السبت، أغسطس 25، 2012


الميتون سكان الأضرحة والقبور، والمعربدون ناشرو المخدرات والخمور!

لا خلاف في أن أي مظهر ينكره الشرع والعرف والقانون يجب محاربته وإزالته، ولكن بشرط استخدام الآلة الذكية والمشرط الدقيق، وتغطية كل ذلك بغطاء قانوني محكم.

المشرط الدقيق والآلة الذكية يزيلان الورم بدون ألم يذكر أو أضرار جانبية، والغطاء القانوني يؤمن تقليل الأضرار الجانبية لأية عملية مهما بلغ خطرها إلى المستوى الأدنى!

البلدوزر في مسجد الشعاب أمام الملأ وفي وضح النهار هو بالتأكيد آلة غبية وعمل مستفز، وذلك مهما بلغ ذكاء من يقود البلدوزر وتدينه، ومهما بلغت شرعية العمل الذي يقوم به.

كان بالإمكان إزالة قبر الشعاب بمطرقة وإزميل صغيرين رشيقين، وبدون خسارة ما للمكان الذي يضم الضريح، ومن غير ضجيج يذكر.

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر فأيهما ألح إجراء وأشد خطرا وأجدر بالهدم والاقتلاع قبر ميت شبع موتا، أم معارض بيع الخمور والمخدرات المتبرجة أمام الملأ في وضح النهار، وفي مكان بارز يقع غربي مسجد الشعاب، ولا يبعد عنه سوى بضعة كيلومترات!

أرجوكم إذا قررتم أن تزيلوا المنكر المعربد من مخدرات وخمور وغيرها، فلا تكرروا الخطأ، وتستخدموا البلدوزرات، ولكن استخدموا من فضلكم الآلة الذكية والمشرط الدقيق، ولا تنسوا الغطاء القانوني المسربل.

عابد الضريح، وتاجر المخدرات هما عرضان لأمراض خطيرة تنخر نخاع المجتمع، كما أن ركوب بلدوزر وهدم واجهة مسجد في وضح النهار وبدون إذن أحد، ودون الأخذ في الاعتبار مشاعر أحد، هو أيضا عرض لمرض خطير يعبث بنخاعنا.

ماذا لو كان حول ضريح الشعاب من يخالف وجهة نظر سائق البلدوزر، وأحس باستفزاز ما من قبل هذا السائق ومرافقيه.

إنه من السهل في أوضاع كهذه أن تكلف إزالة الضريح ثمنا باهظا جدا!

الأمر نفسه سوف يحدث لو توجه البلدوزر وسائقه لأوكار بيع الخمور والمخدرات.

انتظرنا طويلا من أجل تغيير أوضاعنا السيئة، وما أكثرها. أفلا ننتظر قليلا من أجل حسن إزالة هذه الأوضاع بآلة ذكية ومشرط دقيق.

الجميع يعرف ذلك، ولكن يبدو أن الطبع يغلب التطبع!

محمد عبد الله الشيباني









الجمعة، أغسطس 24، 2012



الإمارات راضية بنسبة 90%. متى تبلغ ليبيا ذلك؟



وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي

السادة: رئيس وأعضاء المؤتمر الوطني
مقترح بإنشاء وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي

خلال عقدي الخمسينات والستينات  الماضية، ورغم خروج بلدنا ليبيا من بؤرة صراع عسكري كوني، وتملصها للتو من بين أنياب مستعمر إيطالي شرس، إلا أن مستوى الدفء الاجتماعي الذي عاشته خلال هذين العقدين كان أفضل بكثير من نظيره في عقود حكم القذافي الأربعة.

ذلك لأن الملك إدريس كان أبا أكثر من كونه حاكما، وكانت أجهزته الأمنية وبطانته المقربة مكبوحة بما يبديه الملك الأب من شفقة وحدب بالغين على أبنائه المواطنين، حتى بلغت درجة هذا الدفء حدا مكن المتورطين في جريمة الإطاحة بالملك نفسه في بداية الستينات من النجاة من العقوبة المقررة قانونا، وذلك عندما حكمت المحكمة على الانقلابيين العسكريين بالسجن اللطيف، إلا أن الملك أبى إلا أن يزيد في لطف ذلك الحكم، وإلى درجة العفو التام.

وبرغم ما بثه هذا الوضع من دفء اجتماعي محبوب، إلا أنه على الجهة الأخرى ساعد في تفقيس بيوض الأفاعي والثعابين، ويسر، وبكل أسف، أمر الانقلاب القذافي المشئوم.

حاكمنا الدكتاتور رأى في أمن اجتماعي كذلك الذي كنا نعيش ما يشجع كل ليبي على استنساخ العملية الانقلابية، فشرع في هدم صروح الأمن الاجتماعي القائمة جميعها، واستبدلها بصروح لأجهزة أمنية من صميم عملها أن تجعل المواطن في قمة الرعب كلما اقتربت منه هذه الأجهزة وأظلته، كما عزز هذه الأجهزة بلجان ثورية تخصصت في دق الأسافين بين السلطة والمواطن، والمواطن وأخيه المواطن، وذلك من خلال تأجيج النعرات والصراعات القبلية والفئوية المختلفة، ثم غلف كل تلك الإجراءات الخبيثة بغلاف الفقر والجهل الممنهج، ونشر العلل الجسمية والاجتماعية بين الناس.

وإذا ما أنصتنا إلى لسان حال الناس وهم يرفلون في ظل الأمن الجماهيري، فإننا نسمعهم يئنون هامسين بعبارات التعجب والاستنكار التالية:

ــ أي أمن اجتماعي، وكلمة أمن نفسها، وبرغم رقة حروفها وليونتها، وما أسبغها عليها معجم العربية من وردي المعاني، إلا أنها ترادف في المعجم المقابل، معجم المعاني الجماهيرية: الموت، وربما شيئا أكثر رعبا من الموت!

ــ أي أمن اجتماعي يشعر به الفرد، وهو يرى دم البريء يسفك في ألق الضحى والناس شهود!

ــ أي أمن اجتماعي يشعر به موظف المائة دولار في دولة نفطية وهو يرى السارقين يتنافسون أيهم يمارس سرقته المليونية أمام أكبر عدد من العيون!

ــ  أي أمن اجتماعي والفساد الإداري والاقتصادي والسياسي يتحكم في مفاصل الدولة، حتى لونت صبغة الفساد القاتمة وجوه الأشخاص المعدودين المتناوبين على التواجد في تلك المفاصل وميزتهم، وإذا ما صادف ورأيت بينهم وجها غير مصبوغ بتلك الصبغة، فسرعان ما تدرك أن ذلك الشخص قد اخطأ الطريق!

ــ أي أمن اجتماعي وبطاقات الميز العنصري القبلي توزع في الخفاء على خفيفي العقول سفهاء الأحلام، حتى تكاثروا، وصنع منهم الدكتاتور جيشا سرعان ما خلع شعار الوطن وعلق شعار القبيلة، حتى حلت أسماء القبائل محل أسماء أركان الجيش والمؤسسات الحكومية النافذة!

ــ أي أمن اجتماعي وكل يوم يمر يخطف فيه غول المخدرات فلذات الأكباد الذين حولهم الإدمان من صبيان أبرياء يستعجل آباؤهم بلوغهم ونضوجهم، إلى مارقين أشقياء يتمنى ذووهم موتهم!

تحامل بركان الخوف والبأس الاجتماعي الشديد هذا، ولم يكن أمامه بعد هذا التحامل إلا الانفجار. وانفجر البركان، وغطى سواده الوطن بأكمله، لتجري تحت سحابة دخانه حرب منكرة يخجل من ذكرها حتى الذي كسبها!

ولئن أفلحت الحرب في إسقاط رأس الخوف، ولكنها لم تفلح في إسكات من لم يزل يصرخ قائلا:

ــ  أخاف من الذي لا يخاف من الحاكم، والذي لا يقيم للدين والعرف والقانون أي حساب!
ــ  أخاف من الذي لا يرعوي من الطوق الاجتماعي حوله!
ــ  أخاف أيضا، وبشدة، من الذي لا يراني إنسانا مثله، بل يراني وحشا ينازعه فريسته!
ــ  أخاف كذلك من ابن الوطن الذي يقلب التنافس المحمود بيني وبينه إلى صراع وجود!
ــ  أخاف من الذين لا يشبعون!
ــ  أخاف من الحمقى والسفهاء!
ــ  أخاف ممن عربدت الهرمونات العدائية الطبيعية والصناعية في دماغه، فلا يستطيع أن يراني على حقيقة هيئتي كإنسان، بل شيئا آخر مختلفا يجلب له التقزز والغثيان!
ــ أخاف ممن أصبح البارود ومستوعباته جزءا من زينة بيوتهم وألعاب أطفالهم!
ــ أخاف من الذين تصلبت طبلة آذانهم، فيسمعون دوي الانفجار كما لو أنه شقشقة أطيار!
ــ  أخاف من المتألهين، والذين على الله متألين!
ــ  أخاف من الرماديين والمنافقين!
ــ  أخاف من الذين يرون الدموع ماء والدم نبيذا!
ــ أخاف من الذين يعاينون الخطر بأم أعينهم فلا يرعوون ولا يبالون!
ــ أخاف من الذين يطعمون الناس سما وموتا مؤجلا مقابل زيادة خانة أو خانتين في رصيد حساباتهم!
ــ أخاف من صبي للتو أضحى شابا، ثم انخرط على الفور في استحثاث كامل غرائزه وجميع نزواته وصار يتشامخ ويتعالى بها على كل شيء!
ــ أخاف من ذلك المخزون الاستراتيجي من أصناف المخدرات، والتي لن يجد مروجوها الأقوياء صعوبة تذكر في إلقامها لفلذات أكبادنا الغافلين.
ــ أخاف ممن أسكرته العصبية والقبلية فلا يرى القبيلة جزءا من البلاد ولبنة في صرحها، بل تراه يرى البلاد مجرد حصاة في أحد وديان قبيلته البدوية القصية!

كل أنواع الأخطار عاليه معروفة، وهي تتوزع في قطاعات مختلفة  تتولى شانها وزارات وأجهزة الدولة، إلا أن الدور المتوخى من وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي المقترحة أن تلعبه، هو قيامها بدور المجس الحساس الذي يتحسس أعراض تلك الأخطار قبل وصولها، والقيام بمهمة التنسيق بين أجهزة الدولة وهي تتعامل مع هذه الأخطار وتحاربها.  

إن وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي سوف يكون أمامها عمل عاجل قصير المدى يتمثل في لم شمل الوطن، وذلك بالإسراع في عقد مؤتمر وفاق وطني يضم جميع أطياف المجتمع الليبي ممن يرون ليبيا فوق كل الخلافات.

كما أن لوزارة الرضاء والأمن الاجتماعي عمل طويل المدى، تقوم الوزارة من خلاله بالعمل على استئصال كل ما غرسه نظام الاستبداد والدكتاتورية من بذور خوف وانعدام ثقة بين الليبيين، وتزرع بدل ذلك بذور الأمن والثقة والأمل.

المواطنون الليبيون في عمومهم مرعوبون ومحتقنون نفسيا، وذلك بسبب ما تراكم في نفوسهم من سحق معنوي، جراء عدم الشعور بالأمن الاجتماعي، وهي حالة لا يجد الناظر في عين أي ليبي صعوبة في إدراكها.

لا يمكن لنا أن نرقى بمستوى رضاء الليبيين عن معيشتهم في وطنهم، وبلوغ نسبة الرضاء التي أحرزتها الإمارات مثلا، والتي بلغت 90%، دون أن نوكل هذا العمل الجبار إلى وزارة بعينها تستهدف أول ما تستهدفه نزع الخوف من قلوب الليبيين وحقنها بالرضاء.

وليس لدينا أي شك في أن الرضاء والأمن الاجتماعي سوف يكون له الحيز الأكبر في أجندة الحكومة، إلا أن إقامة جسم متخصص يناط به تحقيق هذه المهمة في أقصر مدة ممكنة، مما يزيد في تسارع تحقيق هذه الغاية التي تأخرنا كثيرا في الوصول إليها.

محمد عبد الله الشيباني


الاثنين، أغسطس 20، 2012



حاكموا سيفا. دعوه يتكلم، فربما منه نتعلم!


العدل ميزان كبير بطول وعرض الكون، ومهما اختلف المختلفون، فإن حيزا ما بين كفتي هذا الميزان العملاق سوف يستوعبهم، وسيجدون فيه قاعدة معيارية تترجم فعل كل منهم إلى أوزان قانونية مطلقة مجردة، ثم تضع هذه الأوزان في كفة كل خصم، وتقرأ على الملأ ما كتب الميزان.


أكبر الخصوم وأخطرهم في ساحة الخلاف الليبي القائم، هو المتهم الأول: معمر القذافي، وهو الذي عليه اختلف الليبيون؛ فشطرٌ منهم برّأه وناصره، وشطر آخر جرِّمه وحاربه. ولو أن القذافي حي لوجبت محاكمته محاكمة عادلة، ولأسكتت مطرقة القاضي صخب المتخاصمين مهما علا.


المتاح محاكمته الآن هو سيف ابن القذافي، وهو لا يمكن مؤاخذته بما فعل أبيه، ولكن في محاكمته محاكمة لمرحلة هامة وخطيرة من مراحل النظام السابق، عليها الآن يختصم الخصوم ويختلف الليبيون.


حاكموا سيفا؛

دعوه يُسمع الجميع بأنه كان أحد الليبيين الذين ضاقوا ذرعا بالجماهيرية وسلطة الشعب وتصرفات أبيه الخرقاء. دعوه يردد ما كان يردده وهو يُعد نفسه لوراثة أبيه، وكيف كان يحلم أن يرى ليبيا التي أفسدها أبوه ورجال أبيه.


في أحد خطب سيف التصحيحية منذ سنوات ظننت أن الرجل انقلب على أبيه!


حدثني من خلا بسيف واستمع إليه وهو ينتقد نظام أبيه، بأنه كان يغشاه الخوف وهو يستمع لما يقول سيف عن أبيه ونظام أبيه ورجال أبيه!


في ليلة إلقاء سيف لخطابه المشهور في بداية الأحداث، دخل سيف إلى مقر الإذاعة التي ألقى منها الخطاب، فوجد في استقباله علي الكيلاني، فبادره سيف بعبارة: "خربتونا بيتنا الله يخرب بيوتكم"! لا أجد تفسيرا لذلك سوى سيطرة البطانة على ملك الملوك، وهي التي هدمت بيته!


ربما حاول سيف التحرر من أذرع الإخطبوط، إلا أن مركز قُمَّع الإعصار الذي صنعه أبوه مستعينا بأقطاب نظامه من أعضاء اللجان الثورية وعتاة الأجهزة الأمنية وموالوه من القبيلة القذافية، قام بجذب سيف بقوة إلى الداخل، فتحطمت بوصلته وانخرط في الحرب ضد من كان يمَّنيهم بليبيا الغد والديمقراطية والرفاه والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.


يجب علينا أن نقف قليلا، بل ونطيل الوقوف، في تلك اللحظة التي خلع فيها سيف بذلة عدم قناعته بنظام أبيه، وقيامه باستبدالها بسيف ودرع حاول أن يحمي بهما خيمة أبيه، ولكن بدون جدوى.   



هذه اللحظة، وبكل أسف، تمددت تسعة أشهر، وشملت الآلاف غير سيف، وسببت ما سببت من خسائر، وها هي الآن تتمدد أكثر لتصنع في النسيج الليبي الرخو شرخا عميقا بعمق مليون ذراع.


حاكموا سيفا؛

دعوه يظهر ما كان عليه نظام أبيه من فساد، دفع الابن إلى انتقاد ما يفعل الأب!

حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف بعض ما كان يجري في خيمة أبيه، ويصف لنا   حال أبيه، وقد تحلق حوله مريدوه الأصفياء من لجان ثورية وغيرهم يزينون ما أوحى الشيطان إليه.

حاكموا سيفا؛

دعوه يظهر لنا النقطة التي تحامل فيها جبل الخطايا للنظام السابق، ووصوله إلى نقطة اللاعودة، والتي عندها يفقد صانع الأخطاء القدرة على التصحيح والتوبة، برغم إتاحة ذلك للجميع، إلا من أبى!


حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف لنا عن أسرار الخريطة الجينية لأبيه، والتي لابد وأن بعضا من حلقاتها تشابه تماما الخريطة الجينية لإبليس الذي فقد السيطرة على تغيير مسيره، رغم تيقنه من سوء مصيره!


حاكموا سيفا؛

دعوه يتكلم ليؤكد لنا حال بيت القذافي وأسرته الصغيرة، وكيف كان أهل هذا البيت ينظرون إلى العائلة الليبية الكبرى، وذلك حتى يعلم الليبيون جميعا حقيقة ما يشاع عن ذلك البيت!


حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف لنا سر انقلاب الرؤساء من أصدقاء أبيه على أبيه، وكيف تداعى من بعدهم العالم كله بإنسه وجنه وشجره وحجره على الحاكم الذي قرر حرق شعبه!


حاكموا سيفا؛

دعوه يصور لنا الصورة التقريبية المتوقعة التي رسمها الخبراء العسكريون لبنغازي بعد إطلاق سيف لكلمة السر المرعبة المنشورة على الأثير: "it is too late  "، وذلك في إشارته لعدم جدوى أي عمل يحول دون المذبحة الجماعية لأهل بنغازي!


حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف لنا عن الذي لا نعرفه من ثغور مكشوفة في جدار الوعي الليبي، والتي من خلالها تمكن القذافي من سوقنا أربعين عاما وزيادة نحو حتوفنا!


حاكموا سيفا؛

فربما لا زالت تلك الثغور مكشوفة، وبدل أن كان ثوريو سبتمبر يعلقون عليها شعار" الفاتح أبدا"، يعلق عليها أشباه الثوار الآن عبارات أخرى وهمية!


حاكموا سيفا؛

فقد تجدون أشباها كثرا لسيف، وقد فعلوا ما فعل سيف، فحلموا كما حلم بليبيا الغد، ولكن إعصار القبلية والفئوية والفساد أخذهم بعيدا عن ساحة التحرير وميدان الشهداء، وقذف بهم من ساحة الحرب ضد الطغيان إلى زوايا مظلمة وقاعات اجتماعات منزوية مشبوهة يعربد فيها الطغيان!


حاكموا سيفا؛

فربما الكثير من مناصري النظام السابق الذين يستمعون إلى الأسئلة الموجهة لسيف أثناء محاكمته، سوف يحاولون هم أيضا الإجابة عن هذه الأسئلة، ويحددون بذلك موقعهم من سيف ومن نظام أبيه، وحتى من مصيره ومصير أبيه!


حاكموا سيفا؛

فإن في وقع مطرقة القاضي الحد الفاصل بين المشتبهات الكثيرات، تلك المشتبهات التي يتخلل ورمها الجسم الليبي ويفتته أشلاء!


حاكموا سيفا؛

فلابد أن القضاء بهذه المحاكمة سوف يسجل الكثير من السوابق القانونية، والتي سوف يكون لها مكانا بارزا في محاكمة الكثير من الليبيين من أشباه سيف!


لو كان لي رأي في أمر القذافي ساعة القبض عليه لفضلت مساومته على الإبقاء عليه حيا مقابل تزويد الليبيين بتسجيل كامل عن سيرته، وذلك من أجل اكتشاف أدغال تلك الحقبة السوداء وما فعل شياطين الظلام فيها، والذين لم يكفهم اقتطاع أربعة عقود من دولة وليدة، بل نراهم الآن يمدون مخالبهم إلى الحلم الليبي الرهيف من أجل وأده ودفنه في تراب الحقد والتشاحن والتباغض والانتقام.


حاكموا سيفا، وأذعنوا لحكم القضاء العادل فيه، والذي لن يكون عادلا إلا إذا ذيل منطوق حكمه بعبارة تفيد بسريان الأحكام التي صدرت في حق سيف على كل من فعل فعل سيف، وكذا فعل أبي  سيف.


محمد عبد الله الشيباني



السبت، أغسطس 11، 2012



إلى الرئيس المقريف: تهنئة سطرها التاريخ، ووقع عليها ناموس تداول الأيام




المواقف هي أبرز أسطر التاريخ!


قبل خمسين عاما، وفي بداية الستينات، جمع المقريف وأحد زملائه المتخرجين من الجامعة يومَ تخرج واحد، حيث تملكهما  في ذلك اليوم شعور مشترك كله أمل في لعب دور مهم في بناء بلدهما المستقل حديثا، المملكة الليبية، تلك الدولة الموعودة برفاه اقتصادي وتطور اجتماعي تؤكده الاستكشافات النفطية الواعدة، والتي بدأت طلائعها من ينابيع زيت أسود تتحرر من سلاسل أحقاب الدهور وأثقال جبال الرمال، لتتحول إلى كنوز من ذهب أصفر بحجم تلك الرمال.


تجاوب القدر مع تطلعات الشابين الجامعيين، المقريف وزميله، وتساوق الإيقاع الحالم لسيمفونية قيام الدولة الوليدة، مع لحن نجاح هذين الشابين وتحصلهما على شهادة عليا، مكنت كلا منهما من اعتلاء منصب حكومي مرموق برتبة وزير، وهو ما زاد أملهما تجنحا، وحماسهما تدفقا وانطلاقا.


في بداية السبعينيات، تقلد المقريف وزميله وظيفة سامية برتبة وزير في حكومة شابة يرأسها عسكري شاب. وفي أول يوم يجلس فيه هذان الشابان في المكتب الوزاري، وفي غمرة نشوتهما وفرحهما بالمنصب الرفيع تراءت لهما ليبيا بعد أربعين عاما، وبالتحديد في بداية عام 2011، على الصورة التي عليها دبي في نفس ذلك التاريخ، وربما أجمل.

مرت الأربعين عاما، وجاء العام 2011 حاملا معه صورة مختلفة تماما، حيث أدى التخلف المتنوع المتراكم، والفساد المعربد المتعاظم إلى تفاقم مريع للأوضاع، قذف بالبلاد في حرب شرسة بين الحاكم وجنوده من جهة، وعامة الشعب الليبي من جهة أخرى، وكادت رقعة الحرب أن تتسع وتحرق كل رقعة الوطن، ولكن الله سلم.


وهنا وضع التاريخ قلمه، وأطلق صيحة قوية مرعبة ضمنها سؤاله الاستنكاري الاستفهامي الخطير:

ما مدى مساهمة كل واحد من هذين الرجلين، المقريف وزميله، وغيرهما من تكنوقراط ليبيا السبعينات والثمانينات والتسعينات، وحتى عشرة الألفية الثالثة في كل ما جرى؟

السؤال ثقيل بثقل السنين الأربعين، وهو ثقيل أيضا بثقل جبال الظلم والقهر والتخلف التي صنعتها السلبية واللامبالاة والجبن غير المبرر للكثير من الليبيين الذين ساهم كل واحد منهم في بناء وارتفاع تلك الجبال التي اتخذ الدكتاتور القذافي من كهوفها قلاعا احتمى بها،  وسجونا حبس بها الحلم الليبي وقيده.

ومن سخرية الأقدار، أو قل حكمتها، أن تتحول جبال الظلم تلك إلى رافعة عملاقة اتخذت من يوم 17 فبراير نقطة ارتكازها، ومن الغضب العارم للجماهير المظلومة ذراعا لها، ثم حركت بها الواقع البائس المرير، ودمرت عرش طاغية، جعل من بلد كامل ملهاة يتلهى به هو وأولاده وأزلامه وتابعوه.

عندما أسند القذافي للمقريف منصب رئيس ديوان المحاسبة في بداية السبعينيات، لم يكن القذافي آنذاك صاحب كتاب أخضر ولا نظرية عالمية ثالثة، ولا جماهيرية عظمى، وإنما كان رئيس نظام ثوري طموح من الممكن للمقريف وزملاؤه أن يعملوا معه من أجل بناء دولة ليبيا الحديثة.

وشيئا فشيئا بدأت تظهر على القذافي أعراض ملك الملوك، وأصبحت العلاقة بين رئيس ديوان المحاسبة والسلطة العليا يشوبها الكدر، كما لم يكن هناك سلطة برلمانية، يستمد منها رئيس ديوان المحاسبة قوته، ويرفع إليها تقاريره، بل كانت السلطة، كل السلطة،  مركزة بيد العسكر قادة الانقلاب، أو بالأحرى، بيد العقيد قائد أولئك العسكر وملك الملوك لاحقا.

الأرقام مرآة حادة، بل هي أحدُّ المرايا، وأكثرها جرأة على إظهار ما يعتري وجه الناظر إليها، ولو كان هذا الناظر ذا مزاج حاد، ويستخدم أحيانا المسدس من أجل إجبار الناظرين إليه بالتغزل في عوار عينيه وذمامة خلقته.

غطى العوار العيون، ولا يمكن لشخص في نزاهة وتدين وكفاءة المقريف، وهو يحمل مرآة الأرقام الحادة جدا، أن يسلم من رصاص الدكتاتور، والذي أطلق بعضه للتو على الدولة كلها، بكل مؤسساتها وقوانينها، وأعلن الثورة الشعبية، التي أرَّخ يوم ولادتها المشئوم، قبل حوالي أربعين عاما، ليوم وفاة الدولة الليبية، أو على الأقل دخولها في غيبوبة طويلة المدى.

لو قُدِّر لنا أن نقرأ ردة فعل من وقفوا أمام مرآة المقريف الرقمية في ذلك الزمن المبكر، من عسكر وثوريين وتنابلة سلطان، ممن كانوا يقودون الدولة الليبية، وما خطه تجهم وعبوس وجه أولئك الناظرين ذميمي الخلقة على سطحها البراق، وما قذفت به عيونهم من كره وحقد على كل من كان يحمل مثل تلك المرايا الرقابية الفاضحة، لرأينا في ذلك الوقت المبكر جدا ملخصا وافيا لما جرى خلال العقود اللاحقة جميعها، بل ربما تمكنا من رؤية شلال الدم الذي غطى في عام 2011 كامل سطح المرآة.

انطلق الرصاص على المقريف ومرآته، فلم ينحن الرجل لجمع حطام هذه المرآة، ويقوم بتثبيته وترقيعه كيفما اتفق، كما دأب على ذلك الانحناء والترقيع الكثير من زملائه التكنوقراط الذين لم يفلحوا البتة في إرجاع المرآة المهشمة إلى وضعها السليم، ولكنهم أفلحوا في جعل صورة وجه الطاغية البشع، وعيونه النافثة كبرا وخبثا وخيانة وغدرا، صورة وجه ملائكي، ينز براءة، ويسكب طهارة،  ويتألق هيبة وجلالا.

كلا. ثم كلا!

هذا ما نطق به الرجل، وبلغة صريحة، لا تعرف المواربة، ولا تحتمل التأويل، وجاهر بالدعوة إلى إسقاط الدكتاتور وهو في عنفوان سنوات المراهقة المؤدية لمرحلة ملك الملوك، وكان ذلك في آخر السبعينيات وبداية الثمانينيات.


ببراءة الأطفال، تساءلت آنذاك، ماذا لو لم يجد القذافي من يصنع له المرآة التي يريد، ولم يجد خليفة للمقريف تخالف المقريف. أجل، فالأرقام هي الأرقام، ومراياها هي ذات المرايا التي لا تمت بصلة قربى، أو وشيجة دم لأحد، مهما علا شأنه، وعظم بأسه، ولكن الخلاف في معادن الرجال!

 جاء الجواب على تساؤلي البريء في منتهى الإحباط، وذلك عندما رأيت زملاء المقريف ممن يشغلون وظائف وزارية عليا، يتقبلون كل ما يتقيؤه القذافي الشاذ من أفكار، بل ويروجون لها، ويتكلفون ويتعسفون في ليِّ ذراع الحقيقة، وتسفيه ما تعلموه من علوم، وكل ذلك لا لشيء إلا لإثبات أن القائد المنظر، يرى ما لا يراه الناظرون.

قال المقريف: كلا، وأوقف عمره كله على هذه الكلمة، ذلك العمر الذي جعله القذافي في بؤرة انتقامه، ووجه له كل أسلحته، وحرَّض عليه مرتزقته، ولكن حامل مرايا الأرقام، المقريف، ظل يمسك بمرآة الحقيقة، ويقذف بشعاعها الثاقب عين الطاغوت وأعوانه، حتى تمكن أخيرا من فقئها.

أعود إلى تساؤلي الطفولي البريء: ماذا لو تكررت لفظة "كلا" التي قالها المقريف، على لسان قافلة التكنوقراط الذين مسح فيهم ذلك الطاغية الشاذ كل أوساخه وقاذوراته.

ذكورٌ ستينيون وسبعينيون كثر، قضوا كل عمرهم ركوعا أمام أباطيل وترهات ذكرٍ مثلهم، يعرفون بطلان ما يقول، ولم نسمع أحدا منهم ينبس ببنت شفة، وهو يرى الوطن يقوده إلى الهاوية حاكم شاذ، لم يجد من يقف في وجهه، ويقول له: كلا.

 هي إذن كلمة "كلا" التي تجبرنا دائما بالعودة إليها، عندما نحاول أن نعيد قراءة التاريخ، ونقوم بعقد المقارنات العادلة المفيدة بين رجل قال: لا، وآخر أخرسه جبنه، وربما طمعه عن البوح بها.

لو قال كلمة "كلا" هذه، الصف الأول من التكنوقراط الذين استعان بهم القذافي في بداية عهده المشئوم، ثم تبعهم بقولها الصف الثاني، وحتى الثالث، لوفروا علينا بعملهم المجيد هذا، شلال دماء آلاف الشباب الذين ذبحتهم انفجار شحنات كلمات "كلا" المتراكمة المنحبسة، والتي أحجم عن قولها في الوقت المناسب أجداد هؤلاء الشباب، من زملاء محمد يوسف المقريف، ولكن محمد يوسف المقريف قالها.

أهنئ المقريف تهنئة مضمخة بعبق التاريخ المشرف، ومعجونة بلذة ونشوة تداول الأيام التي شفت صدورنا من ظالمينا، وحققت لنا أمانينا.

التهنئة موصولة أيضا لرئيس وأعضاء المؤتمر الوطني الانتقالي على ما أدوه من أعمال نبيلة، توجوها بتجاوبهم مع اشتراطات لعبة الديمقراطية، وذلك بقيامهم بتسليم السلطة إلى خلفائهم.   


محمد عبد الله الشيباني
    




    

الأربعاء، أغسطس 08، 2012



هيا بنا نقتسم تركة القذافي!

مكرٌ ناعم، ومكرٌ خشن؛ مكران فرَّقانا، فهل تُراهما يوحداننا؟
المكر بنوعيه الناعم والخشن سلاح كل حاكم مستبد، يمارس استبداده ليس اضطرارا أو حزما منه، وإنما بدافع غريزة حب السيطرة والتحكم وبناء مجده الشخصي الذي لا ينبغي لأحد من بعده سوى بني صلبه الحاملين اسمه والمادين حبل مجده بعد رحيله.

الحاكم المستبد الذي على هذه الشاكلة، هو حاكم عامل لحسابه الخاص، وليس له لتحقيق ما يريد سوى المكر برعيته مكرا ناعما يغريهم به فيؤيدونه، أو يسومهم مكرا خشنا يدفعهم به عن طريقه فلا يعيقونه.


في بداية رحلة المكر بنوعيه الناعم والخشن، تكون صورة الحاكم غير جلية، وذلك بسبب التداخل بين صفات الحاكم المستبد بدافع الاضطرار والحزم والصرامة من أجل مصلحة الجماعة، وصفات نقيضه الذي يمارس الاستبداد لأجل نفسه.

خلال الأربعين عاما من سنوات الاستبداد، تشرنق القذافي وسط أربعين طبقة من طبقات المكر الناعم والخشن، تلك الطبقات التي شطرت الليبيين إلى قسمين: قسم استجاب لجرعات المكر الناعم المتعدد الدرجات، بداية من درجة رجل الخيمة الوجيه الواصل المميز، وانتهاء بدرجة عضو مؤتمر شعبي أساسي هزيل، لا يحمل سوى بطاقة عضوية تمنحه حق الحصول على بضاعة الجمعية الاستهلاكية البائسة. وقسم آخر لم تظهر عليه علامات القابلية للمكر الناعم، فلم يكن أمامه إلا تجرع وجبات المكر الخشن التي تتدرج من وجبات الإعدام والسجن ، وتنتهي بوجبات المكر الشعبية السائدة التي يراعى فيها مقدرتها على إبقاء الكتلة البشرية الليبية حية حياة دودية صالحة لتشييد مملكة الاستبداد عليها.


حتى ساعات الدكتاتور الأخيرة حافظت الكتلة البشرية الليبية المغرر بها على الحالة التي صنعها المكر الناعم للقذافي، بينما فعلت الكتلة الأخرى غير المؤيدة عكس ذلك، فبمجرد ارتخاء سلاسل المكر الخشن فكت هذه الفئة قيادها وانخرطت في  الثورة ضد من مكر بها السنين الطوال وجرعها صنوف الابتزاز والهوان.

المعلم الأبرز في هذه الصورة هو وضوح خطوط كل من المكر الناعم والمكر الخشن في خارطة مشهد الثورة المتفجر، حيث لم يغير كلا الفريقين من موقفهما، وهو ما يعني رسوخ تلك الخطوط واستقرارها في النسيج الليبي الرخو.

إن المؤيدين من ضحايا المكر الناعم، لا يمكن لهم، وهم يرون قلعة المكر والاستبداد على حالها التي يعرفون، إلا أن يبقوا على الحال الذي أدمنوه، لا سيما بعد زيادة جرعة التغرير، وذلك بتلوين مشهد الصراع بلون تعرض البلاد لغزو أجنبي بدا وجوده شرطا أساسيا لحسم الموقف المتسارع الخطوات، وهو غزو ما كان ليلحق بالبلاد لولا الفراغ الذي صنعته سياط المكر الناعم والخشن بالجسم الليبي الواهن الضعيف.

أما الفئة الأخرى التي يصنفها النظام بالقوى المضادة، فإن أثر المكر المعنوي والمادي الخشن الذي كابدوه خلال السنين الطوال زادته ردة فعل النظام العنيفة تجاه انتفاضتهم السلمية  وضوحا ورسوخا، فحزموا أمرهم وخلعوا جميع الأقنعة التي لبسوها اتقاء لسياط المكر الخشن الذي لم يكن في سلة ولي أمرهم سواه.

لا يمكن للسقوط غير المتوقع وغير المنظم للنظام أن يفعل شيئا يذكر في خطي مكر الاستبداد العتيقين وتيارهما المعربد، حيث صارت كمية الحركة الكبيرة لهذين التيارين هي الفاعل الرئيسي على الأرض التي تلونت هي الأخرى باللونين المعروفين؛ مخطط، و(سادة)!

أما الآن، وبعد أن انتهت المعركة بين الحاكم وشعبه، وعلى عكس ما يعتقد البعض، فإن الاعتراف بوجود أثر مكر الاستبداد على وجوه الفريقين، ضحايا المكر الناعم والمكر الخشن، يمنح كلا منهما مبررا يقلص مساحة مسئوليته على ما قد ارتكبه من مخالفات في حق الطرف الآخر، لاسيما وأن الطرفين لم يكونا يوما على خلاف، سوى الخلاف الذي صنعه مكر الحاكم بهم.

فالطرف الذي عارض القذافي إنما فعل ما فعل دفعا لمكر مارسه عليه حاكم مستبد، كما أن الطرف الذي أيد القذافي إنما فعل ذلك تمشيا مع واقع حال استمد من حال المغالبة المزمن بعض شرعيته، وهو حال ما كان ليتغير لولا القوة القاهرة.

لا يمكن أن تخلو أي صحيفة دعوى يقيمها طرف ليبي ضد آخر من إشارة لهذين الجرحين الغائرين للمكر الاستبدادي القذافي بنوعيه. وهما جرحان من السهل تحويلهما إلى حجة لأي من الطرفين ليس ضد بعضهما البعض، وإنما ضد طرف ثالث خطط وأغرى وأجبر وابتز وورط، ثم رحل.

أما إذا استوعبنا الدرس أكثر، ولجأنا بدل التقاضي إلى الجلوس تحت دوحة المصالحة ممتدة الأغصان وارفة الظلال، فإنه سرعان ما يعرف كل منا الآخر، وذلك بمجرد تبادل بطاقات الهوية الليبية التي يظهر في منطقة بارزة منها آثار سياط كل من المكر الناعم والخشن الممتدين بامتداد حقبة السبي القذافي الطويلة.


في خلفية بطاقة هويتنا الليبية يرى كل منا بوضوح المدى الزمني والمكاني الشاسع لرحلة السبي تلك، والتي بدأت بمغامرة ملازم بلغ به الانهزام وعدم ثقته في نفسه حد التستر بجنح الليل، وإخفاء هويته علينا حتى تمكن منا.

لماذا لا نحاول رد عقارب الساعة إلى الوراء، ونعمد إلى تحسس خيوط شبكة مكر الماكرين التي التفت حول أعناقنا، ولوت رؤوسنا بحيث لا يرى أحدنا الآخر، ثم قذفت بنا جميعا في حفرة تخاصم وتشاحن واحتراب.

أيها الليبيون:

هيا بنا نقتسم تركة القذافي التي، ورغم أنها تحوي أبشع ما ترك حاكم لقومه، إلا أن كومة البشاعة تلك تحوي بقايا سياط المكر الناعم والخشن التي يطابق قطرها تماما آثار ما في وجداننا من شروخ، وما في أعماق قلوبنا من ندوب، وتلك لعمري بينة واضحة على براءة الوجدان الليبي المظلوم، ودليل قطعي على تورط الحاكم المشئوم.

فهل ترانا بعد إدراكنا لكل ذلك نختلف؟
لا أظن.

محمد عبد الله الشيباني

السبت، أغسطس 04، 2012



في الطريق إلى مجلس المصالحة.

+ لابد من تقييم ومحاكمة النظام.
ــ أي نظام تعني؟
+ النظام السابق بالطبع.
ــ ولكن هذا طلب متأخر، فمرحلة التقييم هذه كان يجدر بها أن تسبق مرحلة المطالبة بالإصلاح، وكذا مرحلة الإقدام على الإسقاط!
+ أجل، ولكن التقييم الذي أعنيه ليس من أجل ترميم وترسيخ نظام قائم، ولكن من أجل إقامة نظام جديد، مع عدم تكرار أخطاء سابقه.
ــ ما دمنا استطعنا إسقاط النظام، فنحن بلا شك قادرين على تقييمه، ورصد أماكن الخلل فيه التي أدت إلى إسقاطه، وكذا الدعوة إلى تلافيها ونحن نبني النظام الجديد.
+ حقيقة الأمر أن عملية الإسقاط كانت أمرا قدريا، ولم يكن دورنا فيه إلا دورا مساعدا بسيطا.
ــ لا يهم، فالعبرة بتمام السقوط. ولكن هل انتهينا؟
+ كلا. للتو بدأنا، فقد انتخبنا المؤتمر الوطني، وقريبا ستشكل الحكومة، ويستأنف الوزراء الجدد عمل الوزراء السابقين،........... وهكذا.
ــ سقط النظام السابق منذ تسعة أشهر، إلا أن النظام الذي كنا نحلم به لم نر شيئا من ملامحه حتى الآن.
+ ماذا تريد أن ترى؟
ــ أنا لا أريد أن أقوم صباحا فأجد المدن الليبية على غرار المدن السويسرية مثلا.
+ ماذا تريد إذن؟
ــ أريد أن أرى الليبيين كلهم على قناعة واحدة بأن ما دفعوه من تضحيات جسيمة كان له مقابل مجز تمثل في تغيير نظام قد تيقنوا من تخلفه وفساده، وأنهم الآن يشرعون في تأسيس نظام آخر متحضر خال من علل النظام البائد!
+ ولكن الليبيين كلهم تقريبا على هذه القناعة.
ــ كلا. إن القناعة التي أعنيها وأرجو تحققها، هي معرفة الليبيين الكاملة والمفصلة بالأخطاء الحضارية الجسيمة للنظام السابق، والتي نشأت مباشرة بسبب الوعي المعيب الذي كان سائدا.
+ كأنك لا تريد محاكمة الأشخاص المخطئين، وفي مقدمتهم بالطبع رأس النظام، القذافي.
ــ إن الشق الجنائي الصرف في القضية لا يهمني، فالناس خطاءون وسيقتص المظلوم من ظالمه عاجلا أو آجلا. ولكن الذي يهمني هو مقاضاة الوعي الذي كان مسيطرا علينا، وتحديد أخطائه الكبرى. تلك الأخطاء التي كانت وراء حرمان طرابلس من أن تكون كدبي، كما جعلت مطار بنينة يقصر عن محاكاة مطار كمطار أبو ظبي مثلا، أو تلك التي جعلت مستشفيات تونس أقرب من المستشفيات الليبية، ثم لم يقف الوعي المثقوب عند مجرد قصورنا الحضاري المعروف، بل دفع بنا إلى أتون حرب أهلية.
+ ولكن الليبيين كما ترى قد انتعش وعيهم السياسي الآن، وها هم منغمسون حتى آذانهم في مناقشات لا تنتهي عن الاتجاهات والمدارس الفكرية السياسية؛ من علمانية، وليبرالية، وحداثية، وتراثية، وكثير غير ذلك، بل إن بعضهم يطالب بالفدرالية.
ــ  بدأت أكره هذا النوع من الوعي، وذلك لأنه أخذ أكثر من حقه، وأدى الاهتمام المفرط به إلى التفريط في الشيء الذي ثرنا من أجله، وهو انتشال ليبيا بسرعة من التخلف إلى التحضر. 
+ كأن الوعي الذي تعنيه ليس مجرد الوعي الباني للأبراج السياسية، وإنما الوعي الباني للأبراج الحضارية المعنوية والمادية، وهو الوعي الحضاري الرشيد القائم على المُثل الأخلاقية السامية، والحقائق العلمية الراسخة، والمتصلة روافده بتيار الوعي الإنساني المتراكم والمتطور أبدا.
ــ هذا واضح، ولكن ما علاقة هذا بتقييم أوضاع نظام سابق، وما كان يسوده من وعي؟
+ إن العقود الأربع الماضية من عمر دولتنا الليبية بخيرها وشرها هي ملك لنا، وإن أقل ما يمكن أن نجنيه من التجربة المريرة السابقة هو تجميع أرشيفها وتحليله واستخلاص البلاسم الشافية منه لاستخدامها في مداواتنا من عللنا الجسيمة القائمة، والتي تمنعنا من مجرد التزحزح من المكان الذي سمرتنا فيه أغلال الدكتاتورية.
ــ أرى هذا الكلام فضفاضا. هل لك أن تعطي مثالا؟
+ إن أبرز ما يواجهنا الآن من مشاكل هي مشكلة المصالحة، وإن أبرز عناصر هذه المشكلة هو حصولنا على اتفاق الجميع على تقييم مشترك للوعي الجمعي الذي كان يحكمنا، ومدى مسئوليته في التسبب في الكارثة التي مرت بنا، ومن ثم المباشرة في اصطفافنا صفا واحدا من أجل ليبيا الواحدة.
ــ كيف نقيِّم وعينا الجمعي وآثاره، ونحن جميعا مسئولون عنه.
+ ألم أقل لك بأننا لن نقوم بمحاكمة أشخاص، ولكننا سنقوم بوضع إشارة صح أو غلط على مخرجات فعاليات وعينا التي أدت إلى أحداث هامة وخطيرة.
ــ ماذا تقول، إنك تتكلم عن أربعين عاما من حكم شخص مثير للجدل أصر على ديمومة الثورة حتى آخر رمق له.
+ ها أنت ذا تسجل التقييم رقم واحد والأهم للوعي الذي كان مسيطرا خلال حكم القذافي، ألا وهو إرهاق الناس بكلمة ثورة، تماما كما يفعل أدعياء الثورة الآن.
ــ هل تعني ثوار فبراير! إن تلويح الثوار بالثورة واحتفاظهم بأسلحتهم حتى حينه هو لأجل حماية الجماهير وثورة الجماهير.
+ تعني ممارسة الوصاية على شعب انتخب مجلسه الوطني ديمقراطيا. إن هذا السلوك لهو نسخة طبق الأصل لنواتج عمليات الوعي التي سوغت للقذافي لعب دور شيخ القبيلة المسماة ليبيا، ومن بعد ذلك تسمية نفسه وبدون حياء بملك الملوك.
ــ حقا إنك أنعشت ذاكرتي، وحفزتني على أن أوافيك بالكثير من نماذج الوعي المثقوب الذي كان مسيطرا علينا.
+ بكل تأكيد، فكل واحد منا يحمل في الجزء الأسود من ذاكرته الكثير من التجارب القاسية والذكريات الأليمة، إلا أن مجرد سرد واجترار هذه الذكريات ليس كل ما نريد.
إننا نريد أن نكون عمليين، وذلك بأن ندعو المؤتمر الوطني إلى تشكيل محكمة خاصة تكون مهمتها تقييم وعي الليبيين حكاما ومحكومين خلال العقود الأربعة الماضية، والخروج بأحكام عادلة وقطعية عن كل قسم من أقسام خريطة الوعي الذي أنتج أحداثا جسيمة، سواء كانت تلك الأحداث حسنة أو سيئة.
قضية "لوكربي" مثلا، ذلك اللغز المحير، تُرى أية حالة من الوعي كنا عليها حتى أسقطنا أنفسنا في تلك الهاوية التي لا قرار لها. أيضا تورطنا في حروب ذهب ضحيتها الآلاف منا، وكلفتنا الكثير من مقدرات الوطن.
تُرى أي وعي بائس كان يسكننا حتى أعمى بصائرنا عن السقوط في هاوية الموت والخسارة تلك.
بالإضافة إلى القضايا الأمنية والعسكرية الكثيرة والخطيرة التي مارسناها بوعي أخرق ظاهر النزق والسفاهة، فإن ذات الوعي القاصر هو المسئول الأول عن تخلفنا الاقتصادي والاجتماعي.
ــ هذا صحيح، وخير دليل عليه الحالة التي عليها البلاد الآن.
+ المشكلة أن الكثير منا لا يقنعه ذلك، وهذا من حقه.
ــ  ما الحل إذن؟
+ ليس هناك حل أفضل من التقييم المحايد، والقيام بوزن المشكلة بميزان القضاء العادل.
ــ أجل إن أحكام المحاكم العادلة هي أحكام حق يرضي بها الجميع، وتوفق بين المتخاصمين، وتزيل الضغائن والأحقاد، وتجمع الشتات وتوحد الصفوف.   
أما ما عدا ذلك من أحكام شخصية، فهي أحكام باطلة يطلقها الكثير منا الآن، فلا تزيد إلا الصدور توغرا، والجموع تشتتا، بل قد تشعل الحروب وتخرب الأوطان.
فهل يا تُرى تجد هذه الدعوة، دعوة محاكمة وعي النظام السابق وتقييمه، آذانا صاغية.
آمل ذلك.
محمد عبد الله الشيباني