الجمعة، مارس 28، 2014

مكعبات ليبية

مكعبات ليبية مُرَّة!


للمكعب ستة أبعاد تلزم السائر المتوخي السلامة وسط تجويفه ضبط إحداثياته مع هذه الأبعاد الستة، وتحديد موقفه تجاهها.


ليبيا الآن كلها مكعبات متعددة الأنواع والأشكال، وذات مذاقات متعددة المرارات، وبالطبع ليس من بينها أبدا مكعبات السكر وما نعرفه لها من حلاوة. من هذه المكعبات ما هو صغير كحجم مكعبي الذي أقبع فيه مجترا مراراتي، ومنها الكبير الذي يسع أصحاب الأوزان الثقيلة والحجوم الكبيرة والقادرين على الاحتفاظ بتوازنهم داخل هذه المكعبات وما تحويه من دوامات وزلازل وأعاصير. الليبيون جميعهم الآن؛ كبارا وصغارا، حكاما ومحكومين، مجبرون على السير خلال هذه المكعبات وتجرع مرارتها.


تحسسي ومعاناتي لمرارة مكعبي الصغير الذي أتجنب أي حركة فيه إلا لضرورة، هو أحد مكعبات بلدي ليبيا التي غدت أرخبيل من مكعبات عائمة في بحر واسع مضطرب عميق.


مكعبي الصغير الذي أقبع هو نموذج مصغر للمكعبات الليبية الكبيرة الكثيرة المرعبة، وهومكعب  حدوده جِدُّ ضيقة؛ إذ إنه يبدأ من بيتي الذي أطيل المكوث فيه توخيا للسلامة، وينتهي ببيت أمي الذي يصلني به سرداب، نطلق عليه تجاوزا شارعا!  هذا السرداب أقطعه راجلا، بعد أن طلقت السيارة، وذلك جبنا مني وهروبا من مكعبها الأكثر رعبا والأشد خطورة.


في بداية فناء بيتي حيث ينتهي سقف هذا البيت  ليبدأ سقف الشارع، سقطت أكثر من رصاصة من علوها الكيلومتري على بلاط أرضية الفناء الصلبة. وكلما زاد التشوه الظاهر في قالب الرصاصة دل ذلك على ارتفاع الرصاصة، ودل أيضا على حجم البندقية اتي انطلقت منها. إحدى هذه الرصاصات كانت في انتظار خروجي، ولم يحل بيني وبين لقائها الحار المميت بي سوى بعض من ثانية وقليل من السنتيمترات.


قبل أن أجازف بالخروج من قوقعتي إلى غابة الشارع أنظر من خلال ثقب موجود بالبوابة الحديدية الفاصلة بين فناء البيت ودهاليز السرداب، وذلك تحسبا لمفاجئات كثيرة غير سارة يعج بها الشارع، بدءا من التلاسن الموغل في البذاءة، ومرورا بمشاجرات الأيدي الساخنة، وانتهاء بالمنازعات الأشد سخونة التي تستخدم فيها الأسلحة النارية، حيث لا تقتصر تلك النار على مجرد حرق من أوقدوها، ولكنها تتعداهم إلى غيرهم من الغافلين الأبرياء عابري الطريق والساكنين على ضفتيه. الأمر ليس مجرد احتمال، فقد حدث أن دارت معركة بالرصاص الحي في بحر الشارع، والناس، ويا للعجب، يتقاسمون مع الرصاصات الغائدة والرائحة الطريق!


وبعد اطمئناني إلى عدم اصطدامي بمفاجئات عتبة مكعب الرعب تلك، ألتزم يمين الرصيف غير المرصوف والذي هو بالمخاطر محفوف، وأشرع في تشغيل مجسات أجهزتي الحيوية على وضع الطوارئ الأقصى، آخذا في اعتباري الاتجاهات والأسطح الستة لمكعب الرعب الذي ألقيت نفسي فيه!


ذهب بي الخوف حده بعد ما سمعت الكثير من الحكايات عن ضحايا الرصاص المتساقط من السماء، ففكرت في ارتداء الخوذة الحديدية . لا يمكنني فعل ذلك فمنظري وأنا أرتدي تلك الخوذة على ملابس مدنية مثير للسخرية، بل ربما تصبح تلك الخوذة هدفا مثيرا لحاملي أسلحة الحرب وأسلحة اللعب على حد سواء! انتهيت أخيرا إلى ارتداء قبعة ذات قوام كثيف قد يساعد في امتصاص ولو جزء يسير من طاقة هبوط المقذوف! يعني خير من بلاش.


في أي لحظة قد يصبح الرصيف المخصص للمشاة امتدادا لطريق السيارات وجزءا لا يتجزأ منه، وليس لك والحال هذه إلا قيامك بمد بصرك لعشرات أو مئات الأمتار، وتحسب الاصطدام بتلك الألغام السائرة في الاتجاه المعاكس للتيار المعهود للشارع، وهو تيار معروف قبل ولادة أولئك المجانين القابعين خلف مقاود السيارات والدراجات النارية بعشرات السنين، وربما بمئاتها.


إن هوامش اليمين والشمال غدت في مكعبات رعبنا شيئا من تراث الأقدمين، بل ربما مجرد ذكرك اليمين والشمال والاحتجاج بذلك مما يثير السخرية، ويبعث على التندر والتفكه، كما إن الألغام الآتية من الخلف أشد إثارة وخوف، وذلك لأن الشعور بالخطر وتحسب وقوعه المحتمل يكون أشد وقعا وأنت لا تستطيع رصده والتهيئ له، كما أن مجرد التزامك يمين الرصيف لا يعطيك الأمان الكافي من صفعة خلفية قاتلة تأتيك من علبة حديدية طائشة. أما السطح الأرضي لمكعب الرعب وما تحتويه الطريق من حفر ومصدات حية وجامدة، فعنها حدث ولا حرج، إذ لا تكاد تنجو من واحدة حتى تبادرك الأخرى.


ذلك هو مكعبي الصغير البسيط الذي يتحتم علي مواجهة مصاعبه تلك لمجرد ممارسة حقي المشروع في المشي في الشارع؛ أما إذا ما تجرأت وفكرت في ممارسة حقي في السير في مكعبات أكبر، فلابد لي قبل التفكير في ذلك من إجراء الكثير من الحسابات المعقدة والاستعداد لمراهنات ومخاطرات بالغة الجسامة والخطورة. أقصد بالمكعبات الأكبر هي تلك المسارات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها.



أكبر مسببات فشلنا حتى الآن في تحقيق ما نريد هو تطاول الطريق أمامنا إلى ستة أضعاف طولها، وتعاظم مشاكل ومصاعب الطريق بنفس النسبة. ذلك إنه ما من مسؤول علا أو دنا شأنه إلا ويواجه هذه الأيام معضلة التعامل مع أكثر من هدف، وهو يحاول الوصول إلى الهدف الموكول إليه، الأمر الذي أدى إلى تباطؤ أداء الحكومة، وربما شللها.
ِ

أجل سوف تكلفنا الأشياء التي سنقتنيها ستة أضعاف سعرها العادي، وستأخذ من وقتنا وجهدنا ستة أضعاف ما تأخذه من الآخرين المتحررين من مثل المكعب الليبي المر ذي الأوجه الستة الشنيعة ؛ الجهل، والفساد، والجهل، والتخلف، والعنف،   وحب الذات المرضي .  


محمد عبد الله الشيباني

ليست هناك تعليقات: