورتنا هذه، أخرنا قيام الدولة، ومشينا من حيث لا ندري وراء من ثرنا عليهم وأسقطناهم.

لم يجد المدرس عبارة مفيدة يختم بها هذا الدرس المشحون سوى عبارة أثارت المزيد من الحماس والرغبة في المشاركة لدى الحاضرين، ولكن سيف الوقت داهم الجميع، فسارع المدرس إلى كتابة عبارته الخاتمة، واعدا الطلبة باستئناف الحديث حول هذا الموضوع في الدرس القادم من سلسلة سنة أولى ديمقراطية. وهذه العبارة هي:

إن التحدي الأكبر الذي يواجهنا نحن الثوار هو قدرتنا على جعل السنة الأولى ديمقراطية هو عام سنة أولى دولة وليس عام 43 ثورة.

محمد الشيباني

الثلاثاء، ديسمبر 20، 2011

سنة أولى ديمقراطية5



                      سنة أولى ديمقراطية5” "
                    
                      " لم تنطلق صافرة النهاية بعد "

ما إن أظهرت اللوحة الذكية للفصل الدراسي الأول للسنة الأولى ديمقراطية العنوان عاليه، "لم تنطلق صافرة النهاية بعد"، مصحوبا بأضواء وأصوات السبورة التحذيرية المثيرة، حتى عمَّ المكان الصخب، وظهر التوتر على الوجوه.

وفي ردة فعل غريزية واضحة، وقف معظم الطلبة وانطلقت منهم الكثير من العبارات المعبرة عن خوفهم وفزعهم، بل إن البعض منهم تحسس مسدسه، وأيَّه بمن حوله مستنفرا وداعيا إلى الهيجاء.

ــ ما هذا يا أستاذ! ماذا تقول؟! صاح أحد الطلبة.
ــ لست أنا الذي قلت، ولكن اللوحة الذكية هي التي قالت هذا.
ــ نعلم ذلك، ولكن ما الذي دهى هذه اللوحة اللعينة حتى أطلقت هذا التحذير المثبط المفزع.
ــ إن البيانات التي استقبلتها اللوحة الذكية وحللتها، لم يؤت بها من وراء البحر، أو نسجها خيال شاعر، ولكنها بيانات حقيقية من ساحة المعركة.
ــ تقول معركة! عجيب هذا يا أستاذ! ألم تعلم أن  معركتنا انتهت وحققنا الانتصار؟
ــ عاطفيا أستطيع أن أجاملك وأوافقك على ما قلت، ولكن جهاز الكومبيوتر الذي تحتويه اللوحة الذكية لا يتعامل مع العواطف والوجدانيات، ولكنه يتعاطى مع أرقام وبيانات وتقارير وإحصائيات. وكل ذلك تم إدخاله في اللوحة الذكية فكانت النتيجة التي ترون، والتي عبرت بوضوح على أن الثورة التي بدأها الليبيون لم تنته بعد، وأن ظهورهم لا تزال مكشوفة ومرماهم مفتوح. بل إن الكثير من الأهداف التي تم تسجيلها كانت من قبل حماة المرمى أنفسهم، أحيانا بغير قصد، وأحيانا أخرى بقصد.
ــ  من ذاك الذي يصدق يا أستاذ الذي تقول؟ لا يمكن!
ــ  اسمح لي أن أجيب على سؤالك بسؤال؟
ــ تفضل يا أستاذ.
ــ هل لك أن تقارن بين حالة الوئام والاتفاق التي كانت سائدة بينكم إبان الحرب، وحالة الاتفاق والوئام الآن؟
ــ كنا إبان الحرب أكثر وئاما وانسجاما مما نحن عليه الآن، بل لم نكن نعرف خصاما أبدا.
ــ وبم تؤشر هذه الحالة. أعني ما هو أثرها في مرحلة التحول من الثورة إلى الدولة؟
ــ إنها بكل تأكيد مؤشر سلبي يعرقل قيام الدولة، ويدعو إلى الخوف يا أستاذ.
ــ ولهذا السبب أظهرت اللوحة الذكية تلك الإشارة التحذيرية مذكرة إيانا بأن الحرب لم تنته بعد.
ــ تعني أن مجرد فتور الود والوئام بيننا يعتبر مؤشر على الهزيمة.
ــ بل هو الهزيمة ذاتها. ذلك أن انخفاض هرمون الود والوئام والاتفاق بين الثوار وفي زمن قصير جدا بعد انقشاع غبار البارود، يؤشر إلى ضئالة حجم طبقة الوعي لدينا بدرجة لا يمكن بها حمل ثقل كنز الانتصار.
ــ قلت ثقل كنز الانتصار! أسمع بثقل الهزيمة، ولكن ثقل الانتصار لم أسمع به من قبل.
ــ كيف. ألم تسمع بالمقولة المشهورة للملك السابق رحمه الله: المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله؟
ــ أجل. الآن عرفت. وماذا أيضا يا أستاذ. ما هي المؤشرات السلبية الأخرى؟
ــ ترْكُ الكثير منكم لمكانه في ساحة الحرب، وانطلاقه بشكل غريزي مخجل نحو الغنائم.
ــ تلك حالات فردية بسيطة من بعض الثوار صغار السن.
ــ كلا. فعل ذلك كبار السن، بل أعضاء في المجلس الانتقالي ممن جاءت بهم فرصة اللحظة، أو قل غلطة اللحظة.
ــ هذا صحيح.
ــ ألا يجدر بها والحال هذه أن تصرخ اللوحة الذكية بأعلى صوتها بالعنوان عاليه، داعية إياكم إلى العودة إلى خنادقكم؟
ــ تقول خنادقنا. هذه دعوة مريبة يا أستاذ. إننا ندعو إلى سحب السلاح لا حمله.
ــ وهذه أيضا مشكلة!
ــ أية مشكلة يا أستاذ؟
ــ معظمكم يظن أن الحرب كلها حرب بارود. إنني أعني بالعودة إلى الخنادق عودة كل الثوار إلى أمكنتهم التي جاءوا منها قبل الحرب، وممارسة العمل البناء النافع من أجل الهدف النبيل اللذيذ الذي كانت تقف حواجز الدكتاتورية والاستبداد حائلا بينهم وبينه.
ـ أجل يا أستاذ. فهمتك. وماذا غير هذا من مؤشرات سلبية؟
ــ انتشار اللون الرمادي وتخلله الأماكن الحساسة من جسم الثورة، هو أيضا مؤشر خطير على عدم اكتمال النصر.
ــ من هم هؤلاء الرماديون يا أستاذ.
ــ إنهم ببساطة المتلونون، وعلى نفاقهم دائمون.   
 ــ وماذا بعد يا أستاذ؟
ــ الشعور المفرط بالثقة في النفس والاعتداد المبالغ فيه بالذات، والذي بدا واضحا على وجوه الكثير من المرتدين وشاح الثورة، وخاصة الكبار منهم، وهي حالة من شأنها أن تضعف من قبول هؤلاء للنصيحة وتقبلهم للنقد البناء الضروري جدا لبناء الدولة. ألم تر تلك المساجلات الساخنة في حلبة الإعلام بين أقطاب الثوار، تلك  المساجلات التي انتقل البعض منها إلى الشارع، حيث الثوار الصغار اللاعبين بالنار.
كل ذلك وغيره ربما كثير، جعل اللوحة الذكية تصرخ بأعلى صوتها، وتقول بأن الحرب لم تنته بعد، وإنما الذي انتهى منها مجرد فصل بسيط قصير، تم خلاله كسر بوابة باب العزيزية التي كان يحتمي وراءها الدكتاتور القذافي، أما قلب قلعة التخلف والجهل والمرض والفساد و(تصكير الدماغ)؛ فلا زال على حاله كما تركه القذافي.

جلس الطالب ونظر عن يمينه وشماله، فإذا الصمت والوجوم يعلو وجوه الجميع الذين تبادلوا نظرات الاعتراف بالخطأ، والشعور بخيبة الأمل.

وكالعادة صرحت اللوحة الذكية بنتيجة الدرس، والتي كانت كما يلي:

أيها الليبيون: استغرق منكم كسر بوابة باب العزيزية وطرد حارسها الدكتاتور اثنين وأربعين عاما.
أيها الليبيون: لا زلتم كما أنتم.
أيها الليبيون: ستستغرقون وقتا أطول من ذلك بكثير لإزالة مخلفات باب العزيزية إن لم تغيروا ما بأنفسكم.

محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com



الأحد، ديسمبر 18، 2011

سنة أولى ديمقراطية"4"


 سنة أولى ديمقراطية "4" 

اليوم السابع عشر من ديسمبر2011، الذكرى السنوية الأولى لتقديم محمد البوعزيزي نفسه قربانا من أجل الديمقراطية العربية.

وما إن اكتمل دخول الطلبة الفصل، وبُعيد إعلان السبورة الذكية بداية الدرس، حتى ظهر عليها وبخط عريض مؤتلق العنوان التالي:

                      "البوعزيزي شمعة أوقدتها السماء"

فاجأ هذا العنوان المدرس الذي كان مهموما بالمواضيع ذات الصلة بالثورة الليبية ومرحلة الانتقال إلى الدولة.

بدا على المعلم الشعور بالحرج، وذلك لعدم قيامه بالتحضير لإحياء ذكرى البوعزيزي، فالتفت إلى التلاميذ طالبا منهم أن يقترحوا الطريقة التي يودونها لإحياء ذكرى البوعزيزي.

ــ مللنا يا أستاذ الطرق التقليدية ذات الإيحاء المباشر والتمجيد المسرف لصاحب الذكرى، ونتمنى بدلا عن ذلك قيامك بتعريفنا بمصدر شرارة حريق البوعزيزي، وتميزها عن غيرها من شموع.

ــ البوعزيزي حرق نفسه بنفسه.

ــ الكثيرون غير البوعزيزي حرقوا أنفسهم، ولكنهم لم يحدثوا ما أحدث البوعزيزي.

ــ تقصد أن شمعة البوعزيزي ليست ككل الشموع، وذلك لأن شرارتها امتدت كالطوفان، فخطفت الأبصار، وأذهلت العقول، وحار في تفسيرها المفسرون.

ــ أجل يا أستاذ.

ــ أشاركك الرأي.

ــ تشاركني الرأي! لابد أن لديك ما تقوله إزاء هذه الحادثة المدهشة.

وعلى الفور ظهرت علامات الارتياح على المعلم، وأحس أن قيامه باسترجاع بعض انطباعاته التي سبقت حريق البوعزيزي يلبي ما يريده الطلاب، ويخرجه من الحرج الذي أوقعه فيه عنوان الدرس عاليه، وانطلق يسرد عليهم مقالة كان قد كتبها قبل أيام قلائل من اندلاع حريق الثورات العربية وهبوب نسائم التحرر والديمقراطية.

 قال المعلم:

قبل أسبوع واحد من أحداث تونس، وأنا أودع أحد أصدقائي بعد جلسة طويلة نغَّص حديث السياسة أولها، وكدَّر وسطها، وبعثر آخرها،  قلت لصديقي: إن ما يشغلني، بل وأخاف أن يفتنني، وربما يفتن الكثير غيري هو طول أمد أحوالنا السياسية ذات اللون الواحد، والوجوه المتكررة الدائمة، والخطاب المتكلس الممل، وامتداد ذلك كله ولعقود أصبح الأطفال خلالها شبابا وكهولا، والكهول مسنين وربما أمواتا.

ظنَّ صاحبي المتدين أنني ألمز إلى يأس الناس من استجابة دعائهم، وضجرهم من انتظارهم الطويل، وهم يحلمون بتغير الأحوال؛ فقال لي ناصحا: لابد لنا من الصبر، فالقدر له معادلاته وحساباته التي لا تأبه بحساباتنا ومعادلاتنا البسيطة الصغيرة، وهي كما تعلم مرتبطة بالسنن الكبرى التي يخضع لها الكون بأكمله.

ليس لي اعتراض على ذلك. أجبت صاحبي، ولكن الإنسان كما تعلم يا صديقي قصير العمر، قليل الصبر، بل إن معظم الناس، والشباب منهم على وجه الخصوص محدودي الثقافة والإلمام بأمور الدنيا والدين، وهم يستعجلون الحلول كما تعلم.

ثم أضفت: إن الذي يبدو من خارطة الأحداث وسيرتها أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي نعيشها لا يظهر في أفقها ما يشير إلى أي تغيير، اللهم إلا هذه الرتوش التي لا تعدو أن تكون عملية تقليم بسيط لشجرة الدكتاتورية والفساد المتغلغلة، والتي لا يزيدها هذا التقليم والتشذيب إلا ضربا لعروقها في الأرض، وامتدادا لفروعها في السماء.

لم يعقـِّب صاحبي على ما قلته إلا بهزة عمودية من رأسه، زادت شهيتي في الكلام، فقلت له متسائلا: بالله عليك كيف يمكنك إقناع ابنك الشاب الذي جاوز عمره ربع القرن، وأنت تسمعه نفس الاسطوانة التي تردد، وتعيد فيها بلا كلل ولا ملل بأن الذين ينجحون من الناس ويظهرون على من سواهم هم أولئك الصالحون الذين لا يكذبون ولا يرتشون ولا يقتلون الناس ظلما ولا يغتصبون مالا.  

لا يمكنك أن تقنعه بذلك وقد سبق له أن حفظ كلامك عن ظهر قلب عندما كان طفلا، ثم فهمه وحدث به أقرانه صبيا، ثم حلله وبدأ يبسطه على الواقع والمحيط الذي يعيشه شابا، فما وجد لما تقول من برهان، بل ربما وجد خلاف ذلك؟

كيف لك أن تقنعه بأن إماطة الأذى عن الطريق الذي دأبت على فعله طول عمرك، وقلدك هو فيه المرة تلو المرة، ولكنه كان  كلما أماط حجرة واحدة في طريقه وهو ذاهب، وجدها حجرات وهو راجع، وأن من يضع الأذى في الطريق هم حراس الطريق والمسئولون عنها.

كيف لك أن تقنعه بأن المواظبة على الدراسة وإحراز الدرجات والشهادات العلمية العليا هو الطريق الوحيد للنجاح، وهو يرى أن الكثير من الكسالى والفاشلين قد أصبحوا وجهاء مرموقين، لا لشيء إلا لأنهم ذهبوا في طريق غير الطريق السوي الذي دعوته أنت إليه.

كيف لك أن تقنعه بأن الموظف الناجح، والذي تختاره الحكومة وتدعمه وتبقيه في وظيفته، هو ذلك الموظف الأمين الذي لا يسرق ولا يرتشي ولا يستغل وظيفته بحال، ثم يرى أمين اللجنة الشعبية لمحلته وهو العضو في المثابة الثورية أيضا، لا يمنح ورقة ولا شهادة إلا بعد أن يقبض ثمنها جهارا نهارا، ولا يزيحه عن مكانه هذا أحد السنين الطوال.

كيف لك أن تقنعه بأن المستقبل أمامه زاهر، وقد يصبح يوما مديرا لشركة أو رئيسا لمؤسسة أو وزيرا أو غير ذلك من الوظائف المرموقة، وهو يرى أن هذه الوظيفة قد غيرت سلاسلها الجينية لتتلاءم وتتطابق مع ملامح السلاسل الجينية لبضع مئات من الأشخاص لا غير، وما عدا هؤلاء ليس لهم نصيب البتة في هذه الوظائف.

كيف لك أن تقنعه وأنتما في طريق عودتكما من قاعة المؤتمر الشعبي الأساسي بأنه مواطن حر وأن السلطة بيدك ويده، ثم ما يلبث أن يعلم أن السلطة الحقيقية قد استحوذ عليها ولعقود أولئك المطابقون لها جينيا، وأن حضور تلك المؤتمرات لا يعدو أن يكون طقوسا تؤدى ليحافظ ذلك الهيكل على قدسيته وقدسية كهنته.    

كيف لك أن تقنعه بأن الأيام دول، وهو يرى السنين بل العقود الطوال تمضي، ولم يتغير خلالها شيء، بل إن الأيام نفسها قد قامت بتوقيع عقد أبدي مع فئة قليلة من الناس خوَّلتهم بموجبه التحكم في رقاب من سواهم؛ فحددوا بذلك مصيرهم، وتصرفوا وتكلموا نيابة عنهم؛ تصرفا وكلاما لا يرضى به، ولا يقبله أي من أولئك المغبونين المقهورين.   

أفاق صاحبي من صمته الطويل، وكأن جرس الكلمتين الأخيرتين، المغبونين والمقهورين، المفزع هو الذي استله من سكوته الطويل، وقال لي: أعلم ذلك، ولكن ما العمل، فليس بمقدور أحد أن يغير واقعا استقر في عمق المكان، وهدهده حضن الزمان حتى غط في نوم عميق.

أجبته: ليس الخوف من أن يبقى هذا أو ذاك حاكما لمدة طويلة، وإنما الخوف من استقرار الباطل وديمومته حتى يصبح هو القاعدة، وما عداه هو الشذوذ، وتصبح إماطة الأذى عن الطريق عبث، والأمانة هوس، والتنافس الشريف دعاية سمجة، والرشوة دخل معترف به، والحق باطل والباطل حق.......الخ.

ردَّ علي صاحبي مستنكرا: كأنك تريد أن تقول أن دوام الباطل وطول حبله يزعزع ثقة الناس فيما يحملون من قيم ومثل؟

أجبته: نعم. هذا هو الذي أعنيه بالضبط. وأتمنى على الله أن يعجل بآية من آيته، تدعم ما بقي من رجاء في قلوب المنتظرين الضعفاء وأنا أولهم.

لم يمض على هذا الحديث سوى أسبوع، نزلت بعده من السماء شمعة البوعزيزي مصحوبة بصاعقة بن علي ومن بعده ماحقة مبارك ثم طامة القذافي.

قبل أسبوعين من هذا الحدث المشهود كان آل بن علي ملء السمع والبصر، ولا يمكن لأشد الناس تشاؤما بأن يتوقع ما حصل لآل بن علي، حتى أن فرنسا عاقبت سفيرها لدى تونس، وذلك لعدم علمه بالتنبؤات السياسية القدرية!

لم تسمح الصاعقة السريعة الماحقة لجهاز رئاسي متغلغل الجذور ممتد الفروع محليا وإقليميا ودوليا بأن يتمكن من حجز مكان على وجه الأرض الفسيحة ينام فيه رأس هذا الجهاز الذي كانت له الأرض كلها فراشا ومجلسا.

لم يتمكن فخامة الرئيس من نظم مجموعة كلمات، ولو وداعية، يعلم فيها من حوله بما هو مقدم عليه، أو إلى أي وجهة هو يتجه، وكأن معين الكلمات الذي استأثر به السنين الطوال قد نضب، ولسانه الطويل الذي طوق به حجج من سواه قد قطع.

لم يتمكن أحباء الرئيس الدكتاتور وأصدقاؤه، وقد صدمتهم المفاجأة، من نظم جملة واحدة في رثائه، ومن استيقظ منهم بعد عدة أيام لم يجد لسارق من حجة، ولا لمستبد من ذكرى.

في سويعات قليلة اهتز العرش المكين وتناثرت أجزاؤه. وفي سويعات قليلة تزلزل النظام المتين واضطربت أركانه. وفي سويعات قليلة تفسخ النظام وتلاشت حججه وسفهت مبادئه. وفي سويعات قليلة أصبح الخائف آمنا وصاحب الأمن ومانحه خائفا فزعا مرعوبا. وفي أيام قليلة أضحى الذي يتخذ البوليس الدولي مخلبا له يلتقط به طرائده، أكبر وأبرز وأسمن طريدة يمد إليها وحش البوليس الدولي أسنانه ومخالبه.

لم يجرؤ أحد رغم جلال هذا الحدث، بأن ينسب إلى نفسه ولو نزرا يسيرا من هذا الحدث، وذلك لا لشيء إلا لأن هذا الحدث هو بحق حدث سماوي، ومنة إلهية.

كما لن يتجرأ أحد بعد اليوم أن يتكأ على نشرات التنبؤات السياسية والاقتصادية، المحلية والدولية، أو ما يفتريه المخبرون عن الأمن المستتب ومؤشرات الرأي العام، وذلك لأن الصاعقة التي حلت بآل بن علي كانت قد قدمت من هناك. إنها من علٍ، ومن خالق بن علي.
    
          

رحم الله محمد البوعزيزي
 
شمعة السماء، لمحو ما في الأرض من ظلماء

ومنحة السماء، لدعم الرجاء

محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com