الثلاثاء، يوليو 31، 2012


شعرة معاوية، وشفشوفة القذافي

" لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها".

تلك هي شعرة معاوية التي أصبحت مثلا يضرب كلما ذكر الحاكم الحكيم، وولي الأمر الرشيد الحصيف!

ولكن شفشوفة القذافي التي نزعت عنه وقار الشيوخ، حتى كناه شعبه بها، فهي عرض لمرض نفسي عضال تمكن من القذافي، وأخذ يجبره على التمدد والاستطالة في كل اتجاه، ولو كان ذلك عن طريق ارتداء حذاء بقدم بالغ الارتفاع، أو بإطلاق العنان لشعر مجعد منكوش، أو حتى بلبس الواسع  الفضفاض من اللباس ذي الألوان المثيرة والأنماط الغريبة.

لم يكن القذافي كذلك في السنوات الأولى لحكمه، عندما كان يتردد علينا ونحن طلبة في الجامعة في أوائل السبعينات، وذلك لحشد الأنصار من الطلبة الصغار الأغرار. آنئذ لم يكن من الصعب رؤيته والحديث إليه، بل حدث ذات مرة أنه جلس على كرسي خشبي بسيط في مدخل أحد بيوت الطلبة الواقع على شارع رئيسي، يحي المارين بالشارع ويحيونه.

كان على قدر من الوسامة، عندما لم تكن له شفشوفة كالتي صنعها مؤخرا، وكان المادحون والمثنون عليه منا أكثر من منتقديه والقادحين فيه.

وبمجرد ما أطلق القذافي لشعر رأسه العنان، ولترهاته من كتب خضراء، ونظريات جوفاء خرقاء القياد، وما صاحب ذلك من تكلف وإجبار وعنف، حتى تلاشت تلك الصور الحسنة له، بل صار القذافي كابوس الليبيين، وصار لشفشوفته دورا أكبر من مجرد كونها فروة لرأسه!

تحولت كل شعرة من شفشوفة القذافي التي تحوي آلاف الشعرات إلى سلاسل وأغلال وأصفاد وسياط وخوازيق، وأخيرا إلى قذائف من نار وبارود مزق الأجساد وفقأ العيون وقطع الأوصال وشتت وشرد العباد.

خلت فروة رأس القذافي الكثيفة من شعرة واحدة كتلك التي لدى معاوية، فأدمن القذافي وضع السوط في المكان الذي يكفيه وضع اللسان فيه، ووضع سيفه حيث يجب أن يوضع سوطه، وشنق طلابا في العشرين من أعمارهم لم يفعلوا سوى ما فعل القذافي نفسه عندما كان في سنهم، من مثل قراءة كتاب فكري، أو إبداء ميول ما نحو فكر ما، أو غير ذلك من أفعال لابد وأن يمر بها كل شاب. ولو أن القذافي استبدل مهرجانات الشنق للطلبة في بداية الثمانينيات بجلسات حوار هادئة، ومناظرات فكرية هادفة، لنجاه ذلك من حمل دماء الأبرياء في عنقه، ولكفاه من عناء رد الرأس المقطوع إلى جسده، عندما يحمل ذلك الرأس صاحبه، ويطلب من قاطعه رده حيث كان!

ولكن أليس من التجني أن نعيِّر شخصا ما بطول شعر رأسه، بل ربما من التكلف المخل أن نربط بين طول شعر الحاكم وأفعاله!

لو لم يقم القذافي بالانقلاب العسكري، وظل ضابطا بالجيش الليبي، ثم لم يلتزم بقيافة الضباط أمثاله، وأطلق شعره، لما كان هذا الأمر يهمنا، وما كنا لنكتب عنه. ولكن القذافي أصبح رئيس دولة، وكل تصرف يقوم به يوضع تحت المجاهر الالكترونية لتقصي أي أثر من خلل فيه.

القذافي لم يعبأ بأي مجهر، فبمجرد تمكنه من الحكم، بدأت تظهر عليه علامات الاستخفاف بكل شيء، بداية من هندامه، وانتهاء بتصوراته وقراراته وأحكامه، بل استخف بقومه، وربما بالناس أجمعين.

شهق الليبيون شهقة الحياة بعد أزيد من أربعين عاما موتا إكلينيكيا، وصاحوا وهم بين إغماءة ووعي بعبارة: الشعب يريد تغيير النظام، وكان بإمكان القذافي أن يغير هذه العبارة، إلى عبارة: الشعب يريد إصلاح النظام، ولكن شفشوفة القذافي التي لا شعرة فيها كشعرة معاوية الحكيم، حركت في القذافي نزواته العدوانية الدفينة، فقابل الكلمة بالرصاصة، ورجح إسقاط ألف شعب على إسقاط حاكم واحد.

وبدل أن يتجه ابنه الشاب سيف إلى الشباب أمثاله الذين غصت بهم "الساحة الخضراء"، تسلل سيف إلى مبنى الإذاعة، وأخذ يصب النار على البنزين، حتى أحرق نفسه وأبيه، ودمر بلدا بكامله.

لو لم يشد القذافي الشعرة المشدودة المتوترة، لما وجد ساركوزي أو غيره مجالا لقص هذه الشعرة، ولما وجد برنار ليفي تلك المسارب الآمنة التي وفرتها له غابة شعر القذافي وشفشوفته الهائجة حتى وصل إلى خدر ليبيا.

تُرى هل يساعد استدعاؤنا المتأخر جدا لشعرة معاوية ومقارنتها بشفشوفة القذافي في إيقاظنا من غفلتنا الطويلة، ونحن نقاد من قبل شخص حوى دماغه من صنوف الحمق والعدوانية والعبث ما حوت شفشوفته من شعر متطاول معربد!

وهل يا ترانا ندرك أن الحاكم الذي كل شعرات فروة رأسه كشعرة معاوية، يختلف اختلافا تاما عن حاكم آخر يحمل شفشوفة كشفشوفة القذافي التي خلت من شعرة واحدة كشعرة معاوية.

محمد عبد الله الشيباني

الجمعة، يوليو 27، 2012


لن نتصالح قبل أن نعرف على أي شيء كنا نتناطح!

هل تناطحنا على حدود أرض؟
هل تفارقنا على فوارق عرق ولغة ودين؟
هل تقاتلنا على قسمة نقود؟
هل اختلفنا على اختلاف وجهات نظر في تنمية البلاد ومستقبل العباد؟

كلا. لم نختصم على أي من تلك الأشياء، رغم أهميتها!

إذن لماذا تخاصمنا حتى تقاتلنا وتشتتنا وتفرقنا قددا؟

أبسط إجابة يفهمها أقل الناس حظا من الذكاء، هي تلك التي تكمن في الإجابة على السؤال التالي:

ما هي أبرز وأعلى راية تم رفعها في ساحة الحرب الليبية الناعمة التي امتدت اثنين وأربعين عاما، وكذا في ساحة الحرب الخشنة التي دامت تسعة أشهر، وعندما سقطت هذه الراية بسقوط صاحبها يوم 20.10.2011 وقفت الحرب؟

الجواب بأبسط أشكال البساطة هو: صورة معمر القذافي!

وبكل ثقة في النفس أقول: إن هذا الجواب لا يعترض عليه أحد، حتى القذافي نفسه.

ولكن لماذا تطور الخلاف على صورة القذافي، حتى أدى إلى الحرب؟

لأن ما من شيء يختلف عليه الناس إلا ويكون قابلا للتفاوض عليه وتغيير مكان المتخاصمين على رقعته. وبمعنى أبسط يكون هذا الشيء قابلا للتني أو القص في المكان الذي يتفق عليه المتخاصمون. أما راية الحرب الليبية الليبية، والممثلة في صورة معمر القذافي، والتي تأجج الخلاف عليها حتى أضحى حربا، فإنها لا تقبل الطي، ولا تقبل القص، ولا تستوعب أنصاف الحلول!

لا أنصاف حلول إذن. ما هو دليلك؟

الفاتح أبدا.
معمر وبس.
وكثير كثير غير ذلك.

إن نتيجة هذا الحوار رغم بساطتها ومنطقيتها، لا زالت غير مقبولة من بعض الليبيين. لماذا؟

لأننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاحتكام إلى المنطق والقبول به. ذلك أن العامل النفسي من أهم عوائق التيار المنطقي.

الذين ركبوا سفينة القذافي وركنوا إليه واستفادوا منه، وهم قلة، فقد تفاعلوا نسيجيا معه وصاروا جزءا منه، ولا يمكن لهؤلاء أن يتخلصوا من جاذبيته إلا بتناقص كتلته وتلاشيها ماديا ومعنويا، وما يتبع هذا الحدث الجسيم من تغييرات خطيرة على كيانهم المعنوي والمادي، وليس لهم من مساعد على ذلك سوى الندم والزمن.

أما الكثرة الكاثرة من المحسوبين على المؤيدين، والذين كانوا في نظر القذافي مجرد صواري تحمل راية الحرب، صورة القذافي، فكانوا كالإبل العطشى التي تحمل الماء الثقيل نحو مكان تقاد جبرا إليه ولا تعرفه.

سوف يقبل هؤلاء بكونهم، في نظر القذافي، إبلا، إذا ما سمعوا ما قاله عوض حمزة، عضو مجلس الانقلاب العسكري، في شهادته عن القذافي عندما نقل عنه قوله: إن أعضاء مجلس قيادة الثورة لا يعدون عن كونهم مجموعة من الحمير أقلتني إلى مبنى الإذاعة كي أعلن البيان الأول!

حُقَّ لهذه الكثرة أن لا تستوعب الحدث، حدث موسم انهيار الطغاة العرب، وذلك إذا ما قارنا ذهول هؤلاء بذهول العالم كله مما حصل.

الذين يستبعدون العامل النفسي أدعوهم إلى قراءة هذه الجملة الأخيرة التي أختم بها هذه المقالة:

من أول ما قيل عن التدخل الدولي في الشأن الليبي، وربما أطرفه، قول أحد الكتاب الفرنسيين معلقا على قيام سلاح الجو الفرنسي بمهاجمة رتل محو بنغازي: يبدو أن الهرمونات الذكرية لدى ساركوزي زادت عن معدلها المعروف!

صورة، وعامل نفسي، وهرمونات. ما هذا الهراء الذي تقول أيها الكويتب الصائم؟

من عنده غير ذلك فليأت به، ولكن بشرط أن لا يصدع رؤوسنا بنظرية المؤامرة التي أفقدها الربيع العربي صلاحيتها!


محمد عبد الله الشيباني

الأربعاء، يوليو 25، 2012



ليس حبا في نبش سيرة شخص أفضى وما عمل إلى الله، ولكنها محاولات متواضعة لمسح غبار تراكم على أكفنا ووجوهنا، فنكر بعضنا بعضا، حتى قاتل بعضنا بعضا.

في مقالاتي السابقة التي تعرضت فيها لأمر المصالحة، والمقالة الأخيرة بالخصوص، والتي بعنوان" هل من طريقة أخرى لاستئصال الورم الخبيث"، ظن بعض القراء أن هدف المقالة هو مجرد النيل من القذافي ونظامه. كلا، فذلك أمر فرغنا منه، ومن المسف إطالة النبش فيه، ولكن الذي لم نفرغ منه بعد، هو إزالة ركام الدكتاتورية من أذهاننا فتصفو، ومسح غبارها من على عيوننا فتجلو، وغسل أكفنا ووجوهنا من أدرانها، فيعرف بعضنا بعضا، ويأنس بعضنا البعض.

أشياء كثيرة فرقت الليبيين البسطاء الطيبين، خلال الأعوام المشئومة الاثنين والأربعين من حكم القذافي.

آخر وأخطر هذه الأشياء هي الحرب التي أشعلها المتهم الوحيد نفسه صاحب السطوة، ومورث التركة، القذافي، وذلك ليس من أجل أشياء تهم الليبيين، في حاضرهم أو مستقبلهم، وإنما من أجل شيء واحد يهم صاحب السطوة وصاحب التركة نفسه، ولم يكن ذلك الشيء سوى كرسي القذافي، فقط لا غير!

الذين عاصروا حقبة القذافي كلها، وأنا أحدهم، يستطيعون بتنشيط بسيط لذاكرتهم أن يتيقنوا أن كل عناوين عمليات التنافر والانقسام والقطيعة التي دقت أسافينها في النسيج الليبي الرخو البسيط، كانت كل حروفها تكتب بمداد واحد لونه أخضر، وبأبجدية واحدة لا تتسع حروفها إلا لتمجيد شخص واحد ونظام واحد والدعاية له.

أجل، فنحن الليبيين، وخلال أربعة عقود، كنا ندمن التنافر والاختلاف حتى التشظى، وذلك ليس بسبب شيء يهم ليبيا وأبناءها، ولكن لأسباب تهم القذافي وكرسي القذافي، وعائلة القذافي!

أول مرة أشعر فيها شخصيا بحالة التنافر والتشظي تلك، وأتحسس فيها المجال الكهربي الصاعق لكرسي القذافي، رغم بعده المكاني عني، كانت في بداية السبعينات، عندما لاحظنا على بعض زملائنا في الجامعة المنضمين حديثا لرابطة الطلبة الوحدويين الناصريين العرب، والتي تخرج منها الرعيل الأول من الثورجيين السبتمبريين، بعض التغيرات.

أحد هؤلاء الزملاء الشباب، يلوح بيديه في أحد كافتيريات جامعة بنغازي، ويصيح: من لم يكن "فتحاويا" فليس منا!
كان ذلك في العام 1973.

أحدثت هذه الصيحة شرخا عميقا ابتلعت حفرته كل ما كان بيني وبين هذا الزميل من علاقة طيبة وود وثقة، ومن حينها صار زميلنا هذا في جانب، ونحن غير الفتحاويين في جانب آخر، حتى إذا مرت العقود من السنين، وجاء العام 2011، وإذا بالزميل نفسه، وقد ابيض كل شعره، يلوح بيديه مرة أخرى، ويصيح: معمر وبس!

سطوة القذافي ومجال كرسيه الصاعق هو الذي أغرى زميلنا البدوي البسيط، وهو في سني الشباب الأولى، حتى فعل بصيحته الصاعقة المدوية الأولى فينا ما فعل، وسطوة القذافي ومجال كرسيه هو الذي فتن زميلنا رغم شيبته، وجعله يرجح كرسي القذافي على مصير ستة ملايين ليبي، بمن فيهم زميلنا نفسه وأسرته المشتتة، وربما النازحة الآن!

كرسي القذافي هو الذي صنع شرخ 7 أبريل76، كما صنع كل الشروخ اللاحقة، والتي كان أوسعها وأعمقها الشرخ الذي قامت على جانبيه حرب الشهور التسعة بين إخوة الوطن والدين!

الحرب الليبية السابقة ليست قبلية، ولا عقائدية، ولا اقتصادية، ولا حتى سياسية، وإنما هي حرب كرسي، وشأن فردي عائلي محض خاص!

عجبا، كرسي واحد، يجلس عليه شخص واحد، ومن حوله بنوه الأثيرون لديه، فيحدث مجالا صاعقا تسقط في أتونه بلد، ويموت من أجله عشرات الألوف. حقا إنها لسطوة ساحرة فاتنة، وحقا إننا نحن الليبيين، لا سيما من لم يفهم الدرس بعد، لسذج بسطاء!

رَبُّ كرسي السماوات والأرض أغضبه ما فعلته كراسي المتألهين من طغاة البشر، فجعل لسقوطهم موسما وجنازة ومقبرة جماعية، وكان لسقوط كرسي القذافي بالذات صوتا مميزا، وأثرا ظاهرا محسوسا. أفلا يكفي هذا وحده لإعادة النظر في كرسي الساحر القذافي، وإزالة ما بين أعيننا وبين ذلك الكرسي من غبش؟

ولأن هذا الكرسي مميز، ولأن بعضنا لم يفلح في إزالة الغشاوة من على عينيه، فلم ينقطع مجال ذلك الكرسي الصاعق بانتهاء وجوده المادي، بل امتد أثر هذا المجال، وامتد شرخه حتى قسم الليبيين إلى شطرين، شطر مقيم في ساحة المعركة التي لا يزال دخانها يسمم المكان، وشطر آخر نازح يلاحقه في مكان نزوحه ما خلفه الكرسي ومجاله الصاعق من بأس شديد بين إخوة الدم والدين والوطن.

حقا إنه لوضع مخز أن يشطرنا كرسي، ويمزقنا هوى فرد واحد بسيط منا، ولا سبيل للخلاص من هذا الحال المخجل المحرج إلا بتعبئة شروخ تلك السطوة وندوب تلك التركة ببلسم المصارحة والمسامحة، الطريق الأقصر للمصالحة.

المصالحة عمل وجداني منبعه القلب، ورافداه المصارحة والمكاشفة من جهة، والعفو والمسامحة من الجهة الأخرى، ولابد أن الفريقين المتخاصمين، نازحين ومقيمين، يعلموا أن حيزا كبيرا من ساحة الخصام بين إخوة الوطن والدين، كان يملؤه كرسي القذافي، وأن هذا الحيز لا يملؤه الآن سوى هاجس نفسي باهت، ينفخ فيه المتورطون اليائسون الذين ليس من مصلحتهم التصالح بين أهل الوطن الواحد.

نفحات هذا الشهر الكريم الباعثة على التسامح والتصالح ونشر الود تملأ المكان، فلا تتجاهلوا فيضها؛ فتُحرموا فضلها.

أزيحوا الغشاوة من على عيونكم، تروا بعضكم أوضح!

محمد عبد الله الشيباني

الأحد، يوليو 22، 2012



لو لم يكن القذافي ونـظامه ورما خبيثا، لما كان أثر إزالته فعل بالجسم الليبي ما فعل.

لو كان القذافي حاكما عاديا بدرجة ورم حميد، لأفلح ابنه سيف، مثلا، باستنساخ حالة تولي أمير قطر الحالي السلطة، والتي سحبها بمنتهى الهدوء من أبيه غير الخبيث.

لو استنسخت ليبيا حالة قطر، وحدث التغيير الناعم، لكان ذلك مقنعا جدا للطرفين المختلفين الآن على ما جرى في ليبيا من تغيير عنيف مكلف.

فبالنسبة لثوار فبراير سوف يجدون في التغيير غير المكلف حلا معقولا، والذي يؤدي مع الوقت إلى حصولهم على ما يريدون من منتجات الديمقراطية المغرية التي حرموا من مجرد الاقتراب من نوافذ عرضها العمر كله.

أما بالنسبة لأنصار ثورة سبتمبر، وفي مقدمتهم رجال الحرس القديم، ورغم ما أبدوه من اعتراض ظاهر على دور سيف في محاولة تغيير ما أفسد أبيه، إلا أنهم سيجدون في ود ابن القائد لأبيه وربما لأصحاب أبيه ما ينزع خوفهم من التغيير الذي يحذرون، كتغيير فبراير مثلا.

الورم القذافي لم يكن ورما حميدا، دليل ذلك بقاؤه زمنا طويلا فاق زمن عشر دورات حكم، وذلك وفق التوقيت الحديث لأنظمة الحكم المعروفة المعاصرة.

ونظام القذافي لم يكن ورما حميدا، وذلك بدليل ما أظهرته ردة فعل القذافي تجاه ما حدث للأجسام الدكتاتورية المحيطة به، في تونس ومصر، حيث أنكر وبشدة أي اجتثاث لتلك السرطانات الدكتاتورية الشبيهة به.  يؤيد ذلك أيضا ردة فعله العنيفة السريعة والمخالفة تماما لردة فعل مجاوريه في تونس ومصر، وانتقاله فجأة من اللون الأزرق إلى اللون الأحمر المتوهج، واستعماله أسلحة وتكتيكات حروب نظامية في شوارع المدن وأزقة القرى ضد شعب ضعيف بسيط أعزل.

ويزيد تأكيد خبث الورم القذافي ما تكشف من أمر أشخاص حول القذافي، وما وثقه رجل مقرب من القذافي كعبد الرحمن شلقم، والذي بشهادته في القذافي ونظامه، جعل مما كنا نظنه مجرد شائعات وتكهنات حقائق دامغات، ووقائع مرعبات مذهلات.

نوري المسماري مدير مراسم القذافي، أزاح عن بعض حياء شلقم الستر، وكشف في جريدة الحياة ما عليه القذافي من شذوذ وفساد أخلاقي مخز يدفع على التأكد بأن القذافي لم يكن يمارس حكم وإدارة دولة، وإنما كان يمارس إشباع غرائزه ونزواته المنفلتة، وبنرجسية  دفعته إلى إيذاء أنثى مستسلمة له، حتى إدماء جسدها، ثم يعود ويبلسم تلك الجروح بمبلغ مائة ألف دولار من أموال الليبيين، وكثير غير ذلك!

بعدما أسقط القذافي الملك إدريس، فتح عليه ما استطاع من أبواق الذم والسب والشتم، لكنه رغم ذلك فشل في وضع إدريس في المرتبة المخزية المهينة التي وضع فيها القريبون من القذافي القذافي، وهو ما يؤكد حقيقة أن القذافي كان بحق ورما خبيثا ظاهرا خبثه.

ولكن لماذا اجترار هذا الكلام المكرر؟

لأن بعض الليبيين ساءتهم التكلفة الباهظة لاجتثاث الورم الخبيث، كما أن بعضهم الآخر لم تعجبهم الطريقة التي تم بها التغيير، وبعضهم الآخر أخذته الغيرة بسبب تدخل الآخرين في شؤوننا الداخلية، وطائفة أخرى رأوا أن بقاء الورم الخبيث في جسدنا عقودا أخرى أهون من تدخل جراح فرنسي أو إنجليزي أو يهودي لاستئصاله!

مشكلة هؤلاء أن معظمهم لا يريد أن يعلم بأن كل الأنظمة الدكتاتورية هي أورام خبيثة، وبأن القذافي ومن قبله صدام وزين العابدين وحسني مبارك وعلي صالح وبشار سوريا، وغيرهم، هم كلهم أورام خبيثة صعب أمر اجتثاثها بالطرق التقليدية، فتدخلت السماء، وجعلت لسقوطهم موسما حير العقول وأذهل الألباب.


الشيء الذي يؤكده الأطباء أن إزالة الورم الخبيث أمر لا مفر منه، كما يؤكدون على أن ما من ورم خبيث قد تم اقتلاعه إلا وصاحب عملية الاقتلاع هذه بعض الأذى للجسم المريض، والذي وبكل تأكيد سوف يتعافى بعد عملية انتزاع الورم الخبيث.

الصور الملتقطة لأجسامنا العربية وهي موبوءة بأورام السياسة الدكتاتورية الخبيثة لا زالت موجودة في الأذهان وموثقة ومنقوشة في كل مكان، كما أن الصور التي عليها أجسامنا بعد انتزاع أورامها الدكتاتورية بدأت ترسخ في الأذهان وتتجلى للعيان.

يكفي الجسم المصري تعافيا وتألقا أنه ولأول مرة منذ آلاف السنين يحكمه رجل من عامة الشعب، وليس نصف إله، وأن هذا الحاكم جاء إلى كرسي الحكم عبر وسيلة اقتراع شعبي، وعبر صوت انتخابي تساوى فيه المواطن المصري الذي لا يملك قوت يومه مع مالك المليارات، كما تساوى فيه أبناء الذوات مع بسطاء الناس وأقلهم مراتب ودرجات.

الجسم التونسي بعد استئصال الورم الدكتاتوري من أنسجته، تعافى مما كان معششا فيه من أخطبوط فساد ذهب مع ذهاب بن علي وزمرته، كما وتولي أمر حكم تونس رجل من عامة الشعب اختاره الشعب في ألق الضحى. 

أما الجسم الليبي فيكفيه تعافيا وتألقا خيبة ظن كل من حلم له الحلم الشين بالتصومل والعرقنة واستعمار فرنسا له، واستيلاء بريطانيا عليه، وتحكم قطر فيه، وغير ذلك من تكهنات رخيصة أخذها جميعها المؤتمر الوطني المنتخب ديمقراطيا وقذف بها في سلة المهملات مع بقايا الورم القذافي الخبيث المجثث والتصاقاته وتقيحاته وصديده المقزز.

حقا إنها كلها أنظمة دكتاتورية، وإنها كلها أورام خبيثة، لا خلاف على ذلك البتة، وإذا كان هناك خلافا، فهو فقط على طريق اجتثاث هذه الأورام.

  

محمد عبد الله الشيباني

الخميس، يوليو 19، 2012


كراسة مواصفات

ما من مهمة عظُم أو قلَّ شأنها، إلا ولها نطاق وعناصر معروفة محددة تتكون منها، كما ويغلفها وقت محسوب يجب إنجازها خلاله.

ولعل من أعظم المهام وأخطرها، هي تلك المتعلقة بالشأن العام، بدءا من إدارة مرفق بلدي فرعي، وانتهاء بإدارة أمر الدولة كلها. ويزيد هذه المهام أهمية وخطورة كونها جزء من كيان الدولة وسيادتها، ولا يمكن عرضها في سوق الأعمال التجارية المعروفة، أو إسنادها لمقاولين خواص. 

عند احتدام التنافس على تولي المناصب العامة، يغمرنا المتنافسون بمشاريعهم وخططهم الكثيرة، وكلما كان المتنافس واضحا في طرحه لخطته، ومقدما أفضل العروض لأداء مهمته، يكون أوفر حظا في الاستحواذ على أصوات الناخبين، ومن تم نجاحه في تولي المنصب المتقدم إليه.

الخطة التي يقدمها المترشح ويلتزم بها، مع ما يضاف إليها من ضوابط وشروط أخرى يضعها المختصون وأجهزة التخطيط والرقابة في الدولة، هي كلها مجتمعة تصلح لإعداد كراسة مواصفات المهمة العامة المعروضة، والتي تطرح بعد استيفاء كافة جوانبها في عطاء عام شفاف، يتقدم إليه كل من يأنس في نفسه الكفاءة، مدعوما بما يؤيد ذلك من أدلة.  

وعند رسو العطاء على أفضل المتنافسين، يقوم طرفا التعاقد بإبرام عقد الخدمة المطلوبة محل كراسة المواصفات، على أن يتضمن هذا العقد تفصيل أداء هذه الخدمة، ومدة إنجازها، وكذا تبعات الإخلال بأي من شروط هذه المهمة.

في عالم الأعمال التجارية من النادر أن يتجرأ مقاول غير ذي مقدرة، ويورط نفسه في مهمة يدرك مسبقا من خلال إطلاعه على كراسة مواصفاتها أنها أكبر منه، وأن احتمال نجاحه فيها ضئيل جدا.

إبان عصر سلطة الشعب سيئة الصيت وتصعيداتها المفضوحة، لم يكن أحدا يهاب أي وظيفة عامة، فتكالب الكثير منا على تولي هذه المهام، وكان ما كان من أمر الفشل الذريع الذي حققته أجهزة الدولة المختلفة. لم تكن لتلك المهام كراسة مواصفات محددة ودقيقة، كما كان الولاء للنظام السياسي القائم، هو أهم المؤهلات المطلوبة لأولئك المتقدمين لهذه الوظائف، والذين يغفر لهم مجرد انتمائهم القبلي، أو عضويتهم في مكتب اللجان الثورية كل تقصير يرتكبونه حيال المهمة المكلفون بها، مهما كان هذا التقصير.

كانت الوظائف العامة أبقارا تحلب ولا تأكل، وإذا ما نفقت تلك الأبقار، فإنها توارى بدون أية مصاريف في مقبرة التجربة الشعبية والنظرية العالمية ودولة الجماهير.

ذلك كان حال المهام العامة المتعلقة بحاجة المواطن العادي ومستقبله، أما المهام العامة ذات الطابع الأمني، فإنها تشبع دراسة وتمحيصا، وتوضع لها ألف كراسة مواصفات، كما أن المقصر في أدائها يناله أضعاف ما ينال غيره من المقصرين في غذاء أفراد المجتمع وصحتهم وسكنهم وتعليمهم.

عندما علمت بأن عدة آلاف من الليبيين تقدموا للترشح للمؤتمر الوطني، ورأيت تنافسهم المحموم على مجرد مائتين من المقاعد، والتي يتربع على كل مقعد منها جبل من المسئوليات العظام التي تنتظر العضو الذي يقوده قدره إلى هذا المكان. عندما علمت ذلك تيقنت بأن أبقار التصعيد وأثدائها الموسوقة لبنا، لا زالت في أذهان الكثير من المترشحين للمؤتمر الوطني.

هذه الصورة سوف تختلف بالكامل، كما أن هؤلاء الآلاف الذين تسابقوا على الترشح سوف يتقلصون إلى مئات، وذلك عندما توضع كراسة مواصفات لكل مهمة على حدة، ويوضع إلى جوارها كأس ذهبي ومفتاح زنزانة.


أتاحت لنا تقنيات العصر من نظم إدارة وحواسيب ووسائل اتصالات الكثير من التسهيلات التي تمكننا من إعداد كراسة مواصفات المهام الحكومية العامة ومتابعتها وتقييم أداء حامليها يوما بيوم.

عند توفر كراسة مواصفات كل مهمة من المهام العامة، وشيوع ثقافة مقاولة منضبطة، وسياسة إدارة عطاءات شفافة ومحكمة، واعتماد المبدأ الذهبي "1+1=2" في كل شأن من شئوننا العامة، يتلاشى ذلك الشعور المرضي بحب الظهور، والصراع على الكراسي، بل ربما اضطرت الحكومة إلى منح حوافز وإغراءات من أجل حث المواطنين على التقدم لهذه الوظائف.

كراسة المواصفات لكل مهمة ووظيفة عامة من شأنها أن تكبح الشعور القبلي المنفلت الذي نعاني منه، وبدل أن تدفع القبيلة بمن هب ودب من أفرادها للاستحواذ على الوظائف العامة، تقوم القبيلة بتأهيل أبنائها القادرين على المنافسة، فينشأ عند ذلك الفرد وقبيلته الشعور بضرورة بناء الموظف القادر على المنافسة، المحافظ على سمعته وسمعة قبيلته، وسوف يختفي إلى الأبد التكتل القبلي المخزي، والذي غايته هو منح الأصوات لابن القبيلة أيا كان حاله.

سوف تتنافس المدن والقبائل على إعداد أبنائها القادرين على تولي الوظائف العامة، تماما كما تتنافس على إعداد فريقها الرياضي، وذلك لنيل كأس الفوز على ما سواها من قبائل.

لا يمكن لخطط التنمية والتطوير العملاقة أن تنجح ما لم يتكون بناؤها الضخم من لبنات من مهام محددة منتظمة متراكبة خالية من أي فراغ يسببه تقصير موظف غير مؤهل أو غير مبال يترأس مهمة من المهام التي تحويها خطة التنمية تلك.

أتمنى على أعضاء المؤتمر الوطني، وكذا أعضاء الحكومة القادمة، أن يحاولوا إيلاء هذه الفكرة  اهتمامهم، وهي خطوة أقل حسناتها هو كبح جماح المتزاحمين على الترشح مستقبلا، ذلك التزاحم الذي جعل من بعض الأكفاء منا النأي بأنفسهم عن الازدحام حيث لا يليق الازدحام.

محمد عبد الله الشيباني









الاثنين، يوليو 16، 2012


                           " 1+1=2 "

حاكمنا السابق حطم الرقم القياسي في تحطيم المعادلة المنطقية عاليه، 1+1=2. ولأن عقولنا مبرمجة منطقيا، فلابد أن ينالها شيء من ذلك التحطيم، وفعلا تحطمت عقولنا، وتلاشت المادة المعنوية الراشدة فيها، فاختلت تبعا لذلك مؤشراتها ومجساتها، ثم تبعثرت وتصادمت كتلتها المادية، وأضحت جماجمنا، قوام هاماتنا، وتيجان أجسامنا، عظاما مكدسة، تضمها مقبرة جماعية كبيرة، جنبا إلى جنب مع أحلامنا  وآمالنا المغدورة التي اغتالها اللامنطق في ريعان شبابها، ثم غلف كل هذا الحطام كفن من وقت مهدور، جاوز عقودا أربعة من الزمن الثمين.

مكتوب على شاهد هذه المقبرة الجماعية: هنا يرقد  ضحايا المنطق والأصول!

وفي مكان ليس ببعيد من هذه المقبرة، توجد أيضا مقبرة جماعية أخرى، تضم أيضا عقولا وجماجم وآمالا وأحلاما وزمنا مهدورا لفريق آخر من نفس مواطني البلد، الموجودين على الجهة الأخرى المعاكسة، والذين، ولأسباب غير معروفة، تخلل إلى خلاياهم الراشدة فيروس ضار اضطربت بسببه المعالجات المنطقية الفطرية لديهم، حتى بدا لهم كل صاحب سلطة ومال، مهما كان سوء عمله، جدير بالطاعة المطلقة، ولو أمر باللامنطق واللامعقول واللامشروع، فنتج عن ذلك سفك دم، وهتك عرض، وإهلاك حرث، وحرق عمر!

الغريب في الأمر أن العبارة المكتوبة على شاهد هذه المقبرة الثانية، هي نفس العبارة المكتوبة على شاهد المقبرة الأولى: "هنا يرقد ضحايا المنطق والأصول"!

ليس ثمة من فارق بين الفريقين إلا في مدى استيعاب كل منهما للمعادلة المنطقية البسيطة: 1+1=2!

سلام على أهل المقبرتين، ونسأل الله أن يرحم الجميع.

 ــ ولكن هل حقا أن الذي حفر هاتين المقبرتين، هو مجرد اختلاف الفريقين حول المعادلة البسيطة:1+1+2؟

ــ أجل.

ــ كيف؟

ــ لنبدأ بآخر وأوضح جزء في المشكلة، أو قل التراجيديا الليبية. ألم تنشب الحرب الليبية السابقة عندما أراد القذافي أن يجبرنا على أنه وأفراد عائلته الصغيرة الذين لا يجاوزون عشرة أفراد، هم أهم وأكبر قدرا وقيمة من ستة ملايين ونصف المليون ليبي؟ وهذا ليس منطقيا على الإطلاق!

ذلك كان الخرق الأكبر والأخير للمعادلة المذكورة، أما الخروقات الكثيرة السابقة، فقد أدمنها ساسة النظام العسكري الدكتاتوري منذ خروجهم في عتمة ليل، ليأخذوا بخناق شمس الوطن، ويحجروا على ضوئها، فلا يسمحون لنورها بالسطوع إلا على قدر شقوق أعينهم الضيقة الكليلة العمشاء.

ولئن كان موقف الساسة السابقين مع المعادلة المنطقية1+1=2، هو الذي سبب في وجود المقبرتين المرعبتين، وسبب أيضا في تأخر الليبيين وخسارتهم، إلا أن عامة الليبيين وهم يمارسون شأنهم الخاص لم يكونوا كذلك.

المواطن الليبي البسيط على قدر معقول من الذكاء والرشد والحكمة والأخلاق والدين، وهذه كلها روافد التيار المنطقي الذي تسير في اتجاهه حياتهم الخاصة التي لم يصبها ما أصاب شأن الوطن العام، والذي كان يسير في غير ذلك الاتجاه.

أعرف أشخاصا بسطاء، لم يتخرجوا من جامعات، ولم يطلعوا على فلسفات، ولم يرهقوا عقولهم بالدروس الصعبة، ولا المعادلات المعقدة، واقتصروا فقط على الإلمام وفهم وإدراك واحترام المعادلة الحسابية البسيطة المذكورة، ثم دخلوا بهذا المؤهل الوحيد عالم المال والأعمال، فبزوا حملة الشهائد العليا في التجارة، كما ولجوا عالم السياسة، فنجحوا فيه أيما نجاح، وحققوا ما لم يحققه المتقعرين المتفلسفين المنظرين!

ليس بعيدا عن ذاكرتنا مؤسس دولة الإمارات، زايد بن سلطان العربي البدوي البسيط الذي أذهلت سياسته المعتمدة على المعادلة البسيطة 1+1=2 العالم كله.

وليس بعيدا عن ذاكرتنا أيضا محطمي دولة العراق وليبيا، صدام والقذافي، اللذين أذهلا العالم بسياستهما اللامنطقية واللامعقولة، والتي جعلت من دولهم وشعوبهم المثل الأبرز لضحايا الساسة المتعالين عن الحق الموغلين في اللاشرعية الراسبين في فصل سنة أولى منطق ومادته الأساسية، 1+1=2!

هذه المعادلة بقالبها الحسابي التجاري البسيط تجد نفسها أكثر، حيث تتواجد حاجات الناس الأساسية، من غذاء وصحة وتعليم وبنية تحتية، وكافة صنوف العمران، وفي هذا المجال بالذات يقل الاختلاف في تطبيق هذه المعادلة، وربما ينعدم، ويمكن للسياسي بكل سهولة إعداد خططه وتنفيذها دونما خوف من فشل أو هزيمة.

وبمجرد إقحام هذه المعادلة في متاهات الأيديولوجيا والفلسفة السياسية، تراها تنكمش، ويعتريها الوهن، وتحيط بها الشبهات، بل ربما صارت جريمة يحاكم من يتكلم عنها بتهمة الخيانة العظمى!

نحن الليبيين لنا ثأر مع كل من أهدر إمكانياتنا، وهو يلوح بنظريات أيديولوجية، أو صفقات سياسية، ويهدر جراءها الأوقات والأموال وحتى الأرواح، وسوف ننكر كل من يدفعنا على السير في طريق اللاجدوى، واللامنطق، واللاربح، ولو دغدغ مشاعرنا بشتى أنواع المغريات فاقدة الصلاحية.

هذه المعادلة 1+1=2، وقبل أن تسمح لنا بالتطبيق الجزئي لقوانينها، تجبرنا في البداية على تطبيق مبدأها الكلي الذهبي الذي يقضي بضرورة الأخذ بالأولويات في إدارة المشكلات.


للأسف، وبناء على ما نراه من تكلف ظاهر في الاصطفاف الأيديولوجي لدى ساستنا والظاهرين منا، فإننا بهذا نضرب بهذه المعادلة الذهبية عرض الحائط، ونعيد بذلك ذكريات أليمة لأفعال سقيمة، أساسها الإسهال الأيديولوجي المقزز الذي يناقض ويصادم، بل ويعدم أي دور لمبادئ الأصول، وقواعد المنطق.

نحن في ليبيا، وإذ نضع أقدامنا على المتر رقم واحد في رحلة الألف ميل، لفي أشد الحاجة للاستنارة بهذه المعادلة، بل ووضعها مادة في دستورنا، وحجرة أساس في بناء دولتنا، وقبل هذا وذاك وضع هذه المعادلة في قلب دماغنا، وفي مركز تفكيرنا.  

محمد عبد الله الشيباني

السبت، يوليو 14، 2012



نعوش آخر موديل، وأيضا فُلْ أبشن. إنه معلم سياحي ليبي بامتياز!

منذ سنوات طويلة لم تقدني قدماي، ولم تدفعني حاجتي إلى الذهاب إلى مستودع السيارات المعروضة للبيع قطعا، أو "الريبش".

كنت إلى جوار صديقي الذي يقود السيارة في منطقة بو سليم، وكنت أتابع باهتمام الصفوف الطويلة للسيارات المعروضة على طول الطريق، ولمئات الأمتار، والتي بدت لي جديدة،  فقلت متعجبا: ما أكثر معارض السيارات الجديدة هنا في بو سليم. رد علي صديقي منبها: كلا هذه ليست معارض سيارات جديدة، ولكنها مقابر سيارات مغدورة؛ فكل هذه الصفوف من السيارات الحديثة الموديل التي ترى، هي سيارات خردة، وذلك لتعرضها لحوادث سير جسيمة.

في آخر زيارة لي لهذا المكان، منذ أكثر من خمس سنوات، لم تكن السيارات الخردة على هذه الحالة من الجدة، بل لم تكن تشكل السيارات الجديدة إلا نسبة ضئيلة من السيارات المخردة.

المشهد الذي أدهشني وصدمني أن معظم السيارات المخردة هي سيارات حديثة جديدة، ومن ذوات الأسعار الباهظة، كما أن إصابة معظم هذه السيارات كانت من جهتها الأمامية، وبما يشير إلى أن سائقي هذه السيارات كانوا هم أصحاب المبادرة في كل ما لحق بهذه السيارات من أذى.

وبرغم الحزن الذي تركه في نفسي مشهد الكميات الهائلة من هذه السيارات الحديثة المخردة، إلا أنني وجدت في هذا المشهد البليغ الإجابة الكافية الوافية لآلاف الأسئلة التي تصدمني وأنا أشاهد بحسرة وألم بالغين ما عليه سلوك سائقي السيارات من تهور وعدوانية واستهتار، وخاصة أولئك حديثي السن منهم!

المتهور، والعدواني، والمستهتر، وهو يمشي على قدميه، لا يشكل خطرا بالقدر الذي يشكله وهو يمتطي ظهر ثلاثين حصانا آليا، علفهم النار والبنزين، وصدورهم ورؤوسهم مصنوعة من الحديد الصلب المتين.

لو وضعنا في أي حاسب آلي المعلومات البسيطة التالية: شخص صغير السن + متهور + عدواني + مستخف بالقانون + محتقر شأن من حوله، ويمتطي ظهر كتلة من فولاذ ذات وقود ناري وسرعة مذهلة. ترى ما ذا ستكون مخرجات هذا الحاسب.

سيخرج لنا الحاسب مخرجات كثيرة خطيرة، وإحدى هذه المخرجات، هي آلاف النعوش الحديثة الموديل، والمكدسة في ريبش بو سليم، وفي أمكنة أخرى كثيرة!

كل إنسان خطاء، والخطأ طريدة النصيحة، تلحق به أينما كان، وتقطع دابره، فيصير المتهور والعدواني والمستهتر القابل للنصيحة إنسانا سويا.

أما مخطئونا الكثيرون الذين يعربدون في شوارعنا، فالأمر معهم ليس بهذه السهولة، إنهم يخطئون ويقصدون ويدمنون الخطأ، وفوق هذا يجبرون الآخرين على التصفيق لهم، وإن لم تطاوع  هؤلاء أيديهم على التصفيق، فليس أمامهم إلا إسبالها، وطأطأة رؤوسهم، مسرين بحوقلة الصابر الذليل!

الحال الذي عليه سلوك الكثيرين منا، وهم يقودون السيارات في منتهى السوء، وإن لم تتكاتف الجهود من أجل إصلاح هذا السلوك وترشيد السائقين، ووضع ضوابط صارمة للمخالفين، فإن نزيف الدم سيزداد تدفقا، كما أن ليبيا ستكون الملاذ العالمي الأكبر للسيارات الحديثة الراغبة في الانتحار، والتي لن تقوم وحدها بهذه العملية المثيرة، ولكنها ستأخذ معها قائديها من أبطال هذه اللعبة، والذين حصدوا جوائز عالمية لم ينافسهم عليها أحد حتى الآن.

أجل لدينا في بو سليم معلم سياحي نادر!
ولدينا أيضا معالم حزن كثيرة في المقابر!

محمد عبد الله الشيباني

الأربعاء، يوليو 11، 2012


لنتواضع، وننزل من أبراج السياسة والخطابة، إلى أكياس الترابة!

نغص علينا الكلام في السياسة حياتنا خلال الحكم الدكتاتوري السابق، حيث لم أشهد مجلسا إلا والكلام في السياسة لون معظمه، وهو كلام في جله غير مفيد، لكونه لا يضيف جديدا ثقافيا للحاضرين، ولا يمد ذراعا من أجل الإصلاح والتغيير.

المتكلمون في السياسة من الليبيين سواء إبان حكم الدكتاتور السابق، أو بعد الثورة عليه، يتساوون بشكل أو بآخر مع المتكلمين في الرياضة، والذين، ومهما احتدم الجدل بينهم، لا يخرجون بأي اتفاق أو تقارب حول وجهات نظرهم المتباينة التي انعقد لأجلها المجلس.

مجلس السياسة، ومجلس الرياضة، يشبه كل منهما  مجلس لعبة الورق؛ يتحلق لاعبو الورق، ويبذلون أقصى الجهود من أجل بعثرة محتويات رزمة الورق، ثم يبذلون جهدا أكبر في ترتيب ما بعثروا، وهكذا دواليك؛ "كالتي نقضت غزلها أنكاثا"!

الترابة، أو الاسمنت سلعة إستراتيجية هامة، لاسيما ونحن محتاجون الآن، وبإلحاح، إلى ترميم ما تهدم وتكسر، وتشييد ما تباطأ وتأخر.

أحد المنتفعين من انهماكنا في مجالس الثرثرة السياسية، والثرثرة الرياضية، والذي يسمي نفسه زورا تاجرا، يقوم بشراء كميات كبيرة من الاسمنت بسعر المصنع البالغ حوالي تسعة دنانير للقنطار، ثم ينتظر بعض الوقت، ويبيع ما اشتراه بسبعة عشر دينارا للقنطار، وبنسبة ربح تضارع ثمانين بالمائة، وذلك مقابل إيداع نقوده خزينة مصنع الاسمنت لمدة عام أو بعض العام، لا أكثر ولا أقل!

سألت عن سبب ذلك، فقال لي مجيبي ببساطة: لو أن مصنع الاتحاد، مثلا، يشتغل بكامل طاقته التي بدأ بها، وهي عدد أربعمائة سيارة في اليوم، لانتفى هذا الفارق بين سعر السوق وسعر المصنع.

مصنع الاتحاد، الآن، يشتغل بطاقة أقل من مائة سيارة باليوم، وربما هو نفس الحال الذي عليه باقي المصانع!

لماذا؟

لو كررتَ هذا السؤال ألف مرة، فلن تجد من يجيبك.

لماذا؟

لأننا لسنا مشغولين بالترابة. نحن منهمكون في الرياضة، والسياسة، والخطابة!!!!!

محمد عبد الله الشيباني