الثلاثاء، أبريل 30، 2013

الفورة مستمرة


الحكومة بين استمرار الفورة، وبطء الدورة!

كان الدكتاتور القذافي وهو يتلهى بسحقنا معنويا وماديا يردد ومن ورائه كومبارسه الأثيم العبارة سيئة الصيت: الثورة مستمرة!

واستمرت ثورة الفاتح أبدا في سحقنا العقود الطوال،  ونجحت في ذلك أيما نجاح، إلا أنها فشلت فشلا ذريعا في تأسيس دولة، ولو بمقاس دولة صغيرة فقيرة كدول ناشئة كثيرة نعرفها، والتي وإن كانت قد حرمت من نفط الجماهيرية ونظريتها العالمية الثالثة وقائدها الأممي، إلا أنها تمكنت من تأسيس دولة وشرعت عجلات قطارها الحضاري في التحرك.

يبدو أن الثورة أو الفورة خاصتنا، نحن سكان هذه الأرض الخشنة قليلة الماء حد التيبس والمتحجرة حضاريا حد التخلف والتكلس، هي حالة إدمان ما إن يستبد حشيشها برأس متعاطيها حتى يعقد معها زواجا كاثوليكيا لا يفصلها عنه إلا الموت هادم تلك الرأس التي يسكنها هذا الإدمان.

إدمان القذافي تعاطي حشيش ثورته المستمرة أبدا، لم تفلح عشرات آلاف أطنان الديناميت من اجتثاث جذوره الضاربة في الأعماق، وانتشال فريسته، القذافي، من غيبوبة إدمانه الجنوني؛ وحتى وهو يواجه  هادم اللذة ونازع الإدمان من جذوره، الموت، لم يفق القذافي من سكرة ثورته، حيث وهو بين الحياة والموت رأيناه ينحو باللائمة على من جاءوا يفسدون عليه نوبة أو حقبة إدمانه ذات الأربعة عقود، لا بل إنه وصف منتزعيه من سكرته تلك بأبناء الحرام ومرتكبيه!

والمدمن ليس في حاجة أبدا لمن يمنحه مبرر إدمانه، وكذا شرعية وقانونية ما يفعله أثناء ذلك، حتى إنه لا يمكنك إلا أن تتعاطف مع المدمن وهو ينسج ألف دليل ودليل من أكداس خيوط السكرة الواهنة وهن خيوط العنكبوت، والتي تتراءى لناسجها الموغل في إدمانه أقوى وأمتن من خيوط الفولاذ.

إن انهماك الليبيين، وخاصة الشباب منهم، في الحرب التي دارت بينهم وبين القذافي وأعوانه، والتي استمرت ما يقارب العام، وتحولهم بعد ذلك إلى كتائب مسلحة هشة الانضباط، مع ما صاحب ذلك من أجواء درامية غشت مسلسل سقوط نظام سياسي معقد ومثير للجدل؛ إن كل ذلك عمل على ملء الفراغ الكبير لدى هؤلاء الشباب الذين يعاني الكثير منهم من البطالة، كما أن قسما كبيرا من الذين التحقوا بصفوف الثوار بعد انتهاء الحرب، والذين يعدون بالآلاف هم سجناء جنائيون فكت الحرب قيودهم، ليجدوا أنفسهم دونما جهد بذلوه في صف المنتصر مما منحهم أحقية حيازة السلاح وجمع غنائم الحرب المعنوية والمادية المغرية، وهو حال من الصعب التفريط فيه مقابل عيون دولة ليبيا السوداء، والتي لا يمكن لهؤلاء الشباب أن يرونها أبدا وهم يرتدون نظارات الفورة قاتمة السواد!

إن استمرار الثورة أو الفورة هو الضامن الوحيد لتمتع هؤلاء بما كسيوا، وليس من السهل إقناعهم بالتخلي عن هذه المكاسب إلا ترهيبا بواسطة القوة المكلفة وغير المتوفرة، أو ترغيبا بواسطة ملء  الفراغ الذي ستتركه فقاعات الفورة التي تحاصر وتقف أمام عجلات قطار الدولة!

لم أمر بمجموعة من الشباب، وخاصة عديمي الشغل محدودي الثقافة إلا ووجدتهم يخوضون في أمر الشأن العام بمختلف درجاته؛ بدءا من نطاقه البلدي المحلي، وانتهاء بمستواه الأعلى المتمثل في البرلمان والحكومة!

هؤلاء الشباب، والذين معظمهم يحوز السلاح ويتبع كتيبة، تجدهم عندما يتكلمون في الشأن العام لا يتكلمون بلسان حال الناقد الموضوعي لتصرفات الحكومة من أجل محاورتها بهدوء والوصول إلى فهم مشترك للمشاكل المطروحة، ولكنهم يتكلمون من فوق وبلهجة مشحونة بالوعيد والتهديد، وتراهم أسهل ما يقترحون من حلول هو القيام بتنحية شاغلي الوظائف الكبرى المتعلقة بالشأن الذي يخوضون فيه.

ولأن الفورة مستمرة، فإن النتيجة الحتمية لمثل هذه المناقشات في ظل الفراغ الأمني هو تحولها إلى أفعال أقلها حملة فيسبوكية شرسة، وآخرها اقتحام وربما اعتداء وخطف المسئولين المستهدفين. ودائما المبرر موجود وهو الفورة وشرعيتها!

تماما وبكل الانطباق، نرى التقابل والتكافؤ بين شرعية الأعمال بل الجرائم الثورية التي كان يقوم بها القذافي وأعوانه، وبين من يحملون نفس السلاح الذي خوفنا وأرهبنا به القذافي وهو يردد: الثورة مستمرة والفاتح أبدأ. وكذلك وهو يقترف جرائمه الثورية مدعيا شرعيتها بشرعية الثورة ذاتها.

ولكن ألا يكون لهؤلاء الشباب المحتقنين بعض الحق، وهم يرون مؤشرات كثيرة تشي بوجود بؤر سلبية في أداء الحكومة، وخاصة ما يعتري الحكومة من بطء دورتها وتراخي وتيرة حركتها، وأحيانا تسيبها وإهمالها؟!

لابد أن الحكومة تدرك أن شطرا كبيرا من عملها هو عبارة عن عملية إطفاء لحرائق كثيرة منها ما أشعله النظام السابق، ومنها ما نجم عن عملية التغيير نفسها، وهذه الحرائق تتطلب سرعة وذكاء كبيرين عند التعامل معها.

أجل يجب على الحكومة في هذه الظروف الحرجة أن تنبغ كثيرا في فقه الأولويات وهي تؤدي أعمالها، وأن ترى من أكثر من زاوية لقائمة مسئولياتها وأهدافها، وحبذا لو أعطت للزاوية الثقافية والنفسية والاجتماعية حقها وهي تمارس دورها الصعب، ذلك أن هناك خيوطا كثيرة تربط بين المحتجين على أداء الحكومة وحالتهم الثقافية والنفسية والاجتماعية.

ليس هناك أي مبرر لتقويم عمل الحكومة بالسلاح، كما أن بطء الحكومة وقلة حنكتها وأحادية وضيق زاوية نظرها يمنح الكتلة المحتقنة من عوام الناس مبرر إثارة الحكومة، وربما عرقلتها.    

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

    



السبت، أبريل 27، 2013

مستحضرات ترطيب السحنة



مستحضرات ترطيب السحنة وتفريغ الشحنة!

احتلت إعلانات مستحضرات ترطيب البشرة وتنعيمها مكانا بارزا في وعينا، وذلك بعدما تربعت هذه الإعلانات في كل مكان؛ بدءا من إعلانات التلفزيون الباهظة الثمن، مرورا بالإعلانات الجدارية، وانتهاء بوجود تلك الإعلانات على المغلفات المختلفة.

مبرر الصرف الباهظ على الإعلانات، هو ما تخلفه طَرقات هذه الإعلانات المتكررة من أثر نفسي وذهني لدى جمهور المستهدفين بها.

ليس شرطا أن كل من طالع إعلان ترويج مستحضر ترطيب البشرة يكون مستهلكا لهذا المستحضر مهتما به، ولكنه من المحتم أنه كلما طالع أحد هذا الإعلان، بادر بتحسس يديه، ونظر في كفيه، وأقام رابطا ما بين ما يعانيه من خشونة مؤذية، وما يتيحه مستحضر الترطيب المعلن عنه من نعومة مغرية!

ومع تقدم الزمن، واستمرار انتصاب تلك الإعلانات في كل مكان، وزيادة رواج هذه السلعة بزيادة عدد المستهلكين لها، سيقل تبعا لذلك عدد أولئك المعانين من الخشونة البدنية بجميع أنواعها، أو على الأقل تشبع أفكارهم وأحاسيسهم بها.

أردت من هذا المدخل البسيط لأعقد مشكلة يعاني منها الشعب الليبي، ألا وهي مشكلة خشونة السحنة واضطرام الشحنة، الربط بين الإعلان الإرشادي عن مشكلة ما، وشعور وتفهم الشخص محل هذه المشكلة لمشكلته التي يخصها الإعلان.
هل يعلم جل الليبيين بأنهم يعانون من مرض خشونة السحنة واضطرام الشحنة؟

غالب الظن لا!

هل هناك مستحضر ما يرطب السحنة ويفرغ الشحنة أصلا؟

أيضا غالب الظن لا!

المستحضر الوحيد لعلاج مرض خشونة السحنة هو نجاحنا في إعلام الشخص المصاب بعلته، وإقناعه بالعمل على التخلص منها.

لا سبيل لذلك إلا بالقيام بحملة إعلامية إرشادية ذكية منظمة يتولاها أهل العلم والدراية من أطباء نفسانيين وإخصائيين اجتماعيين وفني إعلام وإعلان وغيرهم.

لا تقف هذه الحملة عند مجرد التعريف بهذا المرض والإسراف في عرض البيانات والإحصائيات وغيرها، ولكن يتحتم عليها مد نطاق عملها إلى المناهج التعليمية بدءا من مراحل التعليم الأولى التي يجب أن يتم النظر في كل القائمين عليها من مدرسين وغيرهم وذلك لضمان تجاوب سحنتهم التي يظهرون بها أمام النشء مع ما يلقنونهم إياه من دروس تربوية ونفسية منعمة للسحنة، وذلك للحؤول دون انتقال جين الخشونة والرعونة من أسلافهم واستقراره في نفوسهم ومداركهم المحدودة الغضة.

رب قائل يقول نحن لسنا في حاجة إلى إرشاد بهذا الخصوص وتراثنا الديني والثقافي العام مشبع برسائل وأوامر الحث على الرفق: "الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما انتزع من شيء إلا شانه"، وكثير كثير غير ذلك!

ظني أن هذه الرسائل الدينية لم تصل إلى المستهدفين بها، بل ولم يعلموا أنها تعنيهم أصلا، وإلا لشاع الرفق بيننا، ولما بدأنا على هذا الوضع المخجل الذي يعاني منه حتى أولئك الذين يبالغ الكثير منهم في الظهور بمظهر المتدين، وهم في غاية الخشونة والغلظة والجلافة!

أين الخلل إذن؟

الخلل، وفق وجهة نظري، وفيما يتعلق بالحالة الليبية بالخصوص، يكمن في المحيط الليبي ككل والذي تعرض خلال عمره إلى ضربات قوية منعت مكوناته من الانتظام والانسجام وبكيفية تمكن من تنفيذ كورس علاج نفسي أو اجتماعي شامل كهذا الذي بين أيدينا.

يشترط الأطباء في الحالات المرضية المعقدة ضرورة وضع المريض في البيئة الطبية المتكاملة لتناول أدوية علاج مرضه، وهي أدوية قد تشفي المريض وهو في بيته، إلا أن تواجد المريض في البيئة المثالية للعلاج يؤمن فرصا أكبر للشفاء.

أجل فرصة شفائنا من عللنا النفسية وفي مقدمتها خشونة السحنة تكون أكبر عندما نضع تحت اللافتة المنتصبة في الرصيف والمكتوب عليها عبارة: "الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما خلا من شيء إلا شانه" حاملات زهور تمتد على مدى الطريق المثقل بإعلانات مزيلات الخشونة والعنف القولي والفعلي، وكذلك كبح أبواق السيارات ومنعها من تلويث البيئة السمعية بأصواتها النشاز، ومنع العابثين بالتواجد في طريق الناس ومعاكستهم، وكثير غير هذا من صور الرعونة والخشونة والعنف.

إذن بات من المحتم علينا ونحن نفكر في حل مشكلة خشونة سحنتنا البحث عن البيئة المثالية لتنفيذ خطة العلاج هذه.

أنصح، ونحن بصدد تنفيذ مشاريع التنمية الحضرية، القيام بإتباع نهج إنشاء المدينة السكنية الكاملة، والتي تشتمل بالإضافة إلى المساكن كافة متطلبات البنية التحتية لهذا المجمع الحضري الحديث، والذي سيكون البيئة المناسبة لتنفيذ خطة العلاج النفسي والسلوكي المذكورة.

ستقوم هذه المدن عند اكتمالها، بالإضافة إلى دورها الأصلي في إيواء سكانها، بدور المرشد والموجه لمن يأتيها زائرا، وستنتشر عدوى النظام والانسجام والرفق من هذه المدينة إلى كل المناطق حولها.

وحتى يتم ذلك لابد لنا أن نعلم أننا نحن الليبيين ذوو سحنة خشنة يجب تنعيمها، وذوو شحنة مضطرمة يجب تفريغها!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

الخميس، أبريل 25، 2013

أرناود فان دورن...........


أرناود فان دورن؛ هل لقننا، أم لقناه درسا؟!

انتقل مؤخرا السيد " فان دورن"، السياسي الهولندي، في موقفه من المسلمين ونبيهم ودينهم من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال؛ حيث تحول وبسرعة مذهلة من النقد الحاد وربما الوقح للإسلام ورموزه، إلى الوقوف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقوفا يشبه كثيرا وقوف الشاعر كعب ابن زهير بن أبي سلمى الذي أمعن هو الأخر في هجاء الرسول حد الإيذاء، ثم هداه الله وتاب عليه ليجيء إلى الرسول تائبا متأسفا، فما كان من النبي إلا أن عفا عنه وخلع عليه بردته، ولتظل هذه البردة محفوظة عبر القرون وحتى وقتنا الحاضر، مرسلة ظلها الوارف على طوابير اللائذين بحماها، بدءا بكعب بن زهير، وليس انتهاء بفان دورن!

وبمجرد انتشار خبر إسلام فان دورن، وكعادة الكثير منا، تسرع بعضنا، ورفع شارة النصر على عدو الإسلام أمس ومعتنقه اليوم، مرجعا إقدام هذا الرجل الأوروبي المتحرر من كل قيد على اعتناقه دين الله إلى بأسنا نحن المسلمين وبلائنا الشديد في مواجهته وأمثاله وهم يمارسون جريمة سبهم لديننا وفق وجهة نظرنا، ونقدهم الفكري والإعلامي له وفق وجهة نظر أولئك القوم المقيمين في بيئة غير بيئتنا والمتشبعين بثقافة غير ثقافتنا.

ولكن، هل حقا انهزم فان دورن في حربنا التي أقمناها ضده، والتي دخلناها بسيل جارف من عواطفنا وحماسنا الفطري، حتى تحولت من ساحة سجال بين رأي ورأي آخر مهما كان تطرفه، إلى ساحة اشتباك بكل الأسلحة التي تستخدم في كل شيء بدءا من المقاطعة الاقتصادية وحتى قطع الرؤوس، إلا أنها غير ذات جدوى في ساحة الحوار وسجال الآراء والأفكار.

فان دورن لم ينهزم، بل انتصر مرتين؛ مرة هناك في بلاده عندما آزرته وناصرته الديمقراطية وحرية الرأي والفكر ولم تضع أمامه أية إعاقات وهو يمارس مراهقته الفكرية الدينية، والتي كانت بمثابة إرهاص لابد منه للوصول إلى قناعته الأخيرة وتحوله إلى الدين الذي كان يحاربه، بل ربما كانت تلك المرحلة التي شهدت تلك المراهقة وذلك الإرهاص مرحلة لابد منها لانتقال فان دورن وغيره من الباحثين عن الحقيقة. كما أن محاولة البعض قطع خط سير هؤلاء، عن سوء نية أو حسنها، ربما يتحول إلى حالة وقوف في وجه التيار الطبيعي للأمور، ومعاكسة لنواميس وقوانين الأشياء!

أما المرة الثانية التي انتصر فيها هذا الرجل فهي عندما أقبل على النبي زائرا ضريحه، وهو أحسن حالا من كعب ابن زهير، حيث لم يجئ متخفيا خائفا كما فعل كعب، وإنما جاء مطمئنا كامل الإرادة .. كيف لا، وهو سيستخدم هذه الإرادة في رحلة روحية إيمانية سامية الدرجات بعيدة المداءات للوصول إلى الله رب السماوات.

يثيرني ذلك السؤال المهم، ويدفعني إلى طرحه مرة أخرى، ولكن من زاوية ثانية: هل الله هو من قلَّب قلب فان دورن، بعدما أكمل رحلته العقلية والفكرية الضرورية، وألهمه إلى الإسلام ومصالحة نبيه والوقوف بين يديه؛ أم أن فان دورن هاله وربما أرعبه ما رأى من ردة أفعالنا نحوه جراء فعلته التي أخرجت الكثير منا عن طورهم، حتى وصل بعضها إلى حد هدر دم الرجل الذي أسرع خوفا من ذلك إلى اعتناق ديننا ، رغبة أو رهبة؟!

معاداة فان دورن الفكرية الإعلامية للإسلام، ثم اعتناقه بإرادته الكاملة ودون إكراه من أحد للإسلام، ووقوفه  خاشعا بين يدي نبي الإسلام، يساعدنا كثيرا على الإجابة النموذجية على السؤالين عاليه، وهي إجابة معيارية تصلح للإجابة على ألف سؤال وسؤال من الأسئلة الملحة التي تواجهنا، والتي معظمها يقف حجر عثرة في الطريق الوحيد الذي يتحتم علينا سلوكه لإصلاح أمر ديننا ودنيانا.

أيضا، وعندما نوفق إلى تلك الإجابة المثالية المعيارية، فإن هذه الإجابة ستساعدنا كثيرا في التعامل بفطنة وذكاء مع الحالات الملغزة المحرجة كحالة غريمنا وعدونا بالأمس، وأخينا وابن ديننا هذا اليوم؛ السياسي الهولندي المتطرف، فان دورن!

تقول المرأة الليبية البسيطة الحكيمة:" يا جارتي عاركيني، وخلي باش تقابليني "!

كم نحن بحاجة إلى توسيع وتنقية الهوامش فيما بيننا وبين خلق الله القريبين منا والبعيدين، المتفقين معهم والمتخاصمين!

كم نحن بحاجة ماسة إلى نظرة بارانومية لهذه الفسيفساء الدنيوية، والتمعن كثيرا فيها، آخذين في اعتبارنا اتساع وتطور وتمدد هذا الكون بمحتوياته المعنوية والمادية جميعها إلى حد يجعل من يحاول تضييقه وممارسة الوصاية على من فيه، والتجرؤ على نواميسه طمعا في تطويعها لهواه، مخلوقا متخلفا، وربما مريضا متطرفا.

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

الأربعاء، أبريل 24، 2013

انفجار أم بالون اختبار!




انفجار،  أم بالون اختبار؟!

الإجابة السريعة والعاجلة على السؤال عاليه من اختصاص الجهاز الأمني للحكومة، وهي المسئولة مباشرة أمام شعبها في الداخل، وكذا أمام الجهات الخارجية؛ دولا ومنظمات.

أما الإجابة التي لابد أن يسبقها أخذ نفس طويل بطول عمود الغبار والدخان المنبعث من مركز الانفجار، وبعمق الشرخ النفسي والاجتماعي في النسيج الوجداني الطري للشعب الليبي المبتلى المسكين، فهي تخص كل من استلم صورة من فاتورة ضريبة الموت والإعاقة والتشرد والخسارة المادية الجسيمة للثورة على الشر.

كل ليبي وليبية مهما بلغت درجة ذكائه وحذقه وألمعيته، وربما انتهازيته وخبثه لابد أن يسدد حسابه من تلك الفاتورة، وحتى من أفلح الآن من التملص والتهرب الساذج ، وتخفى عن الأنظار فرحا بما غنم من مال أو سلاح أو وظيفة أو إفلات من جريرة، سيطاله سيف المراقب الضريبي والاجتماعي والأخلاقي،  وسيجبر يوما ليس بالبعيد على دفع أصل الضريبة وغراماتها المتراكمة، والتي لا يمكن التنبؤ بحجمها المتعاظم أبدا.

انفجار كبير كالذي حدث أمام السفارة الفرنسية يبعث برسائل لا حصر لها، ويضع دائرة الشبهة على أطراف وجهات عديدة.

ولأن تقصي شبهات الضالعين المباشرين في  هذه الجريمة هو من شأن الدولة وأجهزتها المختلفة كما قلت، فإن الشبهات المحيطة بمن هيأ الظروف لهذا الفعل الشنيع ومهد له الطرق، عامدا او ساهيا، هو الذي يهمنا أمره.

أجل يهمنا أمر الطرف الذي أوجد الظروف المساعدة لهذه الجريمة، وذلك لأن المساحة التي يشغلها هذا الطرف كبيرة جدا بكبر مساحة الكتلة البشرية الليبية التي ما إن فرغت من الاحتفالات والمهرجانات المليونية بالتحرر من الظلم والاستبداد والفساد حتى انخرطت كلها، أو قل جلها تجنبا للتعميم، في نهش جسم الدولة الذي اثخنته الجروح وأنهكه النزيف؛ فارتمى أرضا، ودعا من حوله والعارفين بحاله إلى إنقاذه وتطبيبه.

 إنقاذ وتطبيب البلد الجريح كان من المسائل التي لا يختلف عليها اثنان، بل كان هذا العمل المقدس من مفردات أناشيدنا وأهازيجنا، ونحن نمارس لعبة عض الأصابع الدامية بيننا وبين النظام المنهار، ولعبت هذه الأناشيد والأهازيج المصبوغة بدم الوطن الجريح والمبشرة بالغد الأفضل له، دورا كبيرا في رجحان كفتنا رغم هواننا وقلتنا وطراوة أناملنا.

لعن الله النسيان الذي يعبث بضمير ووجدان الإنسان، ويحيله في أمد قصير من ثائر على الشر إلى معول للشر.
ربما ما نسبته 100% من الذين يطلعون على هذا الاتهام المعنون بعبارة: إلى من يهمه الأمر، إما في صورة مقال كهذا، أو في صورة ملصقات، أو مطويات، أو في صورة نشرات وإحصائيات،  يظنون أن لا أحد منهم يعنيه هذا الاتهام!

بيد أن أحدهم سيعتدل في جلسته، ويمرر يده على شعر رأسه إلى رقبته، ويظن أن إقدامه خلال العام ونصف العام الماضي على حذف اللون الأحمر من قائمة الألوان  الموجودة في الجزء الخاص بالخوف والحذر من الكتلة الرمادية الرابضة داخل جمجمته، واتخاذه منفردا نظام السير على الشمال، وتعمد ركوب سيارته بدون لوحات، وقيامه بالطمس الكلي للجزء البلوري الشفاف من جسمها، وأخيرا إطلاق العنان  للوحش الناري داخلها والمدلل حتى الفحش بالبنزين الممتاز الرخيص؛ يظن صاحبنا هذا أن كل ذلك ليس له علاقة أو أمارة بانفجار السفارة!

 قطعا ياأيها المخالف لقانون المرور لن يوجه إليك أحد تهمة انفجار السفارة!

وكذلك أنت يا من تتعمد وضع أصبعك في عين الحكومة، وتتفاخر بأنك تحمل سلاحا لا سيطرة لها عليه!

وأنت أيضا أيها المتلفع بعلم الاستقلال، مستخدما إياه في تجاوز البوابات الإلكترونية والممرات الخاصة جدا المؤدية إلى خزائن العملات، وصندوق أختام القرارات، ومستودع الاتصالات الهامة والعلاقات!

و..........
و..................
و....................
و.......................... الخ!

أجل كل أصحاب هذه الأفعال، بل الفعلات، المتصاعدة هرميا في شدة إيذائها، وصعوبة تتبعها ورصدها، لهي المسبب الحقيقي لانفجار السفارة، أما من قاموا بالعمل المباشر لعملية التفجير الآثمة، فهم مجرد تجار عابرين من تجار الأزمات والحروب، ولم يكن لهم من دور سوى جلب بضاعة الشر وعرضها على رصيف الجريمة الذي صنعه كل من:

المخالفين لقواعد المرور، والمغلقين للشوارع، والعابثين بالسلاح غير المرخص، والمقتحمين لدواوين الحكومة، والمغتصبين للنساء، والهادمين للأضرحة بدون علم الدولة وموافقتها، والمروجين للمخدرات، والعابثين بقوانين الدولة ونظمها ولوائحها، ......... الخ!

إذن هل ما حدث أمام السفارة مجرد انفجار، أم أنه بالون اختبار؟

إنه انفجار انتهى وتلاشى صوته في بضع ثوان.

وإنه أيضا، وهو الأهم، بالون اختبار سيظل متأرجحا بين السماء والأرض بلونه الأحمر المخيف، وصوته المزمجر العنيف، مهددا إيانا بانفجارات تتابعية قادمة، وذلك مادام فينا ومنا من يعد ويهيء رصيف الجريمة لتجار الجريمة، عمدا، أو جهلا، أو حتى سهوا.

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
http://libyanspring.blogspot.com

الجمعة، أبريل 19، 2013

في نفوسنا شيء


في نفوسنا شيء قد يفسد كل شيء!

خلال عقود أربعا ونيفا سيطر علينا نحن الليبيين رجل ثار حوله جدل كبير، وما يهمني من هذا الجدل في هذا المقام يمكن أن تلخصه عبارة القذافي للفتاة القاصرة، "ثريا" عندما لم تطاوعه على اغتصابها، حيث قال لها:  أنا أملككِ وأملك كل الليبيين!، وذلك وفق ما جاء في كتاب: فرائس القذافي لكاتبته الفرنسية "أنيك كوجان"، والذي لم يظهر حتى الآن ما ينقض ما جاء فيه، مع أن قرائن إثبات ما جاء فيه أكثر من عكسها.
عندما تقذف الأقدار بشاب بدوي فقير بسيط وتأخذه من درجة الصفر الحضاري الاجتماعي والاقتصادي، إلى الدرجة العليا في السيطرة حتى الطغيان، والغنى حتى الفحش والهيجان، والاستبداد حتى التغول والإدمان؛ فإن عواقيب هذه الحالة تستوعب كل تشخيص وتصور مهما بالغ في التشاؤم.
عشر دورات حكم دول عظام ورؤساء كبار، كالرئيس الأمريكي مثلا، يكدح ذلك الرئيس لنيل إحداها من عيار الأربع سنوات حتى يطحنه الكدح؛ ولكن الملازم القذافي تحصل على صكوك عشر دورات كاملة وهو في مقتبل العمر وبواكير الشباب.
عندما يتمكن شخص مريض مثل القذافي، الذي كشفت بعض خبايا سلوكه المنحرف السيدة ثريا، من السيطرة الفردية الكاملة على شعب ببساطة الشعب الليبي، فإن ما يتركه أثر سيطرته تلك لا يقف عند مجرد قتل الخصوم وهدر الأموال، وإنما يمتد حتى يصل إلى المكون النفسي لأجيال المستعبدين، حيث يعبث في خريطة وأساسات ذلك المكون، وهو ما يقود مباشرة إلى تفسير عدم الاستقرار النفسي البادي على سحنات الكثير منا.
القذافي وهو يمارس إذلاله على المكون النفسي الليبي الرخو، لم يكن يفعل ذلك بصورة رسمية وفي أمكنة وعلى أشخاص معدودين، وإنما كان يمارس هوايته المذلة بنمط أفقي؛ حيث أدار القذافي وبصفة شخصية المنتديات والمهرجانات الشعبية الطلابية وغيرها، وشارك في جلسات المؤتمرات الشعبية، وأدار جلسات مؤتمر الشعب العام، كما أدار الكثير من الندوات واللقاءات، وكان يزور الطلبة في جامعاتهم وفي أماكن إقامتهم، ويجتمع بالكثير من الناس في بيوتهم، وربما شاركهم مناسباتهم الاجتماعية.
وفي كل هذه المناسبات كان القذافي يخرج في كامل زينته وقوته وكبريائه وعنجهيته!
في إحدى رحلاته البرية قاصدا طرابلس من مدينة أخرى، كان يحيط به رتل عسكري ربما بلغت قطعه المائة، والتي تسير في أقصى سرعتها في طريق لا يسمح للغير بالتواجد فيه ولو سبب ذلك  المنع إلحاق الضرر الفادح به.
حدثني من صادف تواجده بالطريق الساحلي مرور رتل القذافي فيه؛ فقال لي: رأيت عربات الرتل المسرعين يدفعون عربات الناس إلى جوانب الطريق دفعا، ولم يكن أمامي والحال كذلك إلا الارتماء بسيارتي في منخفض وجدته على يميني وتسمرت في مكاني حتى مرت عربات الرتل المئوية مسرعة وكأنها طلقات رصاص. لم أزل أذكر ما ختم به الشاهد مقالته، حيث أردف: ظننت عندما خرق الرتل المكان أن القيامة قد قامت!
القذافي لا يضحك، وإذا ضحك ضحك مستهزئا مستحقرا ممن هم حوله. كيف لا! ألم تكن إحدى تعريفات الضحك هو شعور الضاحك بالانتصار على من يضحك عليه!
أعلم أنني طوفت بعيدا عن عنوان المقال، إلا أن العبارة التي قالها القذافي لمغتصبته ثريا، وما أوردته من تعريف للفظ الضحك، يضعاننا كلاهما مباشرة أمام القضية التي يطرحها المقال.
في نفوسنا شيء قد يفسد كل شيء!
إن هذا الشيء الذي مقره خبايا نفوسنا والظاهر بوضوح على سحنتنا ولغة أجسادنا، هو شعورنا دائما بأن أحدا ما يضحك علينا، وبأنه متمكن منا، ولا سبيل من النجاة منه سوى عن طريق إعلان الحرب الدائمة عليه!
الشعور الدائم بأن كل من نصادفه ونتعامل معه هو خصم لنا، وأننا إذا لم نبادره فسوف يبادرنا، هو ذلك الشعور الذي نزع من وجهنا الابتسامة، ومن قلبنا الثقة، وكبل إرادتنا بالهزيمة والخذلان.
إننا نعاني كثيرا الآن من ردات أفعال بعضنا الذين نشاركهم الشارع والمكتب والمسجد وأمكنة كثيرة أخرى، وذلك بسبب الشعور المرضي لدى هؤلاء بأنهم في غابة لا يكتب البقاء فيه إلا لصاحب المبادرة، ولو تأسست هذه المبادرة على باطل!
أما المعاناة الكبرى التي تواجهنا، فهي تحول هذا الشعور إلى فعل قوامه رفض الإذعان للسلطة القائمة والتشكيك في وطنية وربما دين الرموز السياسية التي أفرزها الحراك الديمقراطي المعروف.
الدكتور محمود جبريل، أحد القيادات السياسية البارزة، وغيره كثيرون ممن يشكون من تشكيك البعض في دينهم ووطنيتهم!
تجهم وجوهنا وعبوسها، وضيق صدورنا، وخشونة ورعونة تصرفاتنا، وغلظة قلوبنا، والتسرع في ردات أفعالنا، وتسارعنا نحو ما يضر الغير، وتباطؤنا في سبيل إسعادهم، وأخيرا التشكيك في الوطنية والدين، وحتى اقتحام الوزارات وممارسة الخطف والتهديد بالقتل، تلك كلها من أعراض ذلك المرض النفسي المستفحل فينا، والذي من أهم أسبابه هو مرورنا في سرداب الاستبداد الطويل، ووقوعنا خلاله تحت حكم فرد اعتقد ومارس وصرح علنا بأنه يملكنا، وفوق ذلك يستحقرنا ويضحك علينا.
 في نفوسنا شيء قد يفسد كل شيء!
أجل إن هذا الشيء الذي أقصده كامن في طوايا نفوسنا، ولن نتمكن من الوصول إليه ونزعه إلا بالغوص في أعماق أنفسنا، وكشط طبقة الأربعين عاما من ذل الدكتاتورية وعبودية الاستبداد وسيطرة الجماهيريين السفهاء الحمقى علينا.
وإذا ما تعسر علينا هذا الأمر، وتطلب جهدا ووقتا كبيرين، فلا أقل من أن نبدأ بما هو أيسر.
أقترح على الليبيين الدخول في بيات نفسي شعوري لمدة عام واحد، يقومون خلاله بمنح إجازة لأماكن التوتر في أنفسهم، ويعقدون مصالحة ولو شكلية مع بعضهم البعض، ويفترضون حسن النية في حكامهم.
امنحوا حكومتكم فترة سماح لمدة سنة، وسوف لن تكون الخسارة، هذا إن حدثت، أكثر من 1 على 42 أي حوالي 1.5% من خسارة حقبة بياتنا الإجباري السابق الطويل!
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

الأحد، أبريل 14، 2013

وديعة الشهداء


وديعة الشهداء؛ هل هي معادلة صعبة، أم مجرد غنيمة ولعبة!

يمكن القول أن الشهيد هو من قدم أعز ما يملك، حياته، في سبيل شيء لن يستمتع أبدا به في حياته. والشهداء في رحيب مضمارهم يتمايزون فيما بينهم، بما يقدمونه من ثمن، وما يتقاضونه من جزاء.


بالإضافة إلى ما يتقاضاه الشهيد من ثمن مجز في دار الجزاء، يفيض عليه مولاه الغني بأعطيات أخر قوامها غراس دنيوي، ووديعة خير وحق وعدل، يعود ريعها ويتفيأ ظلالها كل من يخلف ذلك الشهيد ويرثه.

شهداء ليبيا هم كل من ربطتهم بها وشيجة التضحية من أجل غرس شجرة الحق والعدل والخير في ترابها، وهم أفراد تلك الكوكبة من أصحاب الشهامة الذين يصعب تحديد أولهم، كما لا يمكن لأحد أن يقول إنه آخرهم، وذلك مادام الصراع على هذه الأرض محتدما بين الحق والباطل والشر والخير والظلم والعدل.

إن المعادلة التي ثَقُل جانبها الأول بما أفاض به الشهيد من تضحية، تقصر الدنيا وما فيها على بلوغه، وتعجز معاييرها على تحديده، لهي معادلة لا تتعادل إلا بما نقوم به نحن الأحياء خلفاء الشهيد من ملء جانبها الثاني، وبثقل يساوي ثقل تلك التضحية المقدمة سلفا.

أجل إنها معادلة في غاية الصعوبة، وخاصة في وعي من عاش ووعى ذلك الموقف المهيب الذي تم خلاله اتخاذ أصعب قرار يمكن أن يتخذه حي راشد عاقل عندما يُقدِم بملء إرادته على قطع حياته، وهو في عنفوان حياته، ويتجرع مختارا كأس الموت المر، ويبيع كل ما يملك دونما شيء ملموس يقبضه!

وبقدر صعوبة ذلك الموقف على أبطال ذلك المشهد، الشهداء، فإن موقفنا نحن الأسوياء خلفاء الشهداء ووارثي ودائعهم ليس بأقل صعوبة!


إن الذي يحس بصعوبة هذه المعادلة، ويقدر الثقل الذي أمال جانبها، هو فقط من يسكنه هَمُّ قضاء دين الشهداء عليه، ذلك الدين الذي لا يمكن قضاؤه إلا بتوازن جانبي تلك المعادلة الصعبة.

شجيرات الحق والعدل والخير انتشرت فسائلها المباركة العديدة بعدد كوكبة الشهداء الأبرار في كل ركن من أرض ليبيا الفسيحة، وامتدت أغصانها الغضة بقدر عمر هذه الشجيرات التي استودعها إيانا غارسوها، والتي يتوقف مصيرها ومآلها على ما نملكه من شهامة، وما نتحلى به من صدق ووفاء.

أكثرنا شهامة وصدقا ووفاء، هم أقربنا شبها بشهدائنا، وأكثرهم التصاقا بشجيرات الحق والعدل والخير، وألينهم قلوبا عليها.

أما أقلنا شهامة ووفاء، وأشحنا بذلا وعطاء، فليس مطلوبا منهم سوى التعفف عن قطع براعم هذه الشجيرات، واستعجال جني ثمارها قبل نضجها، وما يتركه ذلك من أذى قد يهدد تلك الشجيرات في حياتها وبقائها!

إلا أن أراذلنا وأعداؤنا وأعداء الشهداء، هم بعض منا، وربما أكثرنا، والذين نراهم الآن، وعلى مرأى كل عين، ومسمع كل أذن، يعمدون إلى شجرة الحق والعدل والخير، فيقطفونها من جذورها، ويستخفون بوديعة الشهداء، فيهدرونها!

وبعيدا عن حلبات التنافس السياسي الكرتوني، وما يجري فيها من صراع أقل ما يقال عنه حدوثه قبل وقته، وإفراطنا في تناوله والتعاطي معه؛ لا زلت أرى، ويرى الكثيرون غيري، هناك وسط الأفق، تلك المعادلة التي ذكرت، وقد مال أحد جانبيها ميلا كبيرا بما حمل من ثقل، كما أرى جيش العابثين، صغارا وبالغين، عواما ورسميين، وهم ينهشون تلك الوديعة، كل بالموهبة التي يملك، والطريقة والتقنية التي يجيد، والتي هي في معظمها من إرث عقود الاستبداد والطغيان والظلم والشر والفساد.

كنا إبان عصر شلل الإرادة الخيرة، ننتظر بفارغ الصبر فك أسرنا، وكسر طوق المبادرة لدينا، ظانين أن كلا منا بمجرد حدوث ذلك سوف ينطلق مسرعا نحو مضمار الإصلاح بادئا مما يليه، كإصلاح حفرة بالشارع الذي يقع بيته فيه، ويغرس شجرة في رصيفه ويضيئ نواحيه، ثم لا يتوانى عن فعل كل خير ومحاربة كل شر في البحر والبر.

كنا نحسب أن ورشة الإصلاح والتطوير ستظل جمالوناتها كل أرض الوطن، مصلحة قبل انقضاء العام الأول من عمر تحرر إرادتنا ما أفسده القرصان في عشر سنوات!  

أجل كنا نحسب ذلك وأكثر من ذلك، إلا أن الذي حدث لم يكن في الحسبان!

لم يكن في الحسبان أبدا، على الأقل في نطاق حساباتي البسيطة، أن يتحول ثوار الأمس القريب إلى خصوم، وعلى شيء لم نشهد تخاصمهم عليه إبان أيام وشهور مقارعة الطغيان، ثم ليتحول ذلك الخصام إلى اصطفاف أيديولوجي من أهم عيوبه وأشنعها شق صفوفنا والمعركة لم تنته بعد!

لم يكن في الحسبان أن يتطاول حديثو التجربة والمران المدعومون بقليل من الحق وكثير من البهتان، ويمدوا أيديهم إلى كل شيء ليعرقلوه ويفسدوه، بدءا من ساحة البرلمان، وحتى قوانين المرور في الشارع والميدان!

كما لم يكن في الحسبان، وبعدما عانينا كثيرا من الحرمان، أن يصبح التعفف بيننا في خبر كان، فتتحول مداواة الجرحى إلى مقاولات، وتصبح التعويضات صفقات، وتصبح المليارات في ميزانياتنا كأنها آحاد أو مئات!              

وأيضا لم يكن في الحسبان أن نتنكر لبعضنا، وبدل أن نجعل من قطرات دم الشهداء رابطا مقدسا نشطب في محرابه تلك الخطوط الواهية الملوثة لخريطة وطننا، قمنا بدلا عن ذلك بتحويل دماء الشهداء إلى خطوط ملتهبة حمراء، شطرت الوطن أجزاء، أو كادت!

أجل كل هذا وغيره لم يكن في الحسبان، كما لم يكن في الحسبان أن نجعل من وديعة الشهداء الغالية شيئا غير ذي قيمة وميزان، وبدل أن تكون هذه الوديعة معادلة صعبة، جعلناها مجرد غنيمة ولعبة!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com