الجمعة، يونيو 28، 2013

400%

400%، أو إحدى بالوعات المليارات!!

قبل أشهر مضت، طرح سيادة رئيس المؤتمر الوطني آنذاك، الدكتور محمد يوسف المقريف، سؤالا استفهاميا استنكاريا كبيرا بخصوص قيام حكومة الكيب بصرف مبلغ 5.5 مليار دينار، وتساءلت وتساءل الكثيرون مع الرئيس، وتحسروا وتعجبوا كما تحسر وتعجب، وبلعنا كلنا غصة ذلك السؤال بما أدلى به المسؤول من جواب!

بالأمس تكررت نفس الحالة وطرح رئيس الحكومة، مستنكرا، نفس السؤال عن مليارات أخرى تم تسييلها من أجل بناء الجيش؛ وبالقطع سيكون الجواب جاهزا، وربما نسخة مطابقة تماما لجواب السؤال الأول، وتتكرر الغصة، وتتعاظم الحسرة لضياع المليارات من قوت الشعب المبتلى المسكين!

عندما تستغل غفلتي وتبيعني سلعة بأربعة أضعاف سعرها السائد، فإنك ببساطة محتال سارق، والحكومة التي أعطتك تصريح بيع هذه السلعة تشاركك جريمتك، والمجتمع الساكت عن جرائمك هو أيضا متواطئ معك، وجميعنا في نهاية الأمر سارقون مخطئون خاسرون.

وقعت في يدي كراسة مقايسات لتنفيذ صيانة مبنى حكومي يقع في قلب مدينة طرابلس، ولفت انتباهي شيء بسيط جدا، ولكنه في نفس الوقت مهم وخطير جدا، حتى إنه قد يجيبنا على تساؤلاتنا الصانعة غصاتنا، ويرينا بالوعات ملياراتنا!

تضمن بيان هذه المقايسة ضمن ما تضمن من أشياء مثيرة كثيرة على تسعير متر الطلاء الخارجي، الجرافيت، بمبلغ عشرين دينارا! شخصيا، قمت هذه الأيام بطلاء بيتي بنفس الطلاء، وبمبلغ خمسة دنانير!

بيان هذه المقايسة المؤسس على عقد صيانة رسمي، يفترض أنه مر على أكثر من غربال رقابي وبوابة محاسبية، ولكن كل تلك الغرابيل والبوابات الرقابية لم تتمكن من رؤية جمل يعبر خلال فتحاتها التي صممت لتنقية ما هو أصغر من الجمل بكثير!

إجمالي تكلفة هذه الصيانة كما أظهرها بيان المقايسة حوالي المليون دينار، إلا أنه ووفق سعر السوق لا يجب أن يزيد عن ربع المليون!

المليارات الخمسة وزيادة التي صرفتها حكومة الكيب، والمليارات الثلاثة تقريبا التي صرفت للجيش، وبما مجموعه ثمانية مليارات ابتلعتها البالوعات، كان من الممكن ألا تزيد عن مليارين اثنين، وكان من الممكن أيضا أن خزاناتنا وليس بالوعتنا بها الآن ما ضاع من ملياراتنا!

لابد أن مناخل وبوابات الرقابة موجودة، ولكنها إما واسعة الثقوب فارهة الجيوب حتى أن جملا يعبر خلالها بسلام وأمان، أو أنها صدأة متكلسة لم يمر من خلالها أحد منذ زمن طويل.   

في هذا الزمن الرديء الذي نعيش، وفي هذا الوضع المنفلت الذي نعبر، وكما ترعبنا وتفزعنا اختراقات حدودنا، وتغول المتسلطين منا علينا وعلى دولتنا الوليدة، فإن اختراقات المحتالين، ومن يتواطئ معهم من أفراد فاسدين، وما يتكئون عليه من أجهزة وأنظمة رقابية بالية، هم أيضا بنفس درجة الخطر والرعب والفزع، وربما أكثر!

على أجهزة الرقابة المالية والإدارية أن تجرد سيفها من غمده، وتعلن درجة الطوارئ القصوى في كافة أرجائها المستباحة الآن من الحامي والحرامي!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

الثلاثاء، يونيو 25، 2013

عدالة وعدالة

عدالة شفافة ذكية، وعدالة متحجرة غبية!

الحكم السماوي العادل الذي قضى على النظام السابق الظالم، نظر إليه بعض قصار النظر على أنه غير عادل، حيث أنه أزال نظاما قائما، وأدخل البلاد والعباد في حرب كلفت الكثير.

بيد أن الناظرين بأفق أوسع رأوا خلاف ذلك، ووجدوا في ذلك قمة العدالة، وذلك لما قضى عليه من ظلم طويل، وما نشر من عدل جميل.

اتساع الأفق في النظر إلى الأشياء مما يتيح مدى رؤية أوسع، ويصل بصاحبه إلى محصلة رؤى وأفكار في وضع مثالي من الشمول والحساسية. أما ضيق أفق الرؤية، والتبسط في استجلاء الفكرة؛ كلاهما يقود إلى أحكام ظاهرها العدل وباطنها مكتنز بالحمق والسفاهة.

أعرف موظفا بإحدى المؤسسات، تعرض للمضايقة الأمنية إبان العهد البوليسي البائد، حتى جرَّ عليه ذلك غبنا إداريا منعه من الحصول على حقه الإداري طيلة ذلك العهد. وبتغير الظروف وزوال الظلم وسواد العدل توقع صاحبنا عدم بذل أي جهد في الحصول على التعويض الإداري المجزي من شركته التي تتحمل عرفا وقانونا أخطاء مدرائها السابقين، وتنوب عنهم في جبر الضرر.

صاحبنا هذا بنى أمله في الحصول على تعويضه ورد اعتباره على العدالة الذكية التي تأخذ في حسابها كل السوابق، وتجري قياساتها وعملياتها الحسابية المنطقية على المسطرة الذكية والآلة الحاسبة الألمعية.

العدالة ذات القوالب الإجرائية الخشبية عدالة غبية، وذلك لاعتمادها على قشور العدالة الخارجية وقوالبها الخشبية، وإهمالها لب العدالة وروحها، مما يؤدي إلى عدل شكلي مسخ لا يختلف كثيرا عن الظلم نفسه!

موظف آخر، ولكنه كبير جدا، وبرتبة رئيس المؤتمر الوطني، وقع بين أنياب مسطرة عدالة العزل الغبية، فجمعت هذه المسطرة الغبية بينه وبين نقيضه الصريح وعدوه اللدود في سلة واحدة! حكمت هذه العدالة الغبية ذات القوالب الخشبية على معارض القذافي المزمن وعدوه اللدود محمد المقريف بأنه من رجال القذافي!!!!!!

إن الذي تحدثه عدالة كهذه العدالة في منتهى الخطورة، وذلك بما تغرسه أصابعها المختلة المتنافرة في العقول والأفكار من اختلال تقييم وتقدير، وبما تلقيه غلظتها وجفوتها في النفس من امتداد لحبل الغبن ونكران لجميل المحسنين، وما يحدثه كل ذلك في منظومة القيم والوعي الجمعي للناس من خدش وتشويه مشين.

لا يوجد ضوء أسود اللون، كما لا يوجد عدل ظالم المكنون!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

السبت، يونيو 15، 2013

ترمومتر أم صاعق



ترمومتر، أم صاعق بنغازي؟!

اختلاف وجهات النظر في أي وسط، والتدافع والاحتكاك العادي المقبول خلاله، كل ذلك ينتج حرارة تدفع زئبق ترمومتر هذا الوسط نحو التمدد، مسجلا قراءات متقدمة لحرارة ذلك الوسط. ثم ما تلبث هذه القراءات أن تنخفض، وقد تعاود الصعود مرة أخرى، وهكذا وفق تذبذب مقبول ومسيطر عليه.

ذلك هو الترمومتر وحركة زئبقه المعروفة، وهو جهاز يبعث وجوده على الارتياح، لكونه يؤمن الشعور بوجود حرارة الحياة في الجسم، وكذا وجود العين الساهرة على متابعة شأنه وتأمين سلامته.

أما الصاعق فهي أداة تتشابه مع أداة الترمومتر في تحسسها لحرارة ما حولها، ولكن ردة فعلها إزاء ذلك تختلف كثيرا عن ردة فعل الترمومتر؛ إنها تفجر الوسط وتخرجه عن السيطرة، وتبلغ به النهاية.

في بنغازي نصب النظام البوليسي للقذافي ترمومترات كثيرة، وسجلت هذه الترمومترات قراءات عديدة خطيرة خلال تلك الحقبة الدكتاتورية، وبلغ بعض هذه القراءات المناطق الحمراء لدرجة حرارة بنغازي، إلا أن ردة فعل النظام آنذاك اقتصرت على رش الماء الأمني البارد فوق الأماكن الساخنة، وهو ما كفل في كل مرة الرجوع بزئبق الترمومتر الأمني  إلى الوضع الآمن.

في منتصف فبراير 2011  ارتفعت مؤشرات ترمومتر بنغازي إلى المستوى الأحمر، وكالعادة، وبشكل أوتوماتيكي، تحركت أجهزة تخفيض درجة الحرارة الأمنية، وتمكنت من استعادة درجة الحرارة الآمنة للوسط البنغزاوي، حتى كاد برد شتاء أول فبراير أن يطفئ ما شهده آخره من ربيع حار.

لو اقتصر الأمر في ذلك الشهر الشتوي الربيعي على ما أبدته الترمومترات ومؤشراتها، لسهل ذلك على كبار رجال القذافي الذين هبوا إلى بنغازي من السيطرة على موقف بنغازي المتفجر، ولكن بنغازي تفجرت، وسال دمها، وأعقب ذلك سماع انفجار كبير لسقوط حاجز الخوف، ذلك الحاجز الذي لم تسقطه خلال العقود كل الأرقام المتوهجة الحمراء لترمومترات بنغازي التي ما عرفت سكونا طول سني وقوعها في قبضة الدكتاتور.

بالتأكيد إن الذي أسقط حاجز الخوف هذه المرة ليس ترمومترا ولا زئبقا، وإنما هو شيء آخر، إنه هذه المرة الصاعق المحرك لسلسة طويلة مرعبة من الانفجارات عمت رقعة ليبيا كلها، وقذفت بالقذافي الأسطورة إلى جوف ماسورة!

جدير بأهل بنغازي هذه الأيام أن يرصدوا حركة المؤشرات الكثيرة التي ترصد حركتهم وتجس حرارتهم، وحري بهم أن يفرقوا بين مؤشرات الترمومترات، وبين ما للصواعق من صعقات قاتلات!

الذي حدث في الكويفية من حركات لمؤشرات كثيرة بلغت درجات خطيرة من التوهج، هو بالتأكيد ليس من صنع الترمومترات المعروفة، وهو حال قريب الشبه كثيرا بذلك الحال الذي اتخذ مكانا بارزا في ذاكرة أهل بنغازي، والذي نقشه في أذهانهم ذلك الانفجار المشهود لذلك الصاعق الذي بث صعقته المدوية في كل أوصال بنغازي ومن بعدها ليبيا كلها في فبراير 2011، وكان هذا الانفجار عنيفا جدا حتى أنه تمكن من تحريك صفيحة بنغازي الجيولوجية السياسية وحقبتها الدهرية الحضارية من الحالة الجماهيرية الدكتاتورية الجامدة المتكلسة إلى الحالة الوطنية الديمقراطية النابضة.   

زلزال الكويفية الذي بلغ عشر درجات على مقياس ريختر العراقيhttp://libyanspring.blogspot.com/ ) ، وكذا هزاته الارتدادية اللاحقة، يجب ألا يسمح لكل ذلك بالانتشار، وذلك بالتصدي له شعبيا من خلال الكتلة الشعبية التي اكتفت حتى حينه بالصمت والاستنكار السلبي لما يدور حولها من تحركات مريبة، دفعت وستدفع بدواليب الصاعق الخطير إلى التحرك، وإحداث انفجار، وربما انفجارات من الصعب السيطرة عليه.

الكتلة الشعبية بعد سريان الدم الديمقراطي في أوصالها لم تعد كما كانت عليه سابقا منعدمة الحس ثقيلة الحركة. وهي أيضا وبعد خوضها معركتها التحررية الشاقة الأخيرة قد نهلت من معين الخبرة التي تؤهلها خوض الأزمات والخروج منها بأقل خسائر ممكنة.

كل من يقف ضد رأي الأغلبية الشعبية، مهما كانت قوته، هو ضعيف أمام تجمع هذه الأغلبية واحتجاجها الذكي الذي لا يمكن مواجهته إلا بتجمع مثله وحجة أكبر من حجته، وهو ما ليس يملكه إلا الشعب كل الشعب.

بعض الكتائب المسلحة المستكبرة التي تراوغ الآن في المساحة الضيقة من عمرها، وعلى الحبل الواهي من حجتها، لا يساعدها على هذا السلوك الانتهازي الارتزاقي سوى صمت الأغلبية إزاء عربدة هذه الكتائب، والذي تجاوز مجرد الوجود المشرعن لهذه الكتائب ومظهره الرسمي المعروف من شعار ومقر وكادر، حيث أخذت هذه الكتائب تفرز الكثير من المظاهر السلبية المحسوبة، وبكل أسف، على الثوار ككل، حسنهم وسيئهم، مما أفسد على الليبيين فرحتهم بقطف ثمرة ثورتهم وبناء دولتهم، بل وهز صورة كل الثوار في الأعين والأفكار.

الشباب الراشدون في الكتائب المسلحة، وهم لا شك كثر، عليهم بالعودة بسرعة إلى الجذور؛ إلى الحضن الاجتماعي الشعبي الذي من نخاعه تكونوا، وبدمائه تحركوا، وبوعيه ووجدانه صنعوا إرادتهم. ذلك الحضن الذي لولا تماسك من فيه؛ شيبا وشبابا، رجالا ونساء، أميين ومثقفين، أيديولوجيين وغير أيديولوجيين، إسلاميين وسواهم، لما انتصر الشعب الضعيف على الدكتاتور المخيف، ولكان مصير النخبة التي لها الآن مقام وجناب، زنزانة موصدة الأبواب، أو حفرة في جوف التراب!  

سلم الله أهلنا في بنغازي، وفي كل مناطق الوطن وجهاته.


محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com



زلزال بنغازي

زلزال بنغازي 10 درجات على مقياس ريختر العراقي!

الدرجة رقم 1: احتقان فئوي طائفي أخذ من الوقت ما يكفي للإعلان عن نفسه على هيئة دماء وأشلاء وبالعيار العراقي الثقيل (31 قتيلا، وأكثر من خمسين جريحا بعضهم حالته حرجة).

الدرجة رقم2: وقوف كل فئة على خط ناري أحمر، وبيد كل فئة ما يكفي لإشعال حريق الحرب وإدامتها السنين الطوال دون حسم.

الدرجة رقم 3: لدى كل فئة مخزون من الزاد الأيديولوجي يجعلها على خط متوازي مع الفئة الثانية إلى ما لا نهاية.

الدرجة رقم 4: لكل فئة ما يكفي من أنصار الداخل والخارج تجعل الحجم الحرج لكل منهما قابلا لتوليد الانفجارات التتابعية في المكان والزمان المطلوب.

الدرجة رقم 5: لا تعدم كل فئة التمويل المادي والعسكري المؤجج للصراع، ومن تم مزيد قدرة كل منهما على التبرعم والتمدد في اتجاه نظيرتها.

الدرجة رقم 6: ضعف النسيج الاجتماعي الإيجابي المحيط  وعجزه عن كبح تمدد بؤرتي الخلايا السرطانية المجنونة.

الدرجة رقم 7: عدم وجود قوة عسكرية كافية من الدولة تقضي على بؤرتي التوتر وتستأصل جذورهما.

الدرجة رقم 8: نسيج كل من الطائفتين فئوي مدني غير منضبط وقابل للتمدد والانتشار، ولا يخضع لأي مؤسسة تتمكن من ترشيده والسيطرة عليه.

الدرجة رقم 9: لغة فريقي الصراع قبل وبعد نوبة زلزالهما الآخر وليس الأخير مشحونة بالتحدي والانتقام الشخصي  وإبقاء الباب منفتحا على كل التوقعات.

الدرجة رقم 10: الرائحة القبلية الفئوية النفاذة المنبعثة من مكان الانفجار، وعلى مستوى القمة، مع خلو ذاكرة الفريقين من أي صراع سابق ضد الحاكم الدكتاتور المسبب الرئيسي لصراعهما، واللذين كانا خلاله في خندق واحد ضده.


محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com


    

الأربعاء، يونيو 12، 2013

مسامير جحا

مسامير جحا الكثيرة، ومعضلة قيام الدولة الليبية!

مسمار جحا الذي دقه في زاوية صغيرة في أحد جدران دار باعها إلى غيره، واشترط على مشتريها شرطا تعسفيا يقوم بموجبه جحا بائع الدار بزيارة مسماره كلما عنَّ له ذلك؛ وهو ما يعني توقع قدوم جحا في أي وقت يشاءه، والمكوث إلى جانب مسماره ما شاء له أن يمكث.

جحا مالك المسمار قد يأتي في ساعة غداء أو عشاء أو قيلولة أو حتى جوف ليل، وهو ما يحتم على مالك الدار إذا قرر الخروج ترك المفتاح لجحا صاحب المسمار حتى يتمكن جحا من رؤية مسماره والاطمئنان عليه، وقد يضطر صاحب الدار في نهاية المطاف إلى منح جحا صورة من المفتاح ليصبح جحا الذي لا يملك في الدار سوى المسمار قادرا في أي وقت على فتح وغلق الدار، وهو وضع سيؤدي أخيرا إلى إكراه صاحب الدار المسكين على مغادرتها وتركها لجحا ومسماره.

صاحب الدار، وبحكم عقد البيع والعرف والقانون ومنطق الأشياء، آلت إليه الدار بكل حوائطها وكامل سقفها وأرضيتها، وهو المسئول عن هذه الدار أمام الطرف الثالث، بدء من الجار الجنب، وانتهاء بكل خلق الله من عجم وعرب.

مسامير جحا الدولة الليبية كثيرة ومتباينة، منها    الناعم ومنها الخشن، ومنها الحاد الملح ومنها المرن المؤجل، إلا أن جميعها تتحد في تلك الصفة المعيقة المؤذية التي عليها مسمار جحا المذكور، ألا وهي صفة مضايقة صاحب الدار الجديد، وجرح ملكيته لداره المملوكة له عرفا وقانونا، ومن تم إعاقته عن التصرف فيها.

أخطر وأقسى هذه المسامير الخشنة هي تلك التي يتصور أصحابها أن مساميرهم المغروسة في زوايا كثيرة من جسم الدولة هي بمثابة أعمدة لها، ولا يمكن للدولة أن تقوم إلا إذا اتخذت من هذه المسامير أساسا لبنيانها، كما أنهم يدعون ملكيتهم لصكوك قيام الدولة وتحرر ليبيا، وهي صكوك يزعمون أنها غير قابلة للتسييل إلى أية عملة أو المقايضة بأية سلعة إلا سلعة تسيير الدولة والسيطرة عليها.

أحق الناس بادعائهم تحرير ليبيا من دكتاتورية القذافي هم الثوار الأموات لتلك الحرب المقدسة على الدكتاتورية، والتي بدأت كما يعلم الجميع منذ انقلاب القذافي ودامت أزيد من أربعين عاما، سقط خلالها من شهداء الحرية الآلاف، بل عشراتها!

من حق أولئك الثوار الشهداء، إذا افترضنا وجودهم بيننا، أن يدعوا تحرير ليبيا، إلا أنه ليس من الممكن والمنطقي أن يصطف الآلاف منهم، ويطلب كل واحد منهم منصبا ومكانا مميزا في هرم السلطة الضيق المساحة.

بعض الثوار الأحياء يطلبون ذلك، بل يشهرون سلاحهم لتأكيد هذا المطلب!

التعجب يضحى استغرابا بل استهجانا واستنكارا، ونحن نرى الآلاف من أدعياء الثورة المحيطين بالثوار الأحياء يطلبون ما هو ليس بالمنطقي أن يطلبه شهيد!!!!!!!!!!  

تلك هي مسامير جحا الخشنة، أما المسامير الناعمة فهي لا تختلف عن الخشنة السابقة إلا في ملمسها وحدتها، ذلك أن المسامير الناعمة هي الأخرى تعرقل قيام الدولة وتبطئ معدل سرعة انطلاقها. من هذه المسامير الناعمة تلك الآلات والأدوات الديمقراطية المتطورة جدا التي جلبناها من وراء حدودنا، ثم قمنا باستخدامها ونحن في قمة تأجج العاطفة والحماس، وعند تلك الدرجة الفاصلة بين ذروة دكتاتورية النظام السابق وذروة ديمقراطية النظام الجديد، الأمر الذي أدى بنا إلى حالة مشابهة لحالة ذلك المريض الذي اتخذ من دواء موصوف لحالة مشابهة مظهريا لحالته دواء له، متجاهلا الفوارق الجوهرية  بينه وبين صاحبه.

هناك أيضا من المسامير الناعمة الظالمة مسامير حرية التعبير، وفي مقدمتها منصات صواريخ المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية، والتي نشأ معظمها في فترة مخاض خلاص ليبيا من الدكتاتورية والكبت الإعلامي، فما كان من هذه المحطات بعد تغيير النظام إلا أنها قامت بتغيير توجيه منصات صواريخها نحو الدولة الجديدة الوليدة مستخدمة نفس قوتها النارية الإعلامية التي استخدمتها وهي تجهز على النظام البائد القديم.

كذلك مسامير ما يسمى بالمجتمع المدني، والذي هو الآخر انحرف كثيرا عما يجب أن يكون عليه في تجذير مبادئ الثورة، وفتح جبهة شعبية مدنية موازية لجبهة الحكومة من أجل محاربة الأعداء التقليديين المعروفين؛ الجهل، والمرض، والفقر، والفساد، وكل أشكال التخلف الحضاري المعروفة.

ركب تيار نشاط المجتمع المدني الكثير من أصحاب الرؤى والمنافع الضيقة، واصطبغت نشاطاته بالألوان الأيديولوجية والسياسية المتباينة، وبدل أن يقوم هذا التيار بوضع لبناته في جدار بناء الدولة الواحدة،  بات يضع هذه اللبنات في جداراته المتعددة المتباينة، بل والمتصادمة. 

لابد لبعض الأطراف الخارجية من بعض المسامير، إلا أن أقسى أنواع هذه المسامير ما كان منها على صلة ببعض المسامير المحلية، مسمار من هذا النوع سيكون مسمارا مهجنا وغاية في الأذى والخطورة! 

لن تقوم الدولة الليبية إلا بإزالة كل هذه المسامير.

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

الثلاثاء، يونيو 11، 2013

رأس بصل.........

رأس بصل، ورأس وطن!

إذا اختلف اثنان على رأس بصل، فلا ضير، بل ربما من الضروري رفع أمرهما إلى جهة قضائية متخصصة مسيطرة عادلة لدراسة الدعوى والبت فيها.

البت القضائي المسئول العادل النافذ في قضية رأس البصل الرخيص البسيط المختلف عليه تمنح المجتمع الخير الكثير، لما في ذلك من ترسيخ لمبادئ العدالة والمحافظة على الحقوق، وقبل وبعد ذلك إجراء نهر الشفافية خلال نسيج المجتمع، حتى تبدو كل تلافيفه وثناياه مكشوفة ظاهرة مضيئة.

رؤوس بصل كثيرة نختلف عليها هذه الأيام، ويرفع المعنيون بشأنها القضايا، وتتشكل المحاكم لها؛ إلا أن رأس الوطن الذي تدور فوق عظام جمجمته الهشة المعارك الضارية والتدافعات العاتية، لم تهب له الأقدار بعد فارس قانون يقوم بإعداد صحيفة دعوى محكمة البناء دقيقة الإنشاء ضد المتاجرين بالوطن واللاعبين برأسه.

فارس القانون المأمول الذي ينتظره رأس الوطن الذي تتجاذبه الأطماع ليس طرفا في هذا الصراع الخبيث، ولا تدفعه رغبة خسيسة في الظفر بقطعة من رأس الوطن بعد تحطيمه! كلا. إن هذا الفارس الهمام لا يدفعه إلى هذا العمل النبيل سوى حرصه على سلامة الوطن من أخمص قدميه حتى ذؤابة هامته.

الكلام على أن رأس ليبيا بعد تحريره من مخالب وأنياب الدكتاتورية أضحى نهبة بين دول وقوى خارجية، لم يعد مجرد تصريحات صحفية لأفراد من هنا أو هناك.

إن كتلة سياسية بحجم جماعة الإخوان المسلمين تحذر في بيان رسمي لها بوجود شبهة تدخل دول خارجية تسميها باسمها في الشئون الداخلية لليبيا، يعني وجود أطراف داخلية تتناغم مع هذه التدخلات الخارجية وتتحرك بأمرها، وهو أمر في غاية الخطورة، ولا يمكن أن نمر عليه مرور الكرام.
...............................................................
    10 يونيو 2013
................................................................

كيف نسمع كلاما خطيرا كهذا من جهة لها ثقلها الشعبي والسياسي المعروف، ولا نقوم برفع هذا الأمر إلى أعلى مستوى ممكن؛ القضاء! ذلك أن عقد الميثاق الوطني المقترح لمناقشة هذا الموضوع يعني تحقق الجهة المدعية من هذا الأمر، وأنها على معرفة بأطرافه والمسئولين عنه. إلا أنه لا هذه الجماعة، ولا غيرها قامت بعرض الدليل الدامغ على ما تدعيه، وهو حال يمنح أي طرف متهم الحق في رفض ما يتهمونه به، ونظل جميعنا ننظر إلى بعضنا بعين الشك والتوجس والريبة.

لست قانونيا متخصصا، ولكنني أعلم بأن ادعاء بهذا الحجم جدير به أن يُشرَّح على طاولة القضاء الخبير النزيه. ذلك أن يقين فرد واحد فقط بله جماعة من الأفراد الراشدين المسئولين بوجود تدخل قطري وإماراتي وغربي في الشأن الداخلي الليبي يستدعي من النائب العام نفسه وهو محامي الدولة القيام بالتحقق من هذه التهمة الجارحة لهيبة الدولة واللاعبة برأسها.

إن تبادل اتهامات بهذا الحجم وتراكمها مما يسيء إلينا جميعا، ويضعنا كلنا في شبهة خيانة الوطن، ويمنع توفر الحد الأدنى من الثقة التي يجب أن تتواجد بيننا حتى نقيم أساسات الوطن الذي تأخر بناؤه العقود الطوال.

أستطيع وبكل الثقة إنابة جميع المواطنين الليبيين البسطاء في التقدم بدعوى قضائية بهذا الخصوص، وأهيب بالمسئولين عن الوطن؛ حكومة ومؤتمرا، إيلاء هذا الأمر ما يستحق من اهتمام، وأي شيء أولى بالاهتمام من رأس الوطن المعروض في بورصة المزايدات السياسية المحلية والدولية!

ولكن مهلا أيها البريء الساذج المندفع الأحمق!

ألا يكون هذا التصريح من باب المناكفة السياسية، ولا رأس بصل، ولا رأس وطن، ولا رأس بطيخ! ربما، ولكن أين رأسي؟!!!!!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

السبت، يونيو 08، 2013

متلازمة رقة القلب

متلازمة رقة القلب وأنيميا الوطنية!

مُركَّب انتماء الشخص للوطن، والعيش على أديمه، والاستظلال بظله، وتكلم اللغة السائدة فيه، واكتساب لون ترابه وشمسه، والتطبع بطباع أهله، واتباع ما يسود فيه من عرف ودين؛ كل ذلك مما يحدد ملامح ساكن هذا الوطن، ويمنحه الطاقة والرابطة الاجتماعية التي تتيح له القيام بدوره المعنوي الاجتماعي المتعارف عليه. هذا المركب المعنوي يشبه إلى حد ما ذلك المركب المادي الذي يجري خلال جسم كل منا محددا الكثير من ملامحنا البيولوجية، وباثا فينا الطاقة الحيوية المسيرة للجسم والمحافظة على كيانه المادي، ألا وهو ذلك السائل السحري الأحمر المعروف بالدم.

قبل اكتشاف وسائل التحليل المخبرية الحديثة، لم يكن بمقدور الناس تفسير ما يطرأ على الجسم من هزال، ونوبات دوار، وغبش رؤية، وغير ذلك من أمراض أنيميا الدم المختلفة التي لا يظهر أثرها بشكل واضح على أدوات وأعضاء الجسم الظاهرة كاليد أو الرجل، إلا أن  أذى ذلك يتخلل الجسم ويجري فيه مجرى ذلك الدم الذي بكدره وفساده يعتل الجسم ويمرض، وبتوقف حركته تتوقف الحياة.

آلاف عينات الدماء تجد طريقها كل ساعة إلى مختبرات التحليل، وهي في شكلها الخارجي الظاهر لا تختلف عن بعضها البعض، إلا أن التقارير المخبرية المجهرية لها وجهة نظر أخرى، فتمنح شهادة الكفاءة والعافية لبعض العينات، وتضع علامات تحذيرية حمراء على بعضها الآخر!

ألاف بل ملايين المواطنين يتساوون بشكل يكاد يكون تاما في اللون واللسان والدين والعادات والتقاليد وبيانات السجلات المدنية والإحصائيات السكانية والاستبيانات الاجتماعية، إلا أن نتائج مختبرات ساحات معارك التضحية وفداء الوطن لها، هي الأخرى، رأي آخر، حيث تضع نياشين النبل على بعض الصدور والقبور، وتضع على بعضها الآخر لطخ من عار وشنار.

رأينا رأي العين وسمعنا الخبر اليقين عن نتائج وتقارير ساحات معارك الوطنية وحب الوطن خلال فترة الاغتصاب الأجنبي لبلادنا ليبيا، وكذا خلال فترة الاغتصاب المحلي لها، وقرأنا ما دونته تلك النتائج بمداد ذهبي لأسماء رجال قدموا بملء إرادتهم عزيز أرواحهم وأعمارهم من أجل عزة الوطن وكرامة ساكنيه، كما وضعت تلك الساحات خطوط حمراء كبيرة تحت أسماء كثيرة أخرى!

خلال محنة الليبيين المحلية في صراعهم الناعم مع الدكتاتور طوال عقود حكمه، كانوا في مستوى المسئولية ؛ فضحى الكثير منهم بأرواحهم، وآثر القادرون منهم الهجرة خارج الوطن، وهاجر غير القادرين داخل الوطن. وعندما انتقل هذا الصراع إلى مرحلته الخشنة الأخيرة  ضرب الليبيون مثالا يحتذى في نقاء دمهم من شبهة أنيميا الوطنية، بل وجرت الكثير من تلك الدماء فداء للوطن وعزه وعز مواطنيه.

خلال الثمانية أشهر الساخنة، وبفعل طاقة الدماء النقية الخالية من أنيميا الوطنية، تحرك قطار تحرير الوطن وتحرر من مصدات التخلف بسرعة أسطورية، حتى أنه حطم في هذه المدة القصيرة ما بنته الدكتاتورية من عوائق ومصدات في أكثر من أربعة عقود.

غازلت هذه الصورة خيالي حتى أنه ذهب بي وبكل الحالمين المتفائلين أمثالي بعيدا جدا؛ فافترضت، وبكل حسن نية، ثبات سرعة انطلاق المارد الليبي بما حوته كتلته الثائرة كلها قبل أن يعبث بها الفرز الانتهازي الأخير، وبت أرسم صورة ليبيا بعد فكاك قيودها كما لو أنها ورشة عمل وبناء وقد اكتظت بجموع الليبيين المشحونين بنفس حماستهم الأولى وهم يملئون الشوارع والميادين ويتسابقون للشهادة في ساحات الوغى.

حق للمقاتلين بشتى أصنافهم أن يستريحوا استراحة المقاتل الضرورية المعروفة، كما يُغفر لهم ما كان منهم من سهو الإنسان ونسيانه؛ إلا أنه لم يخطر ببالنا أبدا أن الصورة ستنقلب هذا الانقلاب الصارخ، فينخرط ثائرو الأمس في نوبة لا مبالاة وعدم اكتراث تشبه إلى حد بعيد نوبة اللامبالاة الإجبارية التي أوقعتهم فيها الحقبة الجماهيرية المظلمة.

إبان الحقبة الجماهيرية تلك كان من السهل العثور على مسبب اللامبالاة والمشتبه به الوحيد، وهو تسلط الفرد وتكريسه لسلوك اللامبالاة، بيد أن ذلك لم يعد ممكنا وقد صرح الليبيون جميعهم واعترفوا، والاعتراف سيد الأدلة، بخلو أيديهم من أي قيد وإرادتهم من أية شائبة، وهو ما يحتم علينا النظر إلى زاوية مظلمة أخرى يختبئ فيها الفاعل والمتسبب الوحيد في فتور همة الليبيين وغبش رؤيتهم وخوار عزيمتهم بل وانحراف مؤشرات بوصلاتهم.

المشتبه به الوحيد واضح وصريح، وهو بالتأكيد ليس الامبريالية أو الصهيونية العالمية أو أزلام القذافي أو غير ذلك من مشاجب نظرية المؤامرة التي يعلق عليها العاجزون أخطاءهم ويسندون إليها عيوبهم، إنه وبكل تأكيد فيروس أنيميا الوطنية الذي أخمده دفق وطنية مواجهة الدكتاتورية، ولكنه لم يفتك به ويستأصله.

أنيميا الوطنية الليبية لنا معه نحن الليبيين قصص طويلة دارت الكثير من أحداثها خلال عقود الجماهيرية المظلمة، حيث ضرب صانعها ومساعدوه أمثلة أقرب إلى الخيال في شح جرعة حب الوطن وإكرام مواطنيه، حتى أن الأجانب الذين يعيشون بيننا كانوا يتبادلون النكاث الطريفة التي لا تخلو من الحقيقة حيال ذلك، وخاصة قولهم المشهور بأن الليبيين هم مستأجرون لليبيا، وليسوا ملاكا لها! 

ذات مرة كنت على متن طائرة إمارتية وكان إلى جواري شاب إمارتي، وظهر إعلان إعلامي على شاشات مقصورة الركاب مفاده إحراز الخطوط الإماراتية المركز الأول في مستوى الضيافة. التفتت إلى جاري الإماراتي وسألته مستغربا: كيف يمكن لشركة قطاع عام في دنيا العرب وفي بلاد نامية كالإمارات افتكاك هذه المرتبة العالمية من أيدي عمالقة الطيران العالمي؟ استغرب جاري سؤالي وربما استهجنه، وقال: لا فرق عندنا بين ملكنا الشخصي وما تملكه الدولة؛ فشعوري نحو الطاولة التي أجلس عليها في مكتبي الحكومي، هو ذات شعوري نحو طاولة مكتبي المنزلي! استطردنا في الحديث ونحا نحو علاقة الحاكم بالمحكوم، ففاجئني جاري الإماراتي بقوله: إنني أستطيع من خلال تليفون الطائرة التي نستقلها حجز موعد لي مع رئيس الدولة!

كان رئيسي في ذلك الوقت الكولونيل الجلف القذافي صانع عصر الجماهير ثم بعد ذلك ساحقهم، وكان رئيس دولة الراكب إلى جواري رجل بدوي مثل القذافي اسمه الشيخ زايد، والذي يشبه القذافي في أشياء كثيرة فيما عدا شيء واحد!

الشيء الواحد الذي يتميز به ذلك الرجل، ويختلف فيه عن القذافي وأشباه القذافي هو جرعة رقة القلب على مواطني بلده، وبالغ حنوه عليهم، ورأفته بهم!

لابد أن هناك تنافر جيني عميق بين كل من أنيميا الوطنية في دم الإنسان ورقة قلبه وسرعة انسكاب دموعه؛ ذلك أن رقة قلب الأم نحو وليدها تدفعها غريزيا لانتشاله من الخطر حتى وإن لحقها من ذلك الخطر ما لحق. كل الذين رق قلبهم على الليبيين وهم يعانون عسف الدكتاتورية ويتجرعون مرارتها فعارضوا الدكتاتورية بكافة صور المعارضة، ثم حرصوا على عدم مقايضة ذلك بما يتزاحم عليه الآن غلاظ القلوب الموبوءة دماؤهم بأنيميا الوطنية من غنائم مخزية!

من مظاهر رقة القلب والبرء من أنيميا الوطنية ما كان من موقف مشرف وقفه كل من المستشار مصطفى عبد الجليل والدكتور محمد المقريف، وما أبداه كل منهما من حب للوطن وانحياز لمواطنيه ضد قوة مستبدة غاشمة.

وعندما استلم الرجلان السلطة وغادراها، حرص كل منهما على بيضة الوطن، ودليل ذلك تنحيهما عن كرسي الحكم دون أية مقايضة أو تلكؤ أو ضجيج، وهو ما يعتبر علامة صريحة على خلو دم كل منهما من أي قطرة من سيل فيروس الأنيميا الليبية الدائم التدفق حتى حينه، ذلك النهر الذي اغترف منه القذافي حتى انمسخت فطرته، وتحول إلى ذئب في ثوب قائد جماهيري أممي!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com




الأربعاء، يونيو 05، 2013

إذا انقلب الهرم ................

إذا انقلب الهرم، فذلك هو الغرم!

زادي من علوم الفكر والفلسفة والسياسة غاية في التواضع، وهو ما يحول دون تمكني من نقد واستقصاء الثورة الليبية فكرا وحركة وحصادا، ومن تم الوقوف على جملة إيجابيات هذه الثورة وسلبياتها.

بعض تلك السلبيات يمكن لمثلي إدراكها بسهولة، وخاصة ما نسميه بلهجتنا الليبية "العوج وقلة القدو"، والذي يصبغ الكثير من تصرفاتنا، سواء على المستوى الشخصي، أو الرسمي العام. وهو عوج لا زلنا نمارسه حتى بعد أن من الله علينا بتحطيم رأس العوج، القذافي، وما منحنا سبحانه من فضل تمثل في هدية الخلاص الربانية التي سخر الله جنود الأرض والسماء من أجل إيصالها لنا.

إنني وكأي مواطن ليبي بسيط قضى كل عمره متعثرا فوق قاعدة الهرم الاجتماعي الليبي، تلك القاعدة التي شحنتها الدكتاتورية البغيضة بأشنع أنواع العوج الجماهيري، أيقنت أن لدى الليبيين قدرة لا بأس بها على تحسس العوج وإدراكه، وهو ما أدى بهم، بعد صبرهم الطويل، إلى رفض ذلك العوج واستنكاره، وأخيرا الثورة عليه وهدم أوكاره.

أجل أنا أحد الملايين التي مارس عليها الدكتاتور السابق هوايته المفضلة" العوج وقلة القدو"، وظن أنه بهذا قد أفلح في قتل حس الليبيين وتحطيم مجسات تمييزهم بين الخير والشر والظلم والعدل والعوج والصح؛ غير أن هذه الملايين لغزت على القذافي اللعبة، فانفجرت في وجهه في ذروة سكونها وغيبوبتها الظاهرة، وأسقطته، بل جعلت من حادثة سقوطه وتهاويه المدوية المفاجئة على أيدي ضحاياه المسحوقين المحقونين بجرعة مفرطة من مركب العوج درسا في الفكر والفلسفة والسياسة تتضاءل أمامه كل الدروس.

كل فرسان الثورة والناطقين باسمها في مرحلتيها؛ المرحلة الناعمة التي استمرت العقود الطوال، والمرحلة الخشنة خلال شهور الانتفاضة، كلهم كانوا مجمعين على أن وقود هذه الثورة مصدره استنكار الملايين من الليبيين سكان قاعدة الهرم كل مظاهر وأعراض العوج؛ من تخلف، وفقر، وجهل، ومرض غير مبرر، وغير منطقي.

المعادلة المنطقية البسيطة تقول: بمجرد نجاح الثورة وقطع رأس العوج ورمزه سيتوجه جمهور المنتصرين المتنفسين الصعداء إلى حيث كانوا يضعون أعينهم عليه: " العوج وقلة القدو"، ويشرعون في قطع أطرافه المتمثلة في الفقر والمرض والجهل والتخلف الحضاري لبلد ذات إمكانيات وموارد كثيرة وعدد سكان بسيط.

تصورت، إبان الثورة،  أن الشباب الحاملين لبنادقهم، وبمجرد تحول العوائق الحائلة بينهم وبين هدم أوكار العوج المعطلة لبناء وطنهم، سيضعون جميعهم تلك البنادق، ويقتنون بدلا منها أدوات البناء ووسائل التطبيب والتعليم والتعمير، وغير ذلك من مستلزمات سلم الحضارة الذي سيحمل سكان ليبيا من جزيرة العوج إلى فضاء الصح والمزبوط!

توقعت أن جمهور النخبة السياسية الذين كانوا يسوقون أمثلة فساد النظام السابق، وما انتشر خلال فترة حكمه من أمراض وعلل اجتماعية كثيرة، أن يبادروا جميعهم إلى بؤر تلك الأمراض، آخذين بيد غيرهم نحو تكوين فريق وطني واحد قوي عملاق، يجعل كل همه إزاحة رموز العوج التي سالت بسببها دماء الآلاف. وللتذكير فإن هذا الهم كان من أهم محتويات أجندة الثورة إبان اشتعالها، وقبل انتهائها بقليل!

فجأة انقلب الهرم، وحلت قمته محل قاعدته، وانخرط الجميع؛ شيبا وشبابا، نخبة وعواما، مثقفين وأنصاف مثقفين، ثوارا وأشباه ثوار، انخرطوا جميعهم في تكالب محموم على ما حواه رأس الهرم من أشياء مثيرة تنجذب لها الغرائز وتميل نحوها الأهواء، منها ما هو مقبول مشروع، إلا أن معظمها مذموم ممقوت.

المذموم الممقوت في سلة أمراض الهرم المقلوب، هو علة اضطراب سلم الأولويات، والذي بسببه انهمكنا في النافلة ونسينا الفرض، وتعلقنا بالمهم واستحقرنا الأهم. أهم مثل على ذلك هو مبالغتنا المفرطة، وهدر الكثير من وقتنا وجهدنا في مسألة أداة الحكم، والتي يكفينا منها في هذه الفترة الانتقالية تلك العصا البسيطة التي كان يمسك بها المرحوم الملك إدريس، والتي هي عبارة عن دستورنا القديم الذي قد يحتاج إلى القليل من التحسين، ومجلسي نواب وشيوخ مؤقتين يشرفان على حكومة تكنوقراط ينصب جل همها على إطفاء حرائق الثورة، وإيقاف النزيف الذي سببته سكاكين العوج طوال حقبة العوج، والعمل بأقصى سرعة على إعادة تأهيل الليبيين وتنقيتهم من علل وأدران رحلة السبي الدكتاتوري الطويلة.  

من أقل حسنات ذلك هو إبقاء هرم كيان الوطن والأمة قائما في مكانه وفي وضعه الصحيح، وهو ما يجعل سلم الأولويات والضروريات في وضعه الطبيعي، كما يمنع المراهقين ثوريا وسياسيا والمتنطعين والانتهازيين من العبث بالثورة وتعطيل قطف ثمرتها الأهم: قيام الدولة.

الهرم لا زال مقلوبا وقالبا معه تفكير وتوجهات وأفعال الناس؛ فما أن تمر بمجموعة شباب إلا وتجدهم يخوضون في أمور السياسة العليا للدولة بحماسة بالغة، وكأن الشأن السياسي هو الذي يمنع هؤلاء الشباب وغيرهم من الانخراط في إزاحة نهر العوج الذي وصلت أدرانه وأوساخه الذقون.

أي عوج أكبر من تركنا القضايا الخطيرة، وما أكثرها، وتركيز كل اهتمامنا في موضوع العزل السياسي الذي يكفينا منه ما تقوم به هيئة النزاهة من دور لمسنا نجاعته من خلال ما قامت به هذه الهيئة خلال عمرها القصير. وبسبب الترف المفرط في موضوع العزل فقد تمدد هذا العزل واستطال وخرج عن السيطرة ووصل به الحال حتى إرغام الثورة على أكل أولادها، ومساواة الجزار بالضحية، ووضع أنصار القذافي وجنوده ومن وقف ضد القذافي ورهن في ذلك عمره في سلة واحدة!

أي عوج أكبر من ترك الصدأ يتراكم مانعا قطار التغيير والتطوير من التحرك ولو مترا واحدا في غابة بنيتنا التحتية التي لم تزدها الثورة على التخلف إلا تخلفا.

أي عوج أعظم من أن ترى المتشحين برداء الثورة والحاملين سلاحها المادي والمعنوي يملئون المكان، ذلك المكان الذي غص بأكداس العوج المختلفة، إلا أن الثوار الأشاوس يتخطون كل ذلك وكأنه لا يعنيهم، ويتزاحمون بعيدا عنه حيث تعربد رائحة الغنائم المعنوية والمادية، وبات من المعقول تسمية ثورة التكبير بثورة التهبير!

أكبر عوج نحذره ونخشاه، هو اعوجاج تفكيرنا وانحراف مؤشر بوصلتنا؛ فنرى الأمر الضروري والملح كماليا وقابلا للتأجيل، ونرى الأمر الهامشي أساسيا وعاجل التنفيذ!

أصوات الملايين التي كانت تضج وتصيح بأعلى صوتها من أجل المسارعة في إصلاح أحوالها المعيشية اليومية البسيطة، أضحى صوتها خافتا خجولا؛ إذ ليس من البروتوكول أن تطرق باب وزير الحكم المحلي والبيئة أو الزراعة، مثلا، لتقول له: أسرع بانتشال الغابات من بين أنياب الجرافات، والسيد الوزير تطلبه كتلته السياسية على وجه السرعة من أجل الانضمام إلى فريقه الحزبي الذي يخوض حربا ضروسا مع منافسيه على هبرة السلطة وصراع كراسي الحكم ذات الإيقاع المرتفع جدا عما يحشرج به ذلك المواطن من استغاثات!

أما الوضع المزري للأجهزة الرقابية الإدارية والمالية،  والوضع المأساوي للمستشفيات والمدارس، والوضع الكارثي للطرق والمجاري، وأوضاع فاضحة كثيرة لأمور خطيرة عديدة أخرى، فقد بات كل ذلك من اختصاص القنوات التجارية الإذاعية والتلفزية، والتي اتخذت من إثارة المستمع أو المشاهد وانطلاق لسانه مادة أساسية في حشو برامجها.

لا سبيل إلى تجنب الغرم، إلا بإقامة الهرم!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com