الثلاثاء، أغسطس 27، 2013

ماركة تمرد

ماركة "تمرد" الشهيرة، ومساهمتها في الناتج القومي الإجمالي  لدول الربيع العربي!

يتكون الناتج القومي لأي دولة من محصلة صنوف الفعاليات الإيجابية المفيدة لأفراد هذه الدولة. أما الفعاليات المضادة الضارة فتبدأ من الحالة السلبية البسيطة التي يكون الفرد فيها عالة على غيره بسبب قصوره الطبيعي المبرر، وتنتهي بحالة تحول الفرد إلى قوة سالبة معاكسة لحركة المجتمع ومهدرة لإمكانياته؛ وهذا بالضبط ما تمارسه حركات تمرد الربيع العربي الرائجة منتجاتها حاليا، وذلك مهما بالغ مروجوها في ماكياجها.

ثورات الربيع العربي أزالت جليد العصور من على جسمنا المتيبس سياسيا، وبعثت الروح في أوصاله وأطرافه السياسية المتخدرة، إلا أن هذه الثورات فشلت في ضبط وتنظيم حركة أوصال هذا الجسد وأطرافه، فانطلقت هذه الأطراف بشكل عفوي منفلت، ضاربة ذات اليمين وذات الشمال، متحررة من كل رادع، متعالية عن كل حسيب ورقيب، ومسجلة بذلك أرقاما ومؤشرات سياسية واقتصادية واجتماعية موغلة في السلبية!
الحركة العاطفية السياسية الهوجاء المتمردة على ضوابط المنطق والأصول وقوانين الأشياء، وإن دغدغت فينا بعض المشاعر الفطرية المتولدة من نشوة انتصارنا في حرب انتزاع حريتنا، إلا أن هذه الدغدغة اللذيذة المغرية سرعان ما تحولت أصابعها الناعمة إلى سكاكين حادة، خلَّفت جروحا غائرة، ودماء نازفة، أرهقت جسدنا، حتى شارف على الموت أو يكاد.

منتجات الرفض والشك في الآخر بماركتها المصرية الشهيرة "تمرد"، برع المصريون أيما براعة في إبداعها وتسويقها؛ فعلى مدى العام من حكم رئيس منتخب ديمقراطيا، سيَّر فريق تمرد حملات ترويج مليونية شهرية لمنتجهم الوحيد: الرفض والتمرد، والذي ليس له من هدف سوى إسقاط الحكومات وتفكيكها ثم إعادة تركيبها مرة أخرى، وذلك بغض النظر عما يترتب عن هذا العمل من آثار سلبية بحجم الجبال بالاقتصاد والأمن وكل فعاليات الدولة. وبعد محاولات رفضية تمردية كثيرة تمكن فريق تمرد المصري من الوصول إلى الهدف، واستطاع إسقاط الحكومة وتفكيكها، ولكن هذه المرة بطريقة جديدة مبتكرة؛ انقلاب عسكري ديجيتال موديل 2013 !!

شباب تمرد مارسوا لعبتهم وتمردهم الكارنفالي الأخير بنكهة التمرد اللذيذ على الطغيان إبان ثورة يناير، ولم يكن أي منهم يتصور ما طرأ على هذه النكهة أخيرا من تغير مرعب، عندما ملأت المكان رائحة اللحم الآدمي المشوي الذي عم شوارع وميادين القاهرة الحالمة المسالمة. لم يكن شباب تمرد يتصورون أن احتفالية انتصارهم بنجاح منتج التمرد الفالصو 2013 سيكون تجمعا جنائزيا يقومون خلاله بالتقاط أشلاء رفاق التمرد المقدس 2011!!. لم يكن شباب تمرد يتصورون أن أداة التغيير السياسية الناعمة التي بأيديهم سينتزعها منهم دهاقنة الجنرالات، ويضعون بدلا منها أدوات حروب الأعداء ليُعمِلوها في أجساد الأحباب والأصدقاء، وبالمبرر الشهير، التفويض؛ ذلك التفويض الفضفاض الذي وقع عليه شباب تمرد وآخرون مغرر بهم!! ليس لدي أدنى شك في أن الجنرال الذي غرر بالشعب وانتزع منه ذلك التفويض المغشوش، لا يجرؤ الآن على إعادة لعبته المرعبة، والدعوة لتأكيد ذلك التفويض والموافقة على نتائجه، وجمع مليون مفوض فقط بدلا من 33 مليون المدعاة!

فريق حركة تمرد التونسية، المولود الخداج لحركة تمرد المصرية، رأيناهم تلامذة فاشلين يقلدون ما يقوم به نظراؤهم المصريون، ويضعون في أوراق إجابتهم ما تسترقه أعينهم وآذانهم من شعارات وهتافات ومطالب ونداءات تمرد المصرية، مكررين بدون ملل ولا كلل ذلك المطلب الساذج الممجوج: الشعب يريد إسقاط النظام!

أما التمرد الليبي فحدث ولا حرج، ذلك أنه لا يمر يوم إلا ويقوم فريق تمرد الليبي الفج بوضع عصاياه الكثيرة في عجلات قطار بناء الدولة، مكررا مطلبه الدائم بإسقاط الحكومة والبرلمان المنتخبين، بل وفي أحيان كثيرة يعزز هؤلاء المطالبون مطالبهم ببنادقهم وقنابلهم!
 
لم تصدق حركة تمرد الربيع العربي المريبة، وهي تبدع وتسوق منتجها الفائق الأداء الواسع الانتشار، "تمرد"، أكثر من صدقها في اختيار اسم منتجها المريع؛ تمرد، وذلك لما يحمله هذا الاسم من فوضوية وشذوذ وانفلات!

اسم تمرد، وإن تم إطلاقه قبل بضعة شهور على حركة التمرد المصرية المعروفة، إلا أنه كفعل بدأ مبكرا وبمجرد تفتح أزهار وورود الربيع العربي الذي طال انتظاره، حيث مارس الكثير منا الرفض لأسباب واهية، وأدمنا الانتقاص من شأن من انتخبناهم وفق قوانين لعبة الديمقراطية التي توافقنا عليها، وصرنا بدافع نفسي خبيث ننقض بناء دولتنا ونخاطر بمستقبلنا ونلعب بالأمانة الغالية التي حمَّلنا إياها شهداء الثورة على الظلم والاستبداد.

ليس من ترف التفكير إذا اعتبرنا ان الحالة التي عليها دعاة التمرد وإدمان عادة الفك والتركيب السياسي العبثي، هي حالة نفسية غير سوية تتغذى من حالة الثورة التي مارسناها بدون ترتيب وتنظيم وتأهيل مسبق، وتعاملنا مع نتائجها أيضا بدون ضوابط ومعايير معروفة ومعترف بها. إن حالة الفوضى التي عمت تصرفاتنا تسللت بسرعة إلى نفوسنا وضمائرنا، فحرَّفت معاييرها ومقاييسها التي كانت عليها. ذلك أن الذي نضربه الآن بأرجلنا من نظام ديمقراطي وحرية تعبير وحكام منتخبين، كان قبل أمد قصير من أحلى أمانينا وأغلاها. روح البذل والعطاء والإيثار التي كانت تغمرنا إبان الثورة تخللها بعد نجاح الثورة طمعنا المخزي وشكنا الساذج، وحوَّلها إلى نزعات حسد وأثرة وبغض، وربما تخوين! أليس الانقلاب السريع في المواقف، والإفراط في الحب والكره من الأمراض النفسية الخطيرة؟!

خلاصة الأمر أن مهرجانات التمرد ومليونيات تعطيل مسيرة القطار الديمقراطي أنتجت لنا خلال العامين الماضيين من عمر الربيع العربي جبالا من الخسائر أهدرت ما ينتجه المجتمع من ناتج قومي، وحولت مؤشراته الإيجابية الخضراء الواعدة إلى محاذير حمراء مرعبة!

لابد من وضع دائرة حمراء متوهجة على كل حالات مرضى التمرد، وإن تزي أصحابها بأثواب القديسين!  

التهمة جاهزة: الكاتب من الإخوان المسلمين! لست من الإخوان المسلمين، ولكنني من أنصار الحق المبين.

محمد عبد الله الشيباني



الأحد، أغسطس 25، 2013

دراما مصرية

دراما مصرية 2013؛ الدكتاتور البريء، والشعب الشقي!

سطِّـَّر قلم الواقع في مصر هذه الأيام ما عجزت عن تسطيره كل أقلام دراما الخيال، وحبك هذا القلم من عقد دراما الواقع ما لم يستطع حبكه أساطين الرواية وجهابذة قصص الخيال على مر العصور!

وكلما أجاد صانع الدراما في حبك عقده الدرامية، كلما تطلب منه ذلك صنع جو وبيئة افتراضية شاهقة العلو، يأخذ إليها كل من يربطهم بخيوطه الملتوية، ويعلقهم بحباله المتداخلة. ثم يقوم هذا البهلوان وبشكل مفاجئ بقطع جميع تلك الخيوط والحبال، ليقذف بالعيون المعلقة والأفئدة المشدودة من أعلى ذروة الحدث إلى عمق قاعه، موقعا ضحاياه في دوامة ذهنية، تفعل في ذهنهم أكثر بكثير مما تفعله أصابع الكيمياء في دروب المخ وسراديبه!

حالة نجاح الثورة على الظلم والاستبداد والطغيان صبغت عقولنا بكيمياء الانتصار، وحقنت أفئدتنا بصنوف منشطات ومدغدغات الوعي ومبهجاته، وحلقت بنا واقعا لا خيالا في ذرى الحرية، وأروت رئاتنا بأنقى وأصفى نسائم الانعتاق، ووضعتنا حيث كنا نحلم أن نكون؛ وفجأة اضطربت الكيمياء، وتعطلت قوانينها، وانقطع سيل الانتصار، وجف معين البهجة، محدثا ذلك اضطرابا كونيا عكس حركة الأرض، وأعاد عقارب الساعة إلى الوراء، وأخرج الديناصورات المنقرضة، وبعث الروح في مومياء الفرعون، وامتلأت الشوارع والميادين والإذاعات والمكاتب بكائنات عتيقة، وصارت أيدي الناس وألسنتها تزيل الصدأ والتراب عن أشياء وعبارات وإيقاعات مقبورة بائدة أخذت تستعملها وترددها بطريقة لا تُخفي ما لحق بهذه الأيدي والألسن من مسخ وإجبار واضطرار!

الفراعنة الاستبداديون صاروا أباء الحرية وبُناتها! الجنرالات الانقلابيون الدمويون المتسمرون على كراسيهم الذين لا يتحولون حتى تحولهم عوامل البيئة وأصابع الزمن، صاروا هم رعاة الديمقراطية والأمناء عليها! غزة المحاصرة من قِبل صناع الإرهاب تتحول بين يوم وليلة إلى صانعة إرهاب، وتُقطع بدون أي مبرر كل شرايين الحياة الواصلة بينها وبين مصدر حياتها الوحيد؛ مصر! شركاء الوطن والثورة على الدكتاتورية يتحولون إلى غزاة ودخلاء لا سبيل أمامهم إلا سبيل الفرار أو الاستئصال! الجيش المصري يقتل الشعب المصري! أمن دولة حانق مغتاظ يعود إلى موبقاته القديمة التي استتيب وتاب منها توبة نصوحا! مبارك المُجرَّم بشرعية ثورة يناير، تعتذر منه ثورة يونيو! الحكام المنتخبون يُسجنون، ويتولى الحكم حكام لا يعرفهم أحد، ولم ينتخبهم أحد! أناشيد وإيقاعات ديمقراطية تملأ المكان، وفجأة يغص قائلها بها، ويلوذ بالفرار خوف القبض عليه متلبسا بجرم الديمقراطية! ..... الخ.

ولكن كل ذلك هين أمام الطامة الكبرى والنكبة العظمى: مواجهة الشعب بعضه بعضا، وتجريم الشعب بعضه بعضا!

الدراما المصرية التي تدور أحداثها الآن على كامل أرض مصر، وربما تمتد إلى الأراضي المجاورة، لم تتشكل عقدتها الدرامية المثيرة جراء خطأ إجرائي بسيط، بل تشكلت بفعل خطأ سياسي جسيم أسقط لعبة الديمقراطية وقوانينها، وأسقط مع ذلك الكتلتين البشريتين الكبيرتين المتقابلتين اللتين حملتهما القوانين والروافع الجبارة لهذه اللعبة ووفقت بينهما.

المشهد الأخير من الدراما السوداء الذي تنغلق عليه هذه الآونة ستارة مسرح دراما الواقع المصري، ظهر على الصورة المأساوية التالية:

الشعب المصري الذي وحدته ثورة يناير، تشطره ثورة يونيو، وتقسمه إلى شطرين يُجرَّم أحدهما الآخر ويعاديه!

فرعون مصر يُستعتب، ويُرقّى إلى رتبة قديس!

والعاقبة لكل المبتلين بالربيع العربي البئيس!

محمد عبد الله الشيباني




الثلاثاء، أغسطس 13، 2013

الجنرال الديجيتال


في مجتمع كالمجتمع المصري الذي لم يكسر من جبل الدكتاتورية وحكم العسكر إلا القشرة، لم يكن من المستبعد أن يقوم فيه انقلاب عسكري تقليدي يعيد للدكتاتورية عنفوانها ويرد لدولة العسكر اعتبارها .

المستبعد وغير المعقول والمقبول حقا هو أن تأتي مومياء الجنرالات عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأنور السادات وحسني مبارك إلى مقر الإذاعة وتذيع البيان الأول متبوعا بالموسيقى العسكرية التي تتخللها البيانات المتتالية من مجلس قيادة الثورة بإلغاء الدستور وحظر التجول وغيرها. ثم وبعد وقت قصير تكتظ الشوارع بالمؤيدين وتدور عجلات المطابع بذروة طاقتها لسد العجز في كمية صور الزعيم الملهم والقائد الأسطورة. وعلى الفور تستنفر جوقة المزامير من أجل النفخ في المخلوق البشري البسيط وجعله نصف إله !

من غير الممكن لمبدع الانقلاب الديجيتال الفهلوي الذكي أن يبرر انقلابه ويشرعنه بمعاناة الناس الطويلة من سياسات النظام المنقلب عليه، إذ ليس في عام مرسي الرئاسي القصير أي شيء يؤيد ذلك.

قائد الانقلاب الذكي وجد في القناع الذي صنعه الإعلام التجاري الرخيص، والعامل لحساب المنافس السياسي الحسود، ما يسد مكان ضيق الجماهير بظلم وفساد الحاكم المنقلب عليه. وذلك هو نصف الحل.

النصف الثاني من الحل وثمرته الكبرى هو تمكن الجنرال من إخراج الناس إلى الشارع، والذي عند تحققه يحقق الانقلاب هدفه ويشرعن، على الأقل شوارعيا، ما قام به من عمل مخالف للشرعية السياسية الديمقراطية.

لم يجد السيسي مبدع الانقلاب كثير عناء في صناعة ذروة المشهد، وهو خروج الناس إلى الشوارع والميادين، ذلك أن المليونيات لم ينقطع سيلها في الشارع المصري، ولا يحتاج مخرج الدراما سوى إجراء بعض التعديلات الطفيفة على ملامح هذه المليونيات لتفي بغرض الانقلاب العسكري وتمنحه الصك الشعبي المطلوب.

تقنية السيسي الجديدة انحصرت فقط في تغيير تسلسل العمل الانقلابي، وذلك بوضع مرحلة رص الكتل الجماهيرية قبل رص الرصاص في البنادق الموجهة إلى رأس الديمقراطية الغض. رصاصات السيسي نحو ثورة 25 يناير غدت من السهل رؤيتها.

صمت السيسي هذه الأيام جزء من فلسفة انقلابه العسكري الديجيتال، فالقائد العسكري الديجيتال الحديث كما هو معروف يجلس في غرفة التحكم وأمامه لوحة الأزرار التي يسيطر من خلالها على كافة أركان العملية الانقلابية بسهولة ويسر.

أركان العملية السياسية كلها تحت سيطرة الجنرال الديجيتال ويحركها بأصبعه كيفما شاء؛ بدءا من قيامه بجمع القيادات الروحية والسياسية وإرغامها على مبايعته، وانتهاء بتخصيص أكثر من ثلثي كراسي المحافظين للجنرالات!

الجنرال الديجيتال يحرك الآن زر الإعلام والفن بسبابته، ويتحكم فيهما بتقنية رقمية مذهلة، فليس هناك من مرفق إعلامي مصري إلا ويتغزل في الزعيم. أما الفن فليس أدل من قدرة السيسي على ترويضه وتنويمه والعودة به إلى الستينات وأغاني عبد الحليم حافظ الشهيرة في التغني بالزعيم سوى ما حققته أغنية " تسلم الأيادي" من نجاح وشعبية فائقة.

السحرة يتجددون، والجنرالات أيضا يتكاثرون ويتجددون!

محمد عبد الله الشيباني



الثلاثاء، أغسطس 06، 2013

الأفدنة البشرية المصرية

الأفدنة البشرية المصرية لم تثمر إلا شوكا!

بلغ الأمر بأحد الألسنة الإعلامية الإغوائية المصرية الممتدة حد الاندلاق، وهو يتغزل في الاختراع الانتخابي الفريد الذي اكتشفه المصريون مؤخرا، والمعروف بالانتخاب الفداني، حيث وصف هذا الاعلامي الإغوائي هذا الاختراع بأنه فتح جديد في علم الديمقراطية، وأن هذا الاختراع جديرٌ به أن يدرّس في جامعات العالم المتقدمة، والتي رغم تقدمها لم تصل إلى ما توصل إليه المصريون، عندما عمدوا إلى شوارعهم وميادينهم، وحولوها إلى صناديق انتخابية، واعتماد الفدان البشري وقراريطه وحدة قياس انتخابي جديدة! وعلى ذلك، ووفقا لهذا الفتح العلمي الجديد، يكون المنتخب المتحصل على خمسة أفدنة وقيراط، مثلا، هو الفائز على خصمه في الدائرة الانتخابية ذات المساحة الانتخابية المتضمنة عشرة أفدنة!!!!

وربما شيشنق الليبي هو من ألهم المصريين هذه الفكرة من خلال الاختراع الجماهيري الفذ المعروف بالنظرية العالمية الثالثة، أو سلطة الشعب، والتي كما هو معروف يتم الانتخاب فيها بتجمهر الشعب كله بقضه وقضيضه، ويُصعِّد أمانات مؤتمراته ولجانه الشعبية النوعية والعامة، وحتى رئيس الدولة، وفق المعايير الجماهيرية طبعا!

هذا الافراط في تشغيل الدماغ، والاتيان بحلول متكلفة مخترعة غريبة لمشاكل قديمة معروفة قد  أشبعت نقاشا وتجربة وأثقلت حلولا،  لهو إفراط مشين وإسراف ظاهر، ولا يمكن أن نسميه حلا لمشكلة، بل تعقيدا لها.

ولكن هل النية وراء هذا الاختراع الانتخابي المصري الفداني الجديد هي مجرد نية استحداث تقنية انتخابية جديدة، أم أن الأمر ليس كذلك؟!

الأمر ليس كذلك، والذي ينظر بعين محايدة يرى بوضوح مدى استغلال تجار السياسة للحالة الرخوة التي عليها الوعي الجمعي المصري الذي خرج لتوه من فرن إعادة تشكيله وتأهيله لحالة ديمقراطية مفاجئة أعقبت حالة دكتاتورية مزمنة، حيث لم يعط هؤلاء التجار الانتهازيون الوقت الكافي للوعي المصري حتى يتشكل على راحته، ويتمكن من امتصاص وهضم الوجبة الديمقراطية الثقيلة المفاجئة.

تجار السياسة ذوو الجذور الفرعونية الممتدة، وذوو التقليد الاستبدادي العريق، لا يمكن لفورة اجتماعية غير منظمة مثل فورة 25 يناير أن تقتلعهم من جذورهم، حيث استخدموا دهاءهم المعروف بانحنائهم أمام الموجة ليعودوا بعد مرورها لشراستهم المعهودة. هذه الشراسة تجسدت بوضوح في مواجهة عدوهم اللدود؛ الديمقراطية وقوانينها الحادة!

مسطرة الديمقراطية الحادة رسمت منذ عام مضى ذلك الخط التاريخي المتوهج الذي فصل بين عصر الدكتاتورية العميق، وزمن الديمقراطية النحيف الرقيق، وهو ما يعني بداية النهاية لفئة المرتزقين السياسيين الذين رأوا في تقاسيم وجه الفرعون المنشق الحادة ما يؤكد هذه النهاية.

وبالطبع لا يمكن الرجوع إلى الخلف ولطم الديمقراطية على وجهها وكسر مسطرتها، فتلك حيلة مفضوحة، بل إن الممكن المفيد في هذه الحالة هو التكلف في التغزل في الديمقراطية، ووضع أكداس الماكياج على وجهها البريء حتى تصبح مسخا وتقتل نفسها بنفسها.

اختراع طريقة الأفدنة الانتخابية البشرية، والقول بأن الشرعية الديمقراطية ليست في الانتخابات الصندوقية، وإنما هي في الانتخابات الفدانية الشوارعية الميدانية، كل ذلك ما هو إلا تغزل قاتل للديمقراطية، وتسفيه وتعطيل لقوانينها، وإغراق لها في برميل من عسل!

مليونيات تتلوها مليونيات، عطلت الانتاج، وأفسدت الأجواء، وسممت العلاقات، وورطت الجيش، وأغرت الشرطة، وقسمت المصريين، وأوقعتهم تحت الابتزاز الخارجي، وكل ذلك ليس وراءه من أحد غير أباطرة التجارة السياسية المقيتة الذين رأوا في الصبر على التجربة الديمقراطية الأولى بضع سنوات يعني تشكل الوعي المصري برفق على الإيقاع الديمقراطي الهادئ، ومن تم انطلاقه، بعد قيامه بكسر السلاسل الدكتاتورية التي يتكأ  عليها هؤلاء التجار، والتي قيدوا بها المارد المصري حقبا طويلة.

السحر انقلب على الساحر، وتحولت ثمرة فهلوة المصريين إلى أشواك، وتعرت عورة تجار السياسة الذين علموا بعد فوات الأوان أنهم خارج الأوان، وأن للكون قيوم يدبر أمره.   

محمد عبد الله الشيباني




الأحد، أغسطس 04، 2013

ديمقراطيتنا الغضة

ديمقراطيتنا الغضة تحت رحى الأقدام والألسنة والبارود!

نحن شعوب الدول العربية التي شاء القدر أن يفكها من أسر الدكتاتورية فجأة وعلى غير ما ميعاد، وجدنا أنفسنا وبشكل مفاجئ ودونما ترتيبات ومقدمات نقفز من درجة التجمد الديمقراطي العميق إلى درجة التحرر والانطلاق غير المحدود،  وفي مواجهة مباشرة مع المخلوق الديمقراطي الغريب الغض الرقيق الذي وطأ أرضنا الدكتاتورية الخشنة المتشربة بأقسى أنواع سموم الظلم الاجتماعي والتسلط السياسي. هذا المخلوق الديمقراطي يتكلم بلغة مغايرة للغتنا الدكتاتورية التي ورثناها وتطبعنا بها؛ الأمر الذي عسر علينا التفاهم معه، وألجأنا إلى لغة التجربة المكلفة، وطريقة الخطأ والصواب المملة، وهو ما جعلنا نتسمر في المرحلة الديمقراطية رقم صفر! 

المرحلة صفر في منهج سنة أولى ديمقراطية، والتي دفعنا إليها انفجارنا العفوي في وجوه حكامنا الدكتاتوريين، لم تكن سوى استنفار أقدامنا وأكفنا وألسنتنا، والخروج إلى الشوارع والتجمع العشوائي هنا وهناك، وتأليف وصوغ المطالب والشعارات الثورية على إيقاع وقع الأقدام وتدافع الأجساد، وانسياقا وراء ذوي اللياقة البدنية والخطابية من شبابنا وعوامنا.

هذه المرحلة صفر بكل عيوبها الجسيمة الظاهرة شاء حظنا العاثر أن تكون هي بوابة دخولنا إلى المضمار الديمقراطي الذي لا تعترف قوانينه العتيدة بلغة الأقدام والأجساد تلك، لا بل إنها تعتبرها مرحلة أخيرة وحالة اضطرارية لا يُلجأ إليها إلا بعد استنفاذ كل الوسائل وفشل كل الحلول الديمقراطية الكثيرة التي يتسع لها كل مكان إلا الشارع. وعلى هذا لا يمكن اعتبار اللجوء إلى الشوارع سوى صمام يخفف من ضغط الحراك الاجتماعي في درجته القصوى الشاذة وغير المعتادة، ذلك أن خروج الناس إلى الشوارع في المجتمعات الديمقراطية هو أمر نادر الحدوث تسعى النظم الديمقراطية إلى التقليل منه وربما إنهائه.

في الشارع تنعدم كل وسائل المعرفة من قلم وكتاب وآلة حاسبة، وتحل محلها أزات الأقدام وصفق الأكف وضجيج الصرخات، ويتباطأ عمل العقل، ويتسارع نبض القلب، فتنصبغ الأفعال بالتلقائية، وتعربد النزعة والغريزة، ويقود الجموع أكثرهم جرأة، ولو كان أقلهم علما وخبرة!

في مصر وبعد مخاض ديمقراطي طويل تم التوصل بعده إلى انتخاب رئيس وكتابة دستور واعتماده، عاد المصريون إلى المرحلة صفر من الدرس الديمقراطي الأول، وخرقوا قواعد وقوانين اللعبة الديمقراطية قبل أن يجف الحبر الذي وقعوا به عليها، وانسحقت الديمقراطية المصرية الغضة الوليدة تحت أقدام الشباب ما تحت سن الثلاثين الذين يعاني معظمهم من أمية الحرف وبما معدله 40%، ومن الأمية الفكرية ربما بمعدل أكبر من ذلك بكثير!

انتشرت عدوى الإصابة بفيروس انتكاس الديمقراطية بسرعة وشملت ليبيا وتونس، وخرج الناس إلى الشوارع يتهمون بعضهم بعضا ويخوِّنون بعضهم بعضا، وتعددت وتناقضت مطالبهم، في صورة مخالفة تماما للصورة التي خرجوا بها أول مرة، عندما كانوا يرددون شعارا واحدا، ويتجهون نحو هدف واحد. هذا الحال تفاقم خطره حتى بات من الضروري فصل كل فريق عن الفريق الذي يختلف معه، وذلك تجنبا للاحتكاك الخشن بين الجانبين. 

في إحدى تجمعات التظاهر في ليبيا بميدان الجزائر، رأيت بعيني من يأتي متعمدا من تجمع آخر مخالف، ويبدأ بإطلاق الشعارات المستفزة في صفوف الفريق من الطرف الآخر، وبطريقة مثيرة أدت إلى ردة فعل معاكسة وتلاسن بين الطرفين وحتى عراك. أما في تجمعات مصر فحدث ولا حرج!

الإعلام التجاري الرخيص يعتبر هذه التجمعات المريبة وجبات رئيسية دسمة لماكينته الدائمة الدوران، وهو ما حفز منظمو هذه التجمعات إلى التكلف في عرض بضاعتهم حتى تثير شهية الإعلام النزق بشكل أكبر، وهو حال ألجأ هؤلاء المنظمون إلى الاستعانة بذوي المهارات واللياقة البدنية واللسانية، وربما إلى ذوي الجرأة العدوانية من بعض الشباب المرتزقين من هذه الحرفة الديمقراطية الجديدة.  

وطالما أن الشارع والإعلام ارتفعت درجة حرارتهما إلى هذا الحد الخطير، فقد بات من المحتم على كل فريق تحسس سلاحه واستنفار جنده؛ ففي ليبيا وتونس لُجِأ إلى السلاح أكثر من مرة، واستخدم باروده في وضع النقاط على حروف كثيرة عجز المداد الديمقراطي على نقطها. أما في مصر فقد أطاح الجنرال باللوحة وحروفها، وقذف بها في تيار وادي النيل، وصارت ثورة 25 يناير من بعض أضغاث أحلام المصريين!

إدمان الخروج إلى الشوارع، والتكلف في التبرج الإعلامي المثير، والتوغل إلى درجة العدوانية فيما يعتقده كل فريق، كلها من ميراث الدكتاتورية التي أرغمتنا وأغرتنا بالنزول إلى الشوارع تأييدا لها على سحق معارضيها والإساءة إليهم إعلاميا حتى درجة الفجور الشبيه كثيرا بما عليه جل إعلامنا الديمقراطي الحالي من فجور.

أصبح مما لا شك فيه أن المخلوق الديمقراطي الغريب علينا  يخاطبنا بلغة ونحن نخاطبه بلغة أخرى غير لغته، بل ووصل بنا الحال حد قيامنا بتمزيق كاتالوج اللعبة الديمقراطية ذاتها، وذلك جريا على عادتنا في تمزيق كاتالوج كل منتج جديد علينا، نسرف في الانبهار بتملكه، إلا أننا لا نكلف أنفسنا حتى مجرد قراءة دليل استخدامه، وهو ما قلب نفع هذه المنتجات ضررا.

هذه الصورة التي التقطت بعض مشاهدها الكثيرة من أكثر من مكان من أمكنة سقوط وتردي وليدنا الديمقراطي الغض، خلت كما هو ظاهر من مشهد تواجد أهل الرأي الصائب وذوي العلم بفنون لعبة الديمقراطية، والذين لا يمكن لهم بحكم طبيعتهم من التواجد في الشوارع والميادين، والتعامل مع الأجساد المعربدة حتى الجنون، والألسنة المتمددة حتى الاندلاق.

محمد عبد الله الشيباني