الشريك الفني، والشريك الأمني!
وأنا أتابع بحزن وألم شديد سمفونية الرعب الجارية أحداثها الأليمة هذه الأيام
على خشبة مسرح مدينة طرابلس، تتوالى في خيالي المسكون بيأسي الممتد على امتداد لوحة
عمري الخالية بتاتا ولو من مربع صغير جدا من مربعات الفرح التي تكتظ بها أخيلة الناس
وذاكرتهم هناك في بلاد كثيرة لا يفصل بيننا وبينها سوى ملح المتوسط الذي يبدو أنه تيبس
وتكدس على الشواطئ الجنوبية لهذا المتوسط، صانعا جبلا من هم وبؤس، فصل بيننا وبين كل
عذوبة لحياة، أو رغد وفرح لعيش !!!
لا بأس فما عاد أمام أمثالي سكان الجنوب المحرومين من طويل عمر حتى يجهدون خيالاتهم
في اختيار وجلب أصناف الفرح التي يضج بها الشمال، وهي خيالات بات البعض من أشقيائها
يتسلل إلى جنوبنا ليراودنا شماتة، لا تبرجا وإثارة!
أقول، وأنا أتابع إيقاع سمفونية الرعب الصيفي الطرابلسي، طرقت ذهني خاطرة، تعودت
عليها، وتعودت هي علي ، وهي قيامي بقلب الصورة القائمة الماثلة أمامي رأسا على عقب،
وذلك لاستنكاه بعضا من معانيها التي ربما كانت قد توارت خلف دخانها الكثيف وضجيجها
المخيف.
الذي أوحى به إلي خيالي في وضعه المعكوس المقلوب هذا، هو تصور أن إدارة مطار
طرابلس، وبدل أن توقع عقد شراكة أمنية مع مختار الأخضر، قامت هذه الإدارة بتوقيع عقد
شراكة فنية مع شريك سويسري من أجل تطوير المطار وتحسين أدائه!
ولأن الشريك الفني السويسري سليل صناع فاترينات الزمن وخبراء فن قياسه واستثماره؛
قام هذا الشريك خلال الثلاث سنوات الطويلة لديه القصيرة لدينا بأعمال تطوير لم تحققها
إدارة مطار طرابلس الجماهيرية خلال عشرات أضعاف تلك المدة.
خيالي الجامح المتهور تمادى أكثر في قلب الصورة القاتمة القائمة، ولم يقف عند
مجرد استبدال إدارة الأخضر الترفساني بإدارة الأشقر السويسراني، بل إنه اشتط وذهب بعيدا،
ليفترض أن هذا السويسري قام بتوقيع عقد استثمار مواز لعقد الإدارة، بحيث يقوم الشريك
السويسري ببناء مطار عكارة الدولي، ليكون توأما لمطار زيوريخ، وذلك فقط مقابل الاستفادة
من إيرادات المطار لمدة ثلاث سنوات، ثم تعود بعد ذلك ملكية أصول المطار لكل الليبيين،
وليس فقط للعكاريين أو الترفاسيين أو الطرابلسيين أو البرقاويين، وذلك لأن توأمه مطار
زيوريخ هو أيضا ملك مشاع ليس فقط للزيوريخيين أو السويسريين أو الإيطاليين أو الفرنسيين،
ولكن ملكيته تعود لكل الأوروبيين الذين يجوسون خلاله ليل نهار بدون ما قيود، تماما
كما يجوسون الأفنية الخلفية لبيوتهم!
ازدادت وتيرة الانفجارات، واشتد صوتها، وتخيلت أن البارود يطرق باب غرفتي التي
ارتدت ثوب ليل طرابلس المعهود المتكون من غلالة ظلام الليل المعروف، ومن القميص الكهربائي
منزوع خيوط الضوء!
وعند حلول الظلام الذي أكرهه، ازداد استسلاما لخيالاتي التي تبتزني أكثر عند
ضعفي، وتستغل حالتي أسوأ استغلال. لقد صورت لي هذه الخيالات المبتزة بأن تلك الانفجارات
الليلية التي أسمعها هي بمناسبة انتهاء عقد الشريك الأمني الأخضر الترفاسي مع بلدية
عكارة، وكذا الاحتفال بتسليم المطار المتفحم محليا ودوليا.
ولكن كيف يجري احتفال بهذه الأهمية والكهرباء مقطوعة؟! هكذا تساءلت، وبسرعة
الخيال جاء الجواب المفحم: أنسيت أن من ضمن عقد الشراكة الأمنية، هو قيام الشريك الأمني
بإجراء طقوس الاحتفال على أضواء أكبر شمعة سوداء عرفها التاريخ، وحيث تمتد جذور هذه
الشمعة في موقد أسطوري يتربع على ملايين اللترات من المحروقات شديدة الاشتعال.
العجيب الطريف، وربما الرهيب المخيف، هو ذلك الاتصال التلباتي بين الشريك الأمني في مطار الغرب الليبي، ونظيره الشريك
الأمني في مطار الشرق الليبي، وقيامهما مشتركين بإجراء طقوس التسليم والاستلام للمطارين
في وقت واحد، وبمأتم ليبي واحد!
أليس هذا كله من جديد ليبيا التي دائما تعطي جديدا، وإن لم يكن سعيدا مجيدا!
بيد أن السؤال المرعب حقا، هو إمكانية تخيل ردة فعل أحفادنا، وهم يقرؤون ما
صنع بنا وبهم سفهاؤنا!
محمد عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق