الأحد، مايو 27، 2012

تحويل البارود إلى ورود


تحويل البارود إلى ورود. هذا هو العمل الذي نريد!


برغم تحول الدكتاتور السابق من رتبة ملازم إلى رتبة ملك الملوك، وبرغم طول عيشه في أجواء مخملية غاية في النعومة والبذخ، أصر حاكمنا السابق، القذافي، على أن يجعل من رائحة البارود المرعبة، وأصوات الرصاص المخيفة، طبقا يوميا للشعب الليبي، على صوته يمسي وعلى رائحته يصبح.


أطلق الملازم الدكتاتور وأعوانه على أطباق البارود والرصاص التي أكرهونا على تناولها العقود الطوال أسماء دعائية ترويجية كثيرة، من مثل التدريب العسكري، والتربية العسكرية، والشعب المسلح، والأمن الشعبي، وغيرها من تسميات لم تفلح جميعها في إزالة رائحة البارود المقززة، وصوت الرصاص المزعج.


أطفال، من الذكور والإناث، وفي عمر الزهور، أجبروا على ارتداء الزي العسكري، وتجرع ما يتقيؤه العساكر الجهلة الأجلاف الذين احتلوا المدارس الثانوية وما دونها، وأجبروا طلابها ومدرسيها على الانصياع لما يسمونه زورا بالتربية العسكرية.


رائحة البارود والرصاص تلك بعد أن صبغت حياتنا بالداخل، حملها دبلوماسيو الدكتاتور الجلف في حقائبهم الدبلوماسية ذات الحصانة غير القابلة للتفتيش إلى مقار السفارات بالخارج، وجعلوا من تلك السفارات ثكنات عسكرية تأتمر بأمر الملازم الدكتاتور.


في ضحى يوم من أيام الربيع اللندني المزهر الفواح، انطلق أمر الدكتاتور العسكري من داخل حصون باب العزيزية إلى أعوانه، أعضاء مكتب الاتصال باللجان الثورية المتواجدين بالسفارة الليبية بلندن، آمرا إياهم بتفريغ مخزونهم من الرصاص في وجوه وبطون أناس متحضرين يلوحون بآخر وأحدث ما توصل إليه العالم المتحضر في طريقة ونظام حكم الدول، الديمقراطية!


"إيفون فلتشر"، الشرطية البريطانية الشابة التي أوكل إليها حماية المتظاهرين السلميين، وحراسة مظاهرة قانونية يحمل أفرادها رسائل من ورق، ويبعثون بخطابات من كلمات، فهمت بعضها،  وتعسر عليها فهم بعضها الآخر، وذلك لكتابتها بغير لغتها، إلا أن هذه الشرطية البريئة كانت على ثقة كاملة بأن كل تلك الرسائل المكتوبة والمنطوقة لا يمكن إلا أن تواجه برسائل مماثلة لها من حروف وألفاظ.


"”unpredictable 


كنت في ذلك الوقت في بريطانيا أتابع عبر التلفزيون البريطاني ذلك الحدث الجلل، والذي عنوانه: متظاهرون ليبيون من أجل الديمقراطية، يمطرون برصاص من داخل سفارة بلادهم، سفارة الجماهيرية، وكانت هذه الكلمة "”unpredictable من أكثر الكلمات التي ترددت على ألسنة المذيعين والمعلقين، وكذا ألسنة الساسة والمسئولين، وهم يصفون الحادثة غير المتوقعة، وغير المعقولة!


وقعت الشرطية المسكينة على الإسفلت، وأخذت تتلوى تلوي الموت، والدنيا كلها تنظر وتسمع هذا الحدث المرعب الرهيب!


لو تحرك العالم آنئذ، وقام بتأديب ذلك الملازم الجلف، لما بقي هذا الدكتاتور على سدة الحكم أزيد من ربع قرن بعد ارتكابه حدثا أجمعت الدنيا كلها على إدانته.


كان من المفروض خلع صفة الدبلوماسية على فرقة القتل التي كانت متواجدة بالسفارة الليبية، وتقديمها للمحاكمة.


لم يفعل العالم شيئا من ذلك، ودجن الدكتاتور، ليفعل بعد هذا الحادث من أفعال القتل والتدمير ما فعل، وآخر فعلاته الإجرامية البشعة إشعال حرب شاملة ضد الليبيين جميعا، وقتل عشرات الألوف منهم.


عندما يضع رئيس حكومتنا إكليل ورد على النصب التذكاري للشرطية المغدورة، إنما يذكر العالم بخطئه في إمهال القتلة والمجرمين، كما يرسل رسالة بتوقيع الشعب الليبي الذي اختطفه القرصان القذافي على مرأى ومسمع الدنيا السنين الطوال، يعبر فيها هذا الشعب الطيب عن أسفه لمقتل الشرطية البريئة، والتي لم يقم بقتلها الليبيون، وإنما قتلها من دأب على قتل الليبيين، وغير الليبيين.


وعندما يحول رئيس حكومتنا الرصاص إلى ورد، فإنه بذلك يقوم بعمل  يجدر على الليبيين جميعا ممن لا يزالون يحملون السلاح بعيدا عن سيطرة الدولة بعمل مثله، والمسارعة إلى تحويل الرصاص الذي أرعبنا إلى ورد يدخل على أنفسنا السرور.


أشكر لرئيس الحكومة حسن صنيعه.


محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com  

الأحد، مايو 20، 2012

سقط القذافي، وسقط من أسقط القذافي



سقط القذافي، وسقط من أسقط القذافي. احذروا من نفس السقوط أيها المتسلطون!
عند علمي بمغادرة ساركوزي كرسي الحكم، استدعى ذهني، وبشكل تلقائي، حادثة سقوط القذافي عن كرسي الحكم. وبشكل تلقائي أيضا، بدأ ذهني بعقد المقارنات، وإيراد الخواطر، والتي رأيت أن أعرضها في شكلها الخام التالي:

*                       ساركوزي رئيس ديمقراطي زحزحته بنعومة فائقة حبال أراجيح اللعبة الديمقراطية المنسجمة الرائقة، وغيرت رقمه الوطني المسلسل من الرقم "1" إلى رقمه المعتاد، كما فعلت بأسلافه في الجمهوريات الخمس.
*                       القذافي حاكم دكتاتوري جبار اقتلعته جرافات النواميس الإلهية، وقذفت به مجانيقها وكلاليبها من علو، ووضعته حيث يجب أن يكون من هوان ودنو، واستكثرت عليه حتى الرقم المسلسل 6000000.
*                       كان الحاكم الجبار القذافي كلما أسقطت اللعبة الديمقراطية رئيسا أمريكيا أو أوربيا لم يكن على وفاق معه، يبالغ في إظهار سروره وفرحه الفطري الساذج، مصاحبا ذلك باعتزازه بتسمره على كرسي الحكم السنين الطوال، ورسو قدميه الأثيمتين في طبقات الوحل الدكتاتوري الذي أقام عليه قلعة مجده الزائف، وهيلمانه الكاذب. وحتى عند نفاد إمهال الله له وتحقق سقوطه غير المأسوف عليه، أصر على أن يُسقط قبل سقوطه آلاف الضحايا، وأن يملأ الأرض نحيبا وصراخا وضجيجا.
*                       أين هذه الصورة من الانسحاب الصامت الهادئ الأنيق لرئيس تربع على كرسي دولة عظمى كفرنسا، ووضع مفاتيح ترسانتها النووية في جيبه لمدة خمس سنوات!
*                       قبل أكثر من عام بقليل، شاء القدر أن يكون ساركوزي في مكانه الصحيح على لوحة شطرنج الأقدار، ووجها لوجه أمام نمروذ ليبيا، والذي كان على يقين أن لا أحد فوق رقعة الأرض يستطيع أن يمسه بأذى، فضلا عن أن يقتلعه كما فعل ساركوزي به.
*                       فوق رقعة شطرنج الأقدار الوحيدة الكبيرة الخطيرة تلك،  كانت هناك مجرد حجرة صغيرة، يتكئ عليها دكتاتور ليبيا السابق، وبمجرد تحولها من مكانها الحرج الحساس، انفسح الطريق أمام سيل العرم الذي اقتلع جبل القذافي الراسي من جذوره.
*                       شاءت الأقدار أن تجعل يد ساركوزي أداتها في القيام بتنحية هذه الحجرة، ومن تم السماح للسيل بالانطلاق جارفا معه كل شيء.
*                       توجد على كل رقع الشطرنج الديمقراطي المنتشرة على رقعة العالم السياسية حجرة صغيرة مصنوعة من وريقات انتخابية صغيرة الحجم نحيلة القوام، ولكنها ذات أثر جسيم، حتى أنها تتصدى للقياصرة، وتسقط منهم من تشاء، وآخر هؤلاء القياصرة، ساركوزي!
*                       لا أحد أكبر من النواميس الكونية؛ بدءا من فرعون، ومرورا بالقذافي، وانتهاء بساركوزي. كما أنه لا أحد في الحلبة الديمقراطية مسموح له بتجاهل معادلاتها وقوانينها، ولو كان ساركوزي، حفيد صناع الديمقراطية، ومقتلع ملك الجماهيرية الدكتاتورية.
*                       إن في تنحي ساركوزي، ونزوله الأبدي من القمة السياسية بكامل الانسياب والهدوء والأناقة، وبدون إحداث أي ضجيج، لهو أمر يهمنا نحن الليبيين، والذين يدعي الكثيرون منهم زورا أنهم هم من قاموا بإسقاط القذافي ذي البأس والجبروت، وأنهم بهذا يحق لهم أن يتشبثوا بالسلطة التي غنموها، ويتشامخوا ويتفاخروا بها، وربما يتسلطوا ويتجبروا أيضا، وأنهم لن يتخلوا عنها وفق الطريقة الساركوزية أبدا!
*                       من نواميس رب العالمين، وقواه اللطيفة الخفية، تلك القوى التي حركت كوامن نفس ساركوزي، حتى دفعت به ليقف ذلك الموقف المشهود، وغير المتوقع أبدا، ويدخل في حرب مع حاكم هادنه وناصره معظم حكام الأرض، بما فيهم ساركوزي نفسه، طامعين تارة فيما لديه من مال مسروق، وتارة أخرى مخافة ما قد يظهره لهم من عقوق.  
*                       لازلنا نسمع الكثير ممن ينسبون لأنفسهم شرف تحرير طرابلس، أو غيرها من مدن، وواقع الحال يؤكد أن كثيرا من هؤلاء لن يكونوا شيئا مذكورا، إذا ما وضعوا إلى جانب الأعمدة العملاقة التي وضعت عليها قدرة الله ثقل حدث التغيير الخطير في ليبيا، وفي مقدمتهم ساركوزي دون مراء. ولعل من مظاهر إذعاننا لسنن الله، وتسليمنا بقضائه وقدره، هو تواضعنا، وعدم تباهينا بتحقيق نصر لم يكن دورنا فيه بأعظم من دور ساركوزي المتنحي والمتواضع لتلك النواميس.
*                       من هؤلاء الأدعياء المتباهين بما لم يفعلوا، أولئك الذين التقطوا الأسلحة المبعثرة هنا وهناك، وذلك بعد انتهاء المعركة ومغادرة فرسانها الحقيقيين ساحتها، وإصرارهم على القول بأنهم هم من صنع التحرير، وأنهم بذلك هم أصحاب حق مقدس دائم،  وجميل على أعناق الليبيين قائم!
*                       إن من يفعل ذلك ويصرح به ما هو إلا نسخة طبق الأصل من القذافي وعصابته التي دأبت خلال العصر الدكتاتوري البائد على التلويح بورقة الثورة، والتي أصروا على أن تكون مستمرة، (الفاتح أبدا) الآن (الله أكبر)، وذلك ليستمر تسلطهم على الناس والتعدي على حقوقهم.
*                       من المفيد لنا، نحن الليبيين، وفي أيام كهذه نقوم خلالها بوضع حجر الأساس لدولة ديمقراطية أن نقف عند الدرس البليغ الذي كتبته حادثة مغادرة ساركوزي، قيصر فرنسا الديمقراطية، قصر الإليزيه.
*                       هذا الدرس يهم كل الليبيين، إلا أنه أكثر أهمية لأولئك الذين منحهم الحظ فرصة الوقوف في الدوائر القريبة من كعكة السلطة، وكذا أولئك التواقين المتشوفين إليها المتربصين بها، ومن هؤلاء من التحق في أوقات متأخرة جدا بصفوف الثوار، وأصروا بعد انطلاق صافرة نهاية اللعبة على اللعب فرادى، وقيامهم بتسجيل أهداف وهمية في مرمى لا حارس فيه!
*                       إن درس سقوط القذافي العنيف المخيف، ودرس تنحي ساركوزي الناعم اللطيف، لهما درسان أساسيان من دروس سنة أولى ديمقراطية، وهما أيضا سؤالان إجباريان في كل امتحان سوف يتحتم علينا اجتيازه لإحراز شهادة الكفاءة السياسية.
*                       دفعنا من أجل إحراز شهادة الكفاءة السياسية أبهظ ثمن تحمله شعب في العصر الحديث، وإنه لمن المحزن أن يستخف بعضنا بهذا الثمن، ويستهين بأرواح عشرات الألوف ممن قضوا في حرب لم يكن لها من سبب ولا هدف سوى إزالة التسلط وتنحية الطغاة المتجبرين المتكبرين.
*                       إن العابثين بهذا الانجاز الضخم الباهظ التكاليف، لا يمكن بحال أن يكونوا من أولئك الذين عانوا من عسف الدكتاتورية وكابدوا ويلاتها، كما أنهم بالقطع ليسوا من أولئك الذين دفعوا ضريبة الدم، ولكنهم في الغالب الأعم من القاصرين ثقافة وأخلاقا، ومن الطامعين فيما ليس لهم فيه حق.
*                       إن فئة بهذه الصفات الدنيئة لا يمكن أن نتركها بدون ردع، وإن أنجع الوسائل لردع هؤلاء هو فضحهم، وتعريف الناس بشرهم، وسن القوانين القادرة على رصد جرائمهم وتشخيصها وتكييفها ووضع العقاب العادل الفعال لها.
*                       يجب على الحكومة والنخب المصلحة في المجتمع أن يبادروا ويستبقوا مرحلة تشكل الأجسام الدكتاتورية أيا كان نوعها، فيجهضوها قبل أن تولد، كما يمنعوا تجمع القائم منها.
*                        بدل أن تنشئ  الحكومة أجهزة الأمن التي تحمي شخص الحاكم، وتطيل من عمر نظامه، كما كان يفعل حاكمنا السابق، يتحتم على الحكومة أن تقوم بإنشاء جهاز حماية الديمقراطية، وتزوده بكافة الإمكانيات البشرية والمادية، مع الحرص على أن تكون قيادته من قبل نخبة مخلصة من أصحاب العلم والفكر المشهود لهم بالسيرة الحسنة، ويكون  مجلس أمناء هذا الجهاز من ممثلين لتجمعات سجناء الرأي، وذوي الشهداء وأصدقائهم، وكذا من كل الذين اكتووا من نير الحكم الظالم، ودفعوا الثمن الباهظ في سبيل إزاحته.  
*                       وعلى غرار تلك المربعات الأمنية سيئة الصيت التي كانت منتشرة على مسافات لا تزيد أحيانا عن الكيلومتر الواحد، تعد على الناس أنفاسها وتراقب حركاتها وسكناتها، تقام فروع لجهاز حماية الديمقراطية تكون مهمتها محاربة كل مظاهر العربدة والتسلط والتعدي على كرامة الناس وحرياتهم التي يقررها لهم دستور البلاد.
*                       ...........................
*                       ....................................
*                       .......................................... الخ

وفجأة زاحمت كل هذه الخواطر التي ذكرت، وتسلطت وطغت عليها،  خاطرة دكتاتورية أزاحت كل ما عداها، وألقت بكلماتها المحبطة الثقيلة فوق أجنحة خيالي الرهيفة. ورغم ما أحدثته هذه الخاطرة البشعة من غبار وصخب وضجيج، إلا أنني تمكنت من التقاط بعضا من كلماتها، والتي ملخصها:
*                       ساركوزي ليس القذافي، وفرنسا ليست ليبيا.
*                       بفعل الذخيرة الثقافية لمعظم الفرنسيين؛ فإنهم يسمعون ما يقال لهم، ويقرءون ما يكتب. ولكن معظم الليبيين ليسوا كذلك.
*                       البيئة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، وحتى الأخلاقية، طبعت العقلية الليبية بطابع يغلب عليه الجفاء والعنف والخشونة، والفهلوة، وربما التمرد، وحتى العناد والكبر، مما يصعب معه انخراطهم في جوقة منظمة يمكن توجيهها للحصول على نغم متناسق.
*                        فترة السبي القذافي التي امتدت أربعة عقود سيظل أثرها قائما، ما لم تتوحد الجهود من أجل إزالة ذلك الأثر، وتطهير الذاكرة الليبية من قبح ورعب تلك الحقبة.
*                       الكثيرون ترد على خواطرهم مثل تلك الخواطر التي ذكرت، ويتشاركون في الشعور بآلام وهموم الوطن، ولكن افتقادهم لرابطة تجمعهم، يحول دون توحيد كلمتهم، والاستفادة من جهودهم.
*                       النوايا لدى الكثير منا سليمة، والرغبة في الإصلاح متوفرة، غير أن أجهزة التنسيق وتقدير الأولويات لدينا لا تعمل بالكفاءة المطلوبة.
*                       ...........................
*                       ................................
*                       ...................................... الخ

انتهى الدرس"31" الطويل الركيك من دروس سنة أولى ديمقراطية .

محمد عبد الله الشيباني

Aa10zz100@yahoo.com

الأربعاء، مايو 16، 2012

سنة أولى ديمقراطية 30 .. الدائرة الانتخابية رقم 14


الدائرة الانتخابية رقم "14" سقطت ذِكرا، فهل نذكرها فِكرا؟!

علوم الحساب والجغرافيا والتاريخ والسكان والاقتصاد والسياسة والأمن، وحتى علوم النفس، كلها ساهمت بقليل أو كثير في الطبخة الانتخابية الليبية الأهم الأولى.

تابعت بشوق وتوق عملية إعداد الطبخة الليبية الانتخابية البكر في مراحلها الأولى، وبمجرد دخول المهندسين وخبراء الكومبيوتر المطبخ الانتخابي، وشروع فرسان الهندسة والحساب في إظهار براعتهم السامقة، وقدراتهم الفائقة في ترتيب مكونات وصفة الطبخة الانتخابية، وطريقة طهيها وتهيئتها وتقديمها، بدأ دماغي البطيء الكسول بالفتور، وبدأت أصابع قدماي تقصر عن ملامسة قاع البحر الارتماتيكي الانتخابي الذي علت وتلاطمت أمواجه، وتباعد على الهواة قصار القامة مثلي قاعه.

"رحم الله عبدا عرف قدر نفسه ووقف دونه". أجل، فكسل دماغي عرفني بقدري ومقداري، فوقفت دون ذلك، ولم أتخطاه، وابتعدت عن المطبخ وما حواه، سائلا الله التعويض عن فقدان متعة البقاء قريبا من طاجن العملية الانتخابية الذي عربدت رائحته المثيرة الشهية على امتداد مساحة الوطن، وملأت كل زاوية من زواياه.

ولكن، ورغم انسحابي الظاهر، لم يكن لمشاكس مثلي أن يستقر له حال، ويرتاح له بال؛ فبمجرد ابتعادي عن محيط المطبخ الانتخابي، وتخلصي من أسر روائحه ونكهاته المختلطة الكثيرة المثيرة، شرعتُ في تحسس ما علق بذاكرتي الكليلة من روائح ذلك المطبخ،  فلم أجد في ثنايا دماغي الكسول وذاكرتي المثقوبة سوى الرقم ثلاثة عشر المشهور، والذي اختاره مهندسو الطبخة الانتخابية، عن قصد أو غير قصد، ليشير إلى عدد تلك الأكداس الانتخابية المسماة حسابيا وهندسيا بالدوائر الانتخابية.

ومن بعيد، حيث استقر بي المقام، بدت لي تلك الدوائر بوضوح أكثر، فانهمكت في عدها، لا شكا في قدرات المهندسين على العد، ولكنني أحسست بأن ثمة شيء قد سقط سهوا، أو لهوا. هذا الأمر الذي أعنيه، هو غياب الدائرة الانتخابية الأهم، الرابعة عشر!

الدائرة الانتخابية الرابعة عشر المنسية تلك، كانت في مثل هذه الأيام من عام مضى ملء السمع والبصر، ذلك أنها هي الدائرة الوحيدة التي بادر بالتسجيل فيها كل ليبي ضاق ذرعا بالطاغية وحكمه، وجبروته وظلمه.

محيط هذه الدائرة، تم رسمه بدماء الليبيين، وعصارة مهجهم، وخلاصة آمالهم وأحلامهم، حتى أحاط هذا الرسم بحدود ليبيا من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.

بداخل هذه الدائرة الحمراء دارت حربا لم يشهد التاريخ لها مثيلا، وذلك لما تفردت به من سمات سيئة كثيرة عديدة، ولكن أسوأ هذه السمات وأفظعها هو قيام حاكم بإعلان الحرب الشاملة على شعبه الذي حكمه أزيد من أربعين عاما. كما اتسمت هذه الحرب بصفات حسنة عديدة كثيرة، بيد أن أحسنها وأبلغها، هو ذلك الانحياز والاصطفاف الكامل لجنود الأرض والسماء إلى جانب المظلومين طالبي حقهم في العدل والحرية والكرامة.

بُعيد انجلاء هذه المعركة المشهودة، وبعد أن تحقق نصر الله للمظلومين، أخذت خطوط هذه الدائرة التي طوقت ليبيا كلها تستقر وتترسخ، معلنة قيام دولة ليبيا الجديدة بمكونها المادي المعروف، وكذا مصرحة بمكونها المعنوي الزاخر بالمثل والقيم المعنوية النبيلة؛ من حرية، وعدالة، وديمقراطية.

بيد أن المكون المعنوي الأنبل لهذه الدائرة الانتخابية الفذة، هو ذلك الفيض القدسي الغامر لأرواح قوافل الشهداء على مدى أفق ليبيا المكاني الرحيب، ومدى عمرها النضالي المهيب.

آخر صف في كوكبة شهداء ليبيا الأبرار، تشكل من عشرات الألوف من فرساننا الأشاوس الذين كانوا في مثل هذه الأيام من عام مضى يتزاحمون على بذل أثمن ما لديهم، أرواحهم، من أجل صنع الدائرة الانتخابية المركزية الكبرى، ليبيا، تماما كما نتزاحم نحن الآن، ولكن ليس من أجل أن نموت كما مات أولئك الشهداء، بل من أجل أن نحيا حياة طيبة أهداها لنا شهداؤنا الكرام العظام الأبرار.

ليت كل ناخب، وبعد أن يدلي بصوته لاختيار من يمثله في المؤتمر الوطني، يرفع بصره إلى السماء المزدانة بأرواح شهداء الحرية والكرامة ومحاربة الجور والتسلط والطغيان، ويدعو رب السماء بإكرام أولئك الذين اشتروا كرامتنا وحريتنا بأعمارهم وأرواحهم!

ليت كل ناخب، وبعد أن يخرج من مقر الدائرة الانتخابية التي تخصه، يرفع أصبعه المكلل باللون الأزرق، علامة الانعتاق من طاغية العصر، ماحق وساحق الذات والإرادة، ويبصم بهذا الأصبع فوق كل حائط سقط بجانبه شهيد، وكذا على سطح كل رصيف تحمم بعطر دم شهيد!

ليت كل مرشح، وهو يقوم بحملته الانتخابية، يجعل من أسماء الشهداء في منطقته الانتخابية لازمة لفظية، بها يبدأ حديثه، وبها ينهيه، وبها، بعد اسم الله، يشهد ويعاهد على تنفيذ وصية كل شهيد!

ليتنا نسمي يوم أول انتخاب وأعزه وأغلاه، بيوم انعتاق الإرادة الليبية وتحررها، وبيوم ولادة الصوت الليبي الحر، ونقيم لذلك ذكرى سنوية نعيشها ونحييها كل عام!    

ليت المفوضية العليا للانتخابات، تضع في كل دائرة انتخابية صندوقا يخص الدائرة الانتخابية الرابعة عشر، دائرة الشهداء الأبرار، بحيث يكون ذلك على هيئة سجل، يقوم كل ناخب بالتوقيع فيه  بما يفيد تقديسه لدماء الشهداء، كما يؤكد في هذا السجل الناخب والمرشح كلاهما على عرفانهما بجميل كل شهداء الحرية الأبرار، سكان هذه الدائرة الانتخابية الأعظم التي لن نسهو عنها مستقبلا أبدا!
   
الدائرة الانتخابية رقم "14" سقطت ذِكرا، فهل نذكرها فِكرا؟!

تُرى هل تتشرف سلسلة دروس سنة أولى ديمقراطية بأن يكون هذا الدرس هو درسها الحامل للرقم 30 ؟

آمل ذلك!

محمد الشيباني

الجمعة، مايو 04، 2012

سنة أولى ديمقراطية"29" ...... البطء مطل، وقتل للأمل، وإحياء لذكرى هبل


البطء مَطل، وقتل للأمل، وإحياء لذكرى هبل

منذ تفجر ثورة فبراير وحتى تاريخ مقتل القذافي في 20ــ 10 ــ 2011، ظهر هبل في أوضح وأٌقبح صورة له، حيث تمثل في شخص اسمه معمر القذافي رأى في نفسه نصف إله. وبرغم ما أحاطت به هذه الشخصية نفسها من ألغاز وأحاج وغموض، ونسجت من ذلك رداء أسطوريا ألبسته صاحبها، إلا أن هذه الشخصية وصاحبها ظلا حبيسين مكان يضيق وزمان تتزايد سرعة نفاده بازدياد وقع ضربات الثوار على حصن ذلك الدكتاتور المتداعي، وكان كل يوم يمر على كيان هبل المادي المتآكل يومئ بوضوح إلى زواله المحتوم وفنائه المؤكد.


وكأي طاغية، وعند حلول ساعة سقوطه، سقط هبل، وزال وفنى، وتنفس كل الليبيين الصعداء، وتأكد للجميع بشرية نصف الإله، القذافي، وهو أمر أكدته بوضوح تلك الجثة الواهية الهامدة الملقاة على الأرض، وقد بدت عارية من كل مجد مزور وهيلمان كاذب، بل وتعرت عورة تلك الجثة وفقدت حتى من يعيرها مزقة من رخيص قماش!


ظننت كما ظن الكثيرون مثلي أنه بمجرد سقوط كيان هبل المادي سوف يرتفع ويعلو كيان الحق والعدل، ويعم البناء والإصلاح أرجاء البلاد، ويهوي تبعا لذلك كل معلم من معالم الجهل والفساد والطغيان، وتتلاشى رائحة هبل بالكامل، وتتهدم جميع معابده، ويزول أثره من حيز كل مكان، ومن مدى كل زمان، بل وحتى من خطرات كل وجدان.


طيبون كثيرون مثلي، رأوا ما رأيت، فقصدوا مقر القذافي بباب العزيزية، وأعملوا فيه هدما وتحطيما، ظانين أن معركتهم الحاسمة هي مع القوالب الاسمنتية وأعمدة النور وأبراج الاتصالات، تلك المعركة التي سرعان ما انجلت عن انتصار معاول الهدم وتشامخها، وانهزام وخور وشلل سواعد البناء وتكسرها، بل ربما وصل الأمر إلى حد فتور عزيمة التغيير، وخور إرادة الثورة ذاتها.


آخرون غير طيبين، ومع علمهم أن معركة النار والبارود والدخان قد انتهت، وبأن معركة البناء قد حانت، إلا أنهم امتشقوا السلاح، وقاموا بإشهار أسلحتهم المسروقة في وجه المبادئ والقيم المعنوية السامية، من مثل العدالة، والنزاهة، ونصر المعروف، ومحاربة المنكر، وصون المقدرات، وغيرها من مبادئ لا تقوم للوطن قائمة بدونها.


تلك هي الصورة التي بدا عليها الشارع وعوام الناس، أما الصورة التي بدت عليها الحكومة ممثلة في دواوينها وشركاتها ومؤسساتها فقد طغى عليها مشهد التباطؤ وعدم الحسم والتأجيل غير المبرر للكثير من الأعمال، حتى تحول ذلك إلى ما يمكن أن نطلق عليه مطل المقتدر!


موظفو الدولة الذين يعدون بمئات الآلاف جميعهم يتقاضون مرتبات في مقابل ما يقومون به من أعمال، غير أن أعمالا كثيرة من صميم مسئوليات هؤلاء الموظفين طالها المطل المشار إليه، ولم تنجز!


إن اخطر مشكلة تواجهنا الآن، وهي مشكلة انتشار السلاح، والتي يظهر على علاجها بطء واضح، يرتبط القضاء عليها ارتباطا وثيقا بتجمع واصطفاف موظفي الدولة، وحولهم أعضاء المجالس المحلية، وقادة الكتائب المنضوية تحت إمرة الدولة، ومنتسبو الأحزاب، وكافة مؤسسات المجتمع المدني، وشروع كل هذه الفئات في تضييق الدائرة على المعربدين الضاربين بأمن المجتمع وسلامته عرض الحائط.


منذ بضعة أيام أخرج أحد سارقي الأسلحة ممن يقيمون بجواري ما عنده من مخزون سلاح، وأخذ يمزق به هدوء الليل محتفلا بخروج أخيه من السجن بتهمة تتعلق بالمخدرات، وعربد هذا الأفاق ما شاء له أن يعربد تحت سمع وبصر الجميع؛ فلا الجيران كلفوا أنفسهم حتى مجرد الإبلاغ عنه لدى إحدى الجهات الأمنية، ولا أعضاء المجلس المحلي للمحلة حاولوا ولو مجرد تعكير صفو عائلة ذلك المجرم وأخيه. ونام المعربدون المتطاولون على أصداء لعلعة رصاص بنادقهم، منتشين بخمر انتصارهم، متواعدين على جولة أخرى من جولات عربدتهم ومجونهم وهوسهم.


آخرون لا يمسكون بالسلاح وهم يعربدون، وفي وضح النهار يعتدون على الطرقات والفضاء العام ويستحلون ما ليس لهم، ضاربين بالقوانين والضوابط العمرانية والبلدية عرض الحائط.

 ما الذي يمنع رجال الحرس البلدي من تأدية أعمالهم، وكبح جماح هؤلاء العابثين، والذين وهم إذ يعبثون بالقانون لا يستندون إلى حق يدعم فعلهم، كما لا يحملون في أيديهم سلاحا يُخشى خطره، بل كل ما يستندون إليه هو تيقنهم بعدم وجود من يحمل القانون ويأمر بتطبيقه من مثل رجال الحرس البلدي، ورجال الضبط القضائي في عمومهم.


من ذا يجرؤ على البناء في سعة الطريق إذا ما واجهه موظف رسمي له صفة الضبط القضائي، وبيده القانون الواضح الصريح، ولو كان هذا الموظف الرسمي ناصحا ولائما لا آمرا ومانعا؟!


المؤكد أن الغالبية العظمى من المخالفين سوف ترعوي وتذعن للقانون الذي يؤمنون بشرعيته، ويدركون قوته، ويتيقنون بأن يوم تنفيذه آت لا محالة.


ما الذي يمنع قوة الشرطة من رجال  مرور وأمن عام وغيره،  ممن يبعث مجرد تواجدهم بلباسهم الرسمي الهيبة في نفوس المخالفين، ويزرع الأنس في نفوس الخائفين، ما الذي يمنعهم من مجرد قولهم: نحن هنا؟!  


ما الذي يمنع شركات ومؤسسات كثيرة من تصحيح أوضاعها، واستغلال ما توفر لها من حرية في تطبيق معايير الجدوى التي حرمت منها طيلة سنوات اللاجدوى؟


مصلحة خطيرة كمصلحة الطيران المدني، وبما تملكه من جيش جرار من الموظفين وسقف صرف مريح، تعجز عن الوفاء بالتزاماتها الأساسية، حتى يعرض عجزها المريب المشين هذا طائراتنا لعقوبات دولية غير مبررة، وتمنع بسبب هذا التقصير من التحليق في الأجواء الأوربية كلها، وتتحمل تبعا لذلك خسارات مادية جسيمة، فضلا عن انحطاط وتشويه سمعتها!


كيان استثماري عملاق بحجم شركة الاستثمارات الخارجية، والتي يفترض فيها تصدرها وريادتها للاستثمار المجدي، لا زالت ولأسباب غير معروفة تمارس سلوكا غير مجد يعبر عنه بوضوح تسمرها في مقر أسكنها فيه نظام اللاجدوى السابق، هناك في بيداء الهيرة، حيث تتحطم  كل مؤشرات ومعايير النشاط الاستثماري، بل وتنعدم جدوى مجرد السكن والتواجد البشري البيولوجي في بقعة منقطعة عن كل عمران.


إن الإنسان العاقل يعجز عن فهم التجمع والانصراف اليومي المتكرر لما يقرب من المائتين من الموظفين العاملين في مجال المال والاستثمار في مكان لا يمت بصلة البتة لما يقومون به من عمل!


يحدث كل هذا وغيره، وتستمر اللاجدوى، وذلك برغم دفعنا لأبهظ فاتورة إزالة نظام اللاجدوى وإقامة نقيضه، نظام الجدوى والمنطق والأصول.


يحدث هذا السلوك اللامنطقي واللامجدي رغما عن أنف موظفي الشركة أنفسهم، والذين تبرأ معظمهم من هذا السلوك بتوقيعهم على ميثاق رفض الاستمرار في عبادة هبل في معبده بالهيرة، ذلك المعبد الذي بناه كهنة هبل السابقون المنهزمون، والذين لا يزال بعضهم محتفظا بود هبل ومرتلا لتسابيحه هناك عند قدم الجبل!


وبنفس اللاجدوى في شأن المقر، تسلك الشركة طريق اللاجدوى والمماطلة في اتخاذ القرارات الملحة والمؤجلة بتعمد مريب إلى أجل غير معلوم وغير قريب!


تلك مجرد عينة من ظاهرة التباطؤ والمطل غير المبرر، والذي من شأنه أن يجر خسائر مادية جسيمة، إلا أن ما يجره هذا المطل من خسائر معنوية أكبر بكثير!


كل ليبي دفع نصيبه في فاتورة الحرب على هبل. وبالمقابل فإن كل ليبي يتشوق بحرارة إلى قطف ثمرة انتصاره، وله كل الحق في ذلك.


ثمرة انتصار الليبي على هبل اللذيذة جدا، هي ثمرة معنوية تتمثل في شعوره بالانتصار على الظلم والجهل والفساد واللاجدوى، وكل طقوس عبادة هبل، وهي ثمرة أعز وألذ وأثمن بكثير من مجرد رؤيته لعلم متعدد الألوان جديد يرفع، أو شعارات رنانة بها نلوح ونصدع!


ما قيمة هبة الألف دينار البائسة الرخيصة وأنا أجبر على عبادة هبل وإحياء ذكراه المؤذية المؤلمة، وذلك بزيارة معبد هبل بالهيرة كل يوم، وتجشمي السفر اللامجدي مسافة تزيد على مائة وستين كيلو مترا، حيث أرتل هناك تسابيح هبل مع جموع المسبحين المحتفظين بود هبل، أو المجبرين على ذلك؟!


ما قيمة الألف دينار أمام مظاهر العربدة وخرق الأعراف والقوانين من قبل مدعي الثورية والمتاجرين بها، والذين لا تخطئهم العين وهم يركبون السيارات المنزوعة اللوحة والملطخة بأصناف الشعارات(البايتة) المنتهية الصلاحية؟!


ما قيمة الألف دينار وجبال القمامة تسد طريقنا، ورائحتها تزكم أنوفنا، ودخانها يسد رئاتنا؟!


ما قيمة الألف دينار، وطائراتنا التي نركبها تفتقد لمعايير وشروط السلامة، معرضة إيانا لخطر الموت المحقق، وقبله لسبة الناس واحتقارهم لنا؟!


البطء والمماطلة وعدم الحسم والتأجيل غير المبرر، كلها أعمال خطيرة يجب تكييفها قانونيا ومحاسبة من يرتكبها، وذلك  بإعفائه من الوظيفة التي يتقلدها، وإفساح المجال لعناصر جديدة أكثر حماسا وأسرع حسما. وذلك على أقل تقدير.


"البطء مطل، وقتل للأمل، وإحياء لذكرى هبل"


ترى هل تصلح هذا الكلمات لتكون عنوان الدرس التاسع والعشرين من سلسلة دروس سنة أولى ديمقراطية؟


آمل ذلك.

محمد الشيباني   
Aa10zz100@yahoo.com