الثلاثاء، يناير 31، 2012

سنة أولى ديمقراطية19



سنة أولى ديمقراطية"19"

يوم انتخابات المؤتمر الوطني

يوم درسٍ وترشيحٍ وانتخاب

أم

يوم عُرسٍ وتصعيدٍ وانتهاب؟ 


شقَّ هذا العنوان الطويل الصادم طابور دروس سنة أولى ديمقراطية، وأخذ مكان أحد هذه الدروس المعنية بالإجابة عن السؤال الكبير: "من نحن؟"، وذلك بسبب تزايد وتيرة إيقاع العرس الديمقراطي الليبي القادم.

أجل، فما هي إلا خمسة أشهر، يكون فيها الطقس قد مال إلى الدفء، وخفف عنا ثقيل ما نحمل من ثياب، وفي ذلك الجو المنعش تحلو التجمعات واللقاءات في الهواء الطلق نهارا، وتحت ضوء القمر الشاعري الخلاب ليلا. تحلو أيضا هذه التجمعات واللقاءات في أحضان (مرابيعنا) الرحبة المهيأة بكل ما يليق بمجالس أبناء القبيلة الأشاوس وأعيانها المبرزين.  

في عنفوان الحملة الانتخابية يبلغ فصل الربيع نضجه ومداه، ويصل لحم الخروف والجدي الوطني الشهي قمة لذته بما حمل في أنسجته من عصارة أعشاب ربيعية فواحة، كما أن دقيق الشعير الموسمي الجديد هو الأخر يكون في قمة إغرائه لعشاق البازين  بلحم الخراف اللذيذ السمين.

ترسم جلسة اللقاء على تناول أكلة البازين الشعبية المعروفة بطقوس أكلها المميزة الباعثة على التحدي وإظهار القوة، خلفية معبرة جدا لملحمة التصعيد، حيث يجتمع أفراد القبيلة الواحدة، ويتحلقون في دوائر معروفة العدد محكمة النظم محددة الهدف كما لو أنها كتيبة فرسان أشداء مغاوير، حيث يقوم أفراد القبيلة الكتيبة،  وفي وقت واحد، بغمس أيديهم في مرق واحد لا تفصل بينه حدود، وحيث يدني بعضهم إلى بعض اللحم الطازج اللذيذ، وذلك في تأكيد واضح جلي لمبدأ الرابطة واللحمة العرقية القبلية المقدسة، وتكريسا لاختلاط وتشابك وتضافر مصالح أبناء القبيلة الواحدة، وأولا وأخيرا تجسيدا لاختلاط دم كل أبناء القبيلة اختلاط وامتزاج مرق البازين.

زهور وورود الربيع هي أيضا سوف  يملأ عبقها المكان محفزا هرمونات التستستيرون المجنون على مضاعفة إفرازاته السيالة في أدمغة ذكور قبائلنا المغاوير، صانعا لهم هذا الهرمون السحري من نسيج النشوة أجنحة من العنفوان الذكوري المعربد، شاحنا إياهم بروح التحدي القبلي العارم الذي سيصد كل ابن أنثى ويدحره، إذا ما سوَّلت له نفسه مجرد الاقتراب من خط القبيلة الأحمر، أو حدثته دخيلته بالاستحواذ على جزء من نصيب العائلة وكرسي القبيلة في الكراسي المائتين للمؤتمر الوطني، أو سواها من كراسي ومراكز يسترخص من أجلها كل غال، وذلك مهما بلغت كفاءة هذا الذكر، أو علت أخلاقه، أو لامس في صلاح دينه ومخافته الله الجوزاء.

في ذلك الوقت تكون أخبار قيام الدولة الليبية الجديدة قد وصلت إلى أسماع وأذهان كل رجال القبائل الليبية في شتى أصقاع القطر الليبي الرحب، وتكون كراسي الحكم والمراكز الوظيفية المرموقة في غاية تبرجها وكامل زينتها وإثارتها التي لا تقاوم، مما سيدفع بكل فرسان القبائل الليبية إلى استنفار أنفسهم، وتجميع صفوفهم من أجل الاستحواذ على حصة القبيلة في كعكة الدولة الوليدة.


في مايو القادم تتشكل الخريطة القبلية الليبية الجديدة، آخذة في اعتبارها أحداث عام 2011 التي هزت وبعنف شديد بنية الجسم الليبي السياسية والاجتماعية، كما هزت وبعنف أكبر وأشد البناء القبلي الراسخ العتيد.

موسم التصعيد القادم ليس كسابقه من التصعيدات الجماهيرية البائدة محدودة البراح، منزوعة السلاح، بل هو تصعيد يملك كل طرف فيه من العتاد والرجال ما يكفي للذود عن حياض القبيلة والأخذ بثأرها السياسي والاجتماعي المخدوش، أو التأكيد على انتصارها المشهود في تلك المعركة التي ابتلي بها الوطن الليبي الجريح.

هذا ما تبدو عليه صورة العرس التصعيدي القادم. أما ما تبدو عليه صورة العرس الانتخابي البكر، فهي صورة أقل إثارة من سابقتها، ولكنها أعظم وأجل في قيمتها وخطورتها، والتي تبدو من بعض زواياها كما يلي:

في موعد الانتخابات القادمة يُفترض أن الربيع الديمقراطي الليبي طويل الشتاء باهظ الثمن عظيم البلاء قد أينعت ثمراته وحان قطافها، وأن ألذ وأشهى هذه الثمار هي ثمرة لم يسبق لأي ليبي أن رآها أو لمسها بيده، فضلا عن اقتنائها وتذوقها؛ إنها الانتخابات الديمقراطية الحرة البكر، والتي سيختار الليبيون فيها من سوف يوقع نيابة عنهم على أخطر وأهم وثيقة، ألا وهي وثيقة العقد الاجتماعي  الليبي الأول.

أجل إنها انتخابات أعضاء المؤتمر الوطني، والتي تعتبر بمثابة حجر الأساس لصرح الدولة الليبية الديمقراطية الأولى على مدى التاريخ، وإن أقل ما يشترط في انتخاب كهذا هو تراضي الليبيين كلهم، واصطفافهم جميعا في صفوف متراصة منتظمة، وبيد كل واحد منهم لبنة ذات رقم وتسلسل غير مكرر، ولها مكان ما بين أحجار أساس بناء ليبيا لا تملؤه لبنة سواها.

الليبيون جميعهم سيأتون وبإرادة حرة مكتملة وغير مجروحة بأي تهديد أو إغراء، أو تزوير أو تدليس، ويضعون ما يحملونه من لبنات أساس دولتهم فوق (الجرد) الليبي الكبير المبسوط على مدى مساحة الوطن، والذي يمسك كل مواطن ليبي بخيط من خيوط نسيجه المحكم، ثم يقوم الليبيون جميعهم بحمله ووضع لبنات أساس بلادهم في مكانها الصحيح.

في يوم الانتخابات المشهود، وفي أجوائه المفعمة بأنبل المشاعر وأصدقها، ينتخب الناخبون الليبيون الراشدون أكفأ وأصدق وأوفى وأنبل مرشح لأعظم وأخطر مكان، وأي مكان أعظم وأشد خطرا من كرسي الشخص المسئول على صناعة الدستور، أبو القوانين جميعها والمهيمن عليها.

في غروب شمس ذلك اليوم المجيد، وبعد نجاح المهمة الانتخابية التاريخية، سيجتمع الليبيون كلهم في مكان افتراضي واحد رغم تعدد أمكنة تواجدهم الفعلية، وسيتلون فاتحة الكتاب، وسينشدون نشيد الوطن في ظل علمهم الوطني الخفاق.

إنه حقا عرسٌ كبيرٌ، وزفةٌ مشهودة!

وإنها حقا لليلة سعيدة، يبدأ مع طلوع صبحها البهيج التقويم الليبي الجديد، مؤذنا بانطلاق قطار تيبست عجلاته العقود الطوال.

ولكن، وآهٍ من لكن!

ولكن كيف نقرب بين صورتي العرسين القادمين المتناقضتين، عرس التصعيد الشهي العبثي المربوعي البازيني النفعي الانتهازي القبلي، وعرس الانتخاب الديمقراطي الجاد المتشبعة أجواؤه بالمسئولية التاريخية المقدسة الكبيرة العظيمة قداسة وكبر وعظم وصية عشرات آلاف الشهداء الذين قال جميعهم وبصوت واحد:  

"عروسنا ليبيا التي أبى مغتصبها تخليصها وتسليمها لنا إلا بعد أن سكر حتى الثمالة بدمنا، هي حرام حرام حرام على أي عريس تأخر عن موكبنا إلا بحقها"

كيف نقرب بين عرس الانتهاب القبلي الرخيص بخيس الثمن، وعرس الانتخاب الوطني الغالي باهض الكلفة؟

ليس لدينا مشكلة مع عرس التصعيد والانتهاب القبلي، ذلك العرس الذي تعرفه كل القبائل الليبية، ويجيد طقوسه الكثير من رجال تلك القبائل، وذلك بما تراكم لديهم من خبرة، وما أبدعوه من فنون التصعيد، والمستمدة جميعها كما هو معروف من تقنيات سلطة الشعب، ذلك النظام الجماهيري الفريد البديع، كما وصفه صاحبه الدكتاتور المريع!

التصعيد والانتهاب القبلي تقليد مفضوح مقبوح، فقد كل حججه ومبرراته، وذلك لمسئوليته المباشرة عن الفساد السياسي والإداري الذي رزحت تحت كلكله الدولة الليبية ردحا من الزمن. وهو بهذا لن يصمد البتة أمام آلية انتخاب متحضرة شفافة رشيدة كثيرا ما استبد بنا حبها وهامت بها قلوبنا، ونحن نراها في كامل فتنتها وإثارتها وهي تمسك بأناملها الرشيقة الذكية الرقيقة بخطام أكبر الكيانات السياسية وأقواها في العالم، وفي مقدمتهم سيدة العالم، أمريكا، وتسوق المليارات من سكان تلك الدول العملاقة في طوابير انسيابية منتظمة، وبنعومة عجيبة فائقة نحو صناديق بلورية، يحمل كاهلها البلوري الهش أثقالا وأمانة سياسية خطيرة تنوء بحملها سلاسل جبال الألب والإنديز مجتمعين!  

لن يفضل ليبي واحد عاقل رشيد الثرى على الثريا، والتصعيد القبلي الجهوي المتخلف البائس، على الانتخاب الديمقراطي الحر، لا سيما بعد انكشاف المستور، وانفضاح أمر المقبور الذي اتخذ من التصعيد وسعاره مطية مكره وخداعه، ووسيلة تمرير دسائسه ومكائده وترهاته.

ها قد انتهينا من التصعيد ودفناه إلى الأبد مع بقايا نظام مستبد انتهازي فقد كل مبررات التعلق به، أو الحنين إلى ملامحه، أو استحسان أي رائحة من روائحه.

مشكلتنا إذن مع العرس الانتخابي الديمقراطي الشاق الجاد والجديد جدا!

وأول ما تقذفنا به هذه المشكلة هو السؤال السهل البسيط:

هل استعد الناخبون والمرشحون الليبيون للصعود إلى كوكب الانتخابات الديمقراطية المتحضرة الجدية؟

وكالعادة قطع سيف الزمن البتار، حبل ما لدينا من أفكار، على أن نعاود السير في طريق سنة أولى ديمقراطية المبين، في الدرس القادم العشرين.


محمد الشيباني
Libyanspring.blogspot.com



الاثنين، يناير 30، 2012

سنة أولى ديمقراطية 18


سنة أولى ديمقراطية"18"
              
                للمرة الثامنة لا زلنا ندندن حول السؤال الكبير:
                                    "من نحن؟"

الدرس السابق، السابع عشر، انتهى بما ملخصه:

التيقن الكامل بمرض الدكتاتور القذافي بعلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، والذي، وبكل أسف، حكم به الليبيين جميعا أزيد من أربعين عاما. ومن المؤسف أيضا قبول الدول الخارجية كبيرها وصغيرها له وتعاطيها معه، وهي تدرك ما عليه من مرض يفقده أخلاقيا وربما قانونيا الأهلية اللازمة لذلك.  

وكما هو معلوم قصر وقت الدرس الفائت عن الإجابة عن السؤال الأهم، وهو:

هل انتشرت عدوى مرض الدكتاتور بين أفراد رعيته المحجور عليهم سياسيا وفكريا وثقافيا، ولمدة من الزمن زادت عن أربعة عقود؟

علماء النفس والاجتماع يؤكدون حقيقة عدوى الأمراض النفسية والسلوكية بين أفراد الجماعة، وبصورة أشد عندما تكون بؤرة هذا المرض ومصدره في مكان الرأس من جسم هذه الجماعة.

لم يكتف القذافي، مصدر المرض وبؤرته، ومهجنه ومطوره ومسوقه،  بمجرد الوقوف عند رأس الجسم الليبي، وممارسة دوره كرئيس أو ملك أو حتى إمبراطور، بل رأيناه يتخلل الجسم الليبي تخلل الدم الأجساد، ويتدخل بواسطة أجهزته وأعوانه في كل صغيرة وكبيرة. كيف لا وهو لديه من الشيطنة النصيب الوفير!

القذافي يتكلم على مدى ساعات اليوم عبر وسائط إعلامه، ويخترق صوته البيوت والمدارس والجامعات وحتى دور الرعاية والمستشفيات. والأمر ذاته يتكرر مع صورة القذافي وشعاراته التي تصدم العيون، وبدون استئذان، أينما يمم المواطن الليبي المطارد في وطنه وجهه.

الطلاب في مدارسهم، الصغار منهم والكبار، لابد لهم من وجبة إفطار صباحية قسرية قوامها تمجيد الدكتاتور وترتيل تسابيحه. وإذا مروا إلى فصولهم زاحمتهم في ممرات المدرسة وردهاتها صور القائد ومقولاته، وإذا فتحوا كتبهم وتداولوا دروسهم وجدوا نفس الصور ونفس المقولات فيما يقتنون من كتب وما يقرءونه من دروس.

الأمر ذاته ينطبق على الموظف والشرطي والعسكري والطبيب، بل وحتى عابر السبيل الذي، ولكثرة ما يصادف من صور الدكتاتور ومقولاته الكثيرة المتنوعة المتسمرة في واجهة كل شارع وزقاق، تراه مجبرا لا مختارا بأن يجعل تلك الصور المتزاحمة دليلا ومرشدا له، يميز به شوارع وأزقة مغفلة الاسم والعلامة إلا من صورة للقذافي أو شعار جماهيري متكرر ممجوج.

مضى على الليبيين زمن ليس بالقصير، ملك فيه الدكتاتور كل الأثير، فلا موجة راديو متدنية التردد أو فائقته، ولا موجة تلفزيون على أي نظام بث كانت، إلا واقتصر ما تصدره من أصوات، وما تقذف به من صور، على مجرد تأدية الوظيفة الأساسية للإعلام الجماهيري، ألا وهي الحجر على عقول الناس وإلقامهم ما يتقيؤه الدكتاتور.

كل الفرص كانت مهيأة جدا لانتشار عدوى كل أمراض الحاكم المريض، وفي مقدمتها داؤه العضال: الذكاء الفطري، والتذاكي القهري.

طريقة أخرى خبيثة تدعم احتكار عقول الناس ووعيهم وتوجيههم حيث يريد مغتصبوهم، وهي طريقة تجفيف منابع القدوة ومصادر النصيحة والرأي الآخر، وهي طريقة استخدمها القذافي وبشكل ممنهج، ومن خلال أجهزة أمنية وإعلامية ذات سطوة عملت بكل ما تملك من قدرة على حصر قدوة الليبيين في شخصية القائد الرمز وما يصدر عنه من فعل أو قول، بل وحتى طريقة تفكير.

ولا أظنه من المبالغة القول بأن بأس القذافي ومكره بلغ من الشدة والانتشار حد تمثله لبعضنا في صور إبليسية وسواسية، ذلك أن الكثيرين منا كان يشكو من شعوره المرضي الدائم بأن القذافي يلازمه أين ما رحل وحيثما حل.

ــ حسنا. ها أنت يا أستاذ أكدت لنا وجود المرض، الذكاء الفطري والتذاكي القهري، ومكان تواجده وتركزه، كما أبنت لنا طريقة انتشار عدواه من الحاكم إلى المحكوم، ولكنك لم توضح لنا بعد مظاهر هذا المرض على تفكير الناس وسلوكهم. استفهم أحد الطلبة.

أطرق المدرس قليلا، ثم أجاب قائلا:

ــ إن مظاهر هذا المرض في سلوكنا اليومي منتشرة شائعة، ومن أهم الأدلة عليها ما يلون تصرفاتنا من إيقاع متعجل سريع في كل شيء؛ فإذا مررت بجماعة من الناس وسألتهم، مثلا، عن عنوان مكان أضعته، رأيتهم جميعا يتزاحمون، وفي مرة واحدة، ويقذفونك بالإجابات المتباينة، والتي لكثرتها وتزاحمها فإنك تجد صعوبة بالغة في فهمها والاستفادة منها.

وإذا تجاذبت الحديث مع أحد المصابين بعلة الذكاء الفطري والتذاكي، تراه يصدمك وبشكل متكرر بالكلمة الشائعة كثيرا بيننا، ألا وهي كلمة "بالعكس"، أو إحدى مرادفاتها التي تشير بوضوح إلى سطحية المكثر منها، وضيق هامش الحديث معه، وكذا دنو سقف تفكيره ومداه.   

ظاهرة أخرى لهذا المرض نجدها فيما يزخر به حديث الكثير منا من  تلاعب ساذج بالألفاظ والكلمات السوقية وذات المضمون الرخيص وربما البذيء، حيث تلاحظ التسابق الساذج نحو صنع شراك كلامية لبعضهم البعض، وفي غالب الأحوال ذات نكهة جنسية، فيما يعرف (بالغشة)، حتى غدت تلك الشراك التافهة مكونا ثقافيا يتناقله جيل عن جيل.

من مظاهر ذكائنا الفطري وتذاكينا إعراضنا عن قراءة كاتالوجات ما نقتنيه من أجهزة وآلات، وقيامنا برمي هذه الكاتالوجات في سلة المهملات كما لو أنها بعض من مغلفات تلك الآلة، بل وربما اعتبرها بعضنا أشياء زائدة لا قيمة ولا أهمية لها.

من صور فرط ذكاءنا الفطري وتذاكينا إهمالنا للكتاب أيا كانت صورته وتفضيل الكثيرين ،وخاصة الشباب، في تحصيل ما يريدون من معلومات على وسائل أخرى غير الكتاب، كالمحاكاة أو الأسئلة الشفوية القصيرة السريعة.

الذكاء الفطري والتذاكي القهري صورة من صور الجهل المركب، ورافد من روافد القصور المعرفي المزمن، حيث تجد المصاب بهذه العلة يأنف من كل صاحب علم؛ فيعتبر من تكلم بالعربية الفصحى متقعرا، ومن استدل بآية أو حديث متفقها، ومن نزع إلى الحكمة ومال إلى التأمل والتحليل متفلسفا، وهكذا.

كذلك شكل الذكاء الفطري رافدا مهما من روافد الإشاعة غير ذات المضمون الخالية من الحقيقة، والتي تنتسب بشكل واضح إلى ذلك الجيش من الناس ذوي التفكير السطحي، والذين يسارعون بتصديق كل ما يقال ونشره في اللحظة والحال.
الذكي فطريا والمتذاكي قهريا يلح في تسول انتباه الآخرين، مما يوقعه في حرج شديد، وخاصة عندما يفرط في إلحاحه. وكثيرا ما يكثر الذكي فطريا من عبارة"فهمتني؟" أو "غير افهمني" أو "لا.لا. إنت ما زال ما فهمتنيش"، وغيرها. ألم يصف القذافي جميع الليبيين بأنهم دون مستوى تفكيره، وبأنهم قاصرون عن فهم نظريته الكونية الثالثة!

هذا على مستوى المنتوج اللفظي لعلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، أما منتوج هذه العلة على مستوى الأفعال فهو سيء الأثر باهظ التكاليف.

من هذه المنتجات ما يعرف بسوء الفهم، ولدرجة أصبح فيها سوء الفهم هذا شائعا وسائدا بيننا، بل ويستخدمه بعضنا لصالحه عندما يبرر أخطاء جسيمة ارتكبها.

كم مرة اشتعلت المعارك الدامية والخصومات العميقة بين اثنين أو أكثر، ثم إذا بحثت عن سبب ذلك فلا تكاد تجد له سببا يذكر سوى ذلك المخزون الهائل لدى المتخاصمين من خصلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، ذلك المعين الذي لا ينضب لظاهرة سوء الفهم القاتلة.

وإذا حاولنا البحث أكثر في تداعيات هذه العلة وعلاقتها فيما يعرف بسوء الإدارة، ذلك السرطان الذي هتك جسم الدولة الليبية، نجد أن  سوء الإدارة هذا ينهل كثيرا من مورد الذكاء الفطري والتذاكي القهري. ذلك أن جل من أفرزتهم الحقبة السابقة من مدراء نافذين هم من أولئك الثوريين الذين قدموا أول ما قدموا من ثمن لقاء اعتلائهم المناصب المرموقة هو تعطيل الخلايا الراشدة في عقولهم، وتطويع هذه العقول وإجبارها على الركوع حتى تتمكن من الدخول إلى الخيمة الجماهيرية التي لم يدخلها كائنا من كان إلا وهو راكعا ودائسا على ما منحه خالقه من جوهرة عقل وضياء فكر ومسحة وقار ولياقة.


أخطاء إدارية مضحكة مبكية لا يكاد يخلو منها مكان، ولا يكاد يلمحها ذو جنان، حتى يلاحظ وبوضوح الكمية الهائلة من الغباء وسوء التقدير التي تكتنف هذا العمل أو ذاك، وما أكثر ما يردد الواحد منا عبارة" لعب فروخ" كلما صدمته هذه المشاهد والأعمال التي يقوم بها أناس مسئولون ولكنهم فطريو الذكاء مفرطو التذاكي.

إن ما نتصف به من جلافة وغلظة مشاعر وغياب تبسم ووجه طلق،  يتصل اتصالا مباشرا بما يعتمل في عقولنا من شكوك وسوء ظن بمن حولنا. وهي شكوك في الغالب الأعم تنهل من ذلك المعين الآسن والمورد النتن، الذكاء الفطري والتذاكي القهري.

مريض الذكاء الفطري والتذاكي القهري لابد أن يكون سريعا في ردة فعله، وهي صفة عندنا منها الكثير، حتى أننا وفي تعاملنا مع أناس متحضرين من دول بعيدة عنا، يخرج البعض منا بانطباع مفاده بساطة وبطء ذكاء أولئك الناس، بل ويأخذنا هذا الشعور إلى أبعد من ذلك، فنظن نفسنا قوما موهوبين وعلى درجة من الذكاء تفوق كثيرا ما يتمتع به الأوربيون والأمريكان، وربما اليابانيون، وذلك لا لشيء إلا لسرعة ردود أفعالنا مقارنة بهم.

قصور الذكاء وفطريته علة لها من بيئتها نصيب، حيث يمتد ذكاء الإنسان ويعلو بامتداد المدى والأفق الذي يتحرك فيه عقله وفكره. والعكس بالعكس. وعلى ذلك يمكن تشبيه علة قصور الفكر وتكاسله وفطريته وبساطته بعلة قصور النظر التي يتصف بها سكان المناطق الضيقة المحصورة، وذلك بعكس سكان المناطق المفتوحة ذوي الإبصار الحاد الممدود.

وبذا يمكن رد علة تفشي ظاهرة الذكاء الفطري والتذاكي القهري بيننا نحن الليبيين إلى إدمان ضرب الدف الذي كان يمارسه حاكمنا السابق على إيقاع ذكائه الفطري وتذاكيه المؤكد، وإرغام من هم دونه على الرقص على هذا الإيقاع المخجل. وكذلك علة الحجر على الفكر والذهن وتكبيله داخل الحظيرة الجماهيرية الضيقة القمئة، وهوعمل تمت ممارسته بشكل متعمد ممنهج.

ــ ولكننا ثرنا، يا أستاذ، على كل ذلك، وحطمنا الحظيرة الجماهيرية، وأزحنا مصدر هذه العلة ودفناه إلى الأبد، وبذا منعنا تسرب عدوى هذا المرض الخطير. قال أحد الطلبة.

هذا صحيح. رد المدرس، ثم استطرد قائلا:

ــ تعلم يا بني أن أمراض النفس والعقل، الموروث منها والمكتسب، هي من الأمراض السريعة العدوى الطويلة الاستقرار في الجسم، وهي بهذا بطيئة المداواة والاضمحلال. وإن الكثير مما نعانيه الآن بعد نجاح الثورة من سوء تصرفات الكثير منا وعدم انضباط ردات أفعالهم وسوء تقديرهم، بل وممارسة الأعمال العدوانية المخالفة لكل قانون وشرع، وكذا التقاتل المحموم على ما يسميه البعض غنائم معنوية كانت أم مادية. كل ذلك ما هو إلا بقايا آثار ذلك الاعتلال المتراكم عبر الزمن، والذي اتخذ من عقولنا مأوى له،  فأصابنا بعلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري.
   
أخطر ما في علة الذكاء الفطري والتذاكي القهري يكمن في اعتقاد صاحبها أنه موهوب الذكاء فائق الحصافة والتفكير، فتتراكم أخطاؤه حتى تحجب عنه ضياء المعرفة وأنوار الحقيقة. بل ربما ساهم الذكاء الفطري والتذاكي القهري فيما يعانيه كثيرنا من خواء ثقافي وتصحر معرفي رهيب.

الذكاء الفطري والتذاكي القهري مرض خطير وخطير جدا، ويكاد يشتبه بوجوده وراء كل قول أو فعل قاصر وضار، وهو بهذا أخطر من الجهل نفسه، ذلك أن الجاهل كثيرا ما يكون مترددا قبل ارتكابه الفعل الخطأ، ويعتريه الندم بعده. أما الذكي ذكاء فطريا والمتذاكي، فعادة ما يكون ممتلأ بالجرأة مشحونا بالاندفاع، كما أنه لا يعتريه الندم بعد ارتكاب حماقته.

ــ ولكن ما علاقة كل هذا يا أستاذ بالشأن الديمقراطي الذي نكب على دراسته؟ سأل أحد الطلبة.

ــ لا يمكن للذكي فطريا والمتذاكي قهريا أن يكون شخصا ديمقراطيا على الإطلاق، وذلك لما يتصف به من عيوب ذهنية وسلوكية جسيمة.

ــ ما العمل يا أستاذ؟

ــ  السعيد من اتعظ بغيره، لا من وُعِظ  به.
وعلى هذه العبارة ختمت اللوحة الذكية الدرس الثامن عشر.  


محمد الشيباني
Libyanspring.blogspot.com



الثلاثاء، يناير 24، 2012

سنة أولى ديمقراطية"17"


سنة أولى ديمقراطية"17"
                
                      ومرة سابعة. من نحن؟

سألت اللوحة الذكية، ثم أجابت:

**نحن نعاني من فرط الذكاء الفطري، والتذاكي القهري**

تباينت درجة فهم الطلبة للعنوان عاليه، إلا أنه، العنوان، أفلح في جعل جميعهم يلتزمون الصمت والترقب خوفا من التسرع في ردة الفعل السريعة غير المحسوبة، لاسيما وأن العنوان يطرق زاوية هامة وحساسة، أهمية وحساسية العقل الذي عليه مناط الأمر كله، وبه وحده تعلق الإنسان فنقله من أعماق وظلمات الحيوانية غير الذكية إلى آفاق وأنوار الإنسانية العاقلة الراشدة.

قدرت اللوحة الذكية وضع الطلبة وموقفهم الحرج، فألحقت العنوان بالتعريف المبسط التالي:


الذكاء الفطري هو فهم الأشياء والتعامل معها بقدر كبير من السطحية. أما التذاكي فهو التكلف في إدعاء الذكاء.

تراجع الطلبة إلى الوراء في قعدتهم، وعمهم صمت مريب، يبين عنه شعورهم المختلط بجديد ما عرفوا عن الذكاء الفطري والتذاكي القهري، وحرج ما يحمله كثيرهم من هذه الصفة غير المحبوبة.

نهض أكثر الطلبة جرأة، وقال:

ــ ما هذا يا أستاذ. نحن في هذا الفصل، سنة أولى ديمقراطية، نتعاطى الشأن السياسي العام ودروس الديمقراطية، ولا شأن لنا بدروس الطب وعلوم النفس!

ــ الديمقراطية يا بني نظام حكم وإدارة الدول، تلك الدول التي قوامها جماهير الناس، والذين لولا عقولهم وما تحتويه من ذكاء، وأنفسهم وما تعتمل فيها من مشاعر وأحاسيس، ما كانت لتقوم الدول ولا الحكومات.

ــ كأنك تعني أنه بقدر ما يتميز به الناس من ذكاء، تتميز قدرتهم على سياسة أمور بلدهم وفق لعبة الديمقراطية المعقدة الخطيرة.

ــ أجل. قال المدرس ثم أردف قائلا:

هذه العلة، علة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، تبدو بسيطة وغير خطيرة، حال كون الشخص المتصف بها يقوم بملإ مربعات الكلمات المتقاطعة، أو مربعات جدول السودوكو، أو أنه يقوم بتحريك بيادق لوحة الشطرنج، أو غيرها من ألعاب ذكاء معروفة.

إلا أن هذه العلة تصبح أم العلل عندما يمسك المتصف بها بزمام الأمر، ويقبض على مقود قيادة العائلة أو المدرسة أو البلدية أو الشركة، بل وأحيانا نجده يقود بلادا واسعة ممتدة.

عجبا! قال أحد الطلبة، وهو يزم شفتيه، ثم ألحق تعجبه بسؤاله الاستنكاري: هل سجل التاريخ قط اسم حاكم بلد مصاب بهذه العلة الخطيرة يا أستاذ؟

أجل إنهم كثيرون، وآخرهم ذلك الرجل الذي حكمنا أربعين عاما، وهو معتل أشد ما يكون الاعتلال بذلك المرض العضال، مرض الذكاء الفطري والتذاكي القهري.

سَرَت في الفصل كله همهمة مصحوبة بأصوات وحركات تعجب واستنكار، فطأطأ المدرس رأسه، والتزم الصمت برهة تقديرا منه لشعور الطلبة، وطلبا لإعطائه الفرصة في الاسترسال في الحديث حتى يقوم بشرح إدعائه الذي صدم به الحاضرين.

قال المدرس:

إن تفسير الأمور والتعامل معها بسطحية مفرطة، وكذا التكلف في إدعاء الذكاء حالة مرضية تولدها، بالإضافة إلى علل فسيولوجيا الدماغ المعروفة، حادثة أو مجموعة حوادث من ضربات الحظ غير المألوفة، والتي تضع صاحبها في غرفة تحكم أسطورية، مملوءة بأزرار يستطيع بمجرد لمس إحداها تحريك بلاد بأكملها.

لابد أنكم تعرفون الطريقة السهلة المريبة العجيبة التي حاز بها القذافي ورقة يانصيب حكم ليبيا، والشبيهة كثيرا بفوز شحاذ جائع متشرد ذات ليلة شتوية باردة بورقة يانصيب مليونية.

إن الاستيلاء السهل والرخيص والناعم جدا على مقاليد بلد بحجم ليبيا، ومن قِبل شخص بسيط صغير كمعمر القذافي، لابد وأن يترك أثرا ما  في نفسية وعقل من قام به، فيجعله يرى الأشياء أقرب مكانا وأصغر حجما مما هي عليه في حقيقتها. كما أنه من المحتم أن تكون لهذا العمل المثير في نفس صاحبه توابع وإسقاطات على أعمال أخرى، لاسيما وأن صاحب العمل لديه ما يكفي من استعداد فطري وظروف تنشئة مواتية.

مدحرجات ناعمة كثيرة تدحرج عليها القذافي وبنعومة منقطعة النظير، أولها، بعد نجاح انقلابه، قيامه بطرد القوات الأجنبية وبقايا الطليان عن ليبيا، وبعدها نجاحه فيما يعرف بالثورة الشعبية وإعلان سلطة الشعب، وتجييش الشعب ووضعه في معسكرات بكل فئاته، وكذا ما يعرف بثورة المنتجين وقيامه بتأميم ومصادرة الممتلكات الخاصة، وغير ذلك من أحداث جسام مارسها القذافي بذكاء فطري وتذاكي بلغت فاتورته ما مقداره تكلفة موت شعب بكامله إكلينيكيا، وجموده أربعين عاما زمنيا، وتخلفه أربعمائة عام حضاريا.

هذه المدحرجات الناعمة دحرجت ثم أرجحت القذافي حتى أنسته لياقته وأفقدته وقاره كرئيس لبلد، حيث يحسب عليه كل ما يقوله من كلام، ويسجل عليه كل ما يقوم به من حركات، وكذا ما يرتديه من لباس.

بذكاء فطري سمج كان يتكلم القذافي، فيقول مقنعا من هم حوله بشتى طرق الإقناع بأن شكسبير اسمه الحقيقي الشيخ زبير، وأوباما اسمه الحقيقي بو عمامة، وبأن الديمقراطية هي تمسمر الناس على الكراسي البلاستيكية في قاعات المؤتمرات الشعبية الباردة القمئة، وغير ذلك كثير.

أما أشنع ما مارسه القذافي من ذكاء فطري مفضوح، فهو لعبه على حبال الوحدة العربية والوحدة الإقليمية، وذلك لا بنية الوحدة كما هو معلن، ولكن بنية الالتفاف على من يتحد معهم من بلدان لضمها إلى ملكه. وهو في كل مرة يمارس فيها هذا العمل يقوم باستخدام تقنيته المجربة والقائمة دائما على ذكائه الفطري وتذاكيه القهري.

أفلح المدرس في إقناع الطلبة بأن حاكمهم المعمر السابق هو أحد مرضى علة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، وهي مهمة لم تكن صعبة، وذلك لما يحمله الطلبة الثوار في نفوسهم من شعور غير ودي تجاه دكتاتورهم السابق.



بيد أن السؤال المهم الذي يتوقع المدرس صدوره من الطلاب في أية لحظة هو:
ما أحقية إسقاط هذه الحالة، حالة الذكاء الفطري، والتذاكي القهري، على بعض أفراد الشعب الليبي، وجعلها أحد إجابات السؤال الخطير المتكرر: من نحن؟

سؤال وجيه جدا، وقد يطرح في أية لحظة، ولكن كالعادة نغص حاسوب اللوحة الذكية على الحاضرين انسجامهم، وقطع بسكين الوقت حبل أفكارهم، فأنهى الدرس على أن يستأنف تداول موضوعه في حصة الدرس الثامن عشر القادمة بعون الله.

محمد الشيباني