الثلاثاء، أكتوبر 30، 2012


 من خواطري القديمة

عندما نغفل فإننا نتعرى، بل ندنو عن البهائم قدرا

جاء في المعاجم أن الغين والفاء واللام أصل صحيح يدل على ترك الشيء سهوا وربما عمدا، وذلك بحسب ما إذا غفل الفاعل أو أغفل .
 والسهو كما يقولون مرفوع، وهو قصور خِلقي في الإنسان قدَّره خالقه جلا وعلا لحكمة تشف عن رحمته به من ناحية، ولانسجام ذلك مع إمكانيات ذلك المخلوق وحدود مسؤوليته من ناحية أخرى .

كثيرة هي المرات التي أقف فيها نادما متحسرا بسبب ملمَّةٍ ألمت بي، أو خسارة كابدتها، وذلك لا لشيء إلا لغفلتي أو تغافلي عن إدراك أمر ما، في وقت ما، وفي مكان ما.  وتتزايد درجة ندمي وتحسري هذه مع زيادة نسبة  التغافل في الفعل الذي فعلت . وسواء كانت هذه الحالة غفلة أم تغافلا مني، فإن تكرر هذه الحالة  بصورتيها أدخلني في وسواس قهري جعلني أخاف من الوقوع في الغفلة كلما هممت بالقيام بأي فعل مهما كان بسيطا ومأمونا، الأمر الذي حذا ببعض من هم حولي إلى نصحي بضرورة تلمُّس علاج لهذه الحالة.
 
حدث ذلك  قبل أن أبلغ سن التكليف، ولربما كان لهذا الأمر حينئذ ما يبرره، غير أن هذه الحالة تفاقمت بعد تلك السن وأخذت تكبر بكبري وبكبر ما يعرض لي من أحوال ، سواء في حياتي الاجتماعية الخاصة من زواج وتربية اطفال ، أو حياتي الإجتماعية العامة والوظيفية، وما ترتبه من مسئوليات تستدعي اتخاذ إجراء أو إصدار قرار، علا  شأن ذلك الإجراء  والقرار أو صغر. ووجدت نفسي في كل مرحلة من مراحل حياتي هذه أضيف ثقلا جديدا إلى أثقالي، وأتورط أكثر في هذه المتاهة التي تتوسع وتزداد بتوسع وزيادة أعداد وأنواع تلك الأثقال والمسؤوليات التي أواجهها، مكرها تارة ومختارا تارة أخرى، ويزداد تبعا لذلك ذلك الشعور المرهق المخيف من غول الغفلة، وهو شعور طغى حتى بدا جزءا من شخصيتي، بل عدَّني بعض من حولي حساسا جدا، وموسوسا لدرجة الخبل، وبأنني أبالغ كثيرا في تقدير درجة الخوف من ذلك الشبح الذي أراه ولا يرونه، ودليلهم في هذا ما يلاحظونه مني من شديد الحذر وفرط التحسب عند قيامي برعاية أطفالي وما أبديه من مبالغة في الدعوة إلى الحذر من التغافل عنهم حتى عند قيامهم بممارسة ألعابهم، بل وحتى عند فضهم لمغلف الحلوى أو الشيكولاته، أجل الشيكولاته، حيث كاد أحد أبنائي أن يفقد حياته بسبب مغلف الشيكولاته هذا، وذلك عندما استعصى عليه فتحه بأصابعه، فاستعان بأسنانه، وفي غفلة أو تغافل منه أو منا تسلل ذلك المغلف المزركش الناعم إلى قناة تنفسه ليتحول فجأة إلى مغلاق ثقيل محكم كتم أنفاسه وكاد أن يودي بحياته، وما أنقذه من الموت المحقق إلا الله، والذي أرجو أن تكون هذه السطور تنويها بفضله، واعترافا بمنته، وإظهارا لنعمته، وشكرا وحمدا له وثناء عليه بعدد ما حمده المنتبهون، وغفل عن حمده الغافلون .

 وبذلك كنت مُتعِبا حقا لمن حولي عندما أركب معهم سيارة مثلا، حيث أقوم في كل مرة أهمُّ فيها بقفل باب السيارة بتفقد موضع انغلاق ذلك الباب، وذلك تحسبا لوجود أنامل رقيقة لطفل صغير تعبث يداه الطريتان بحافة تلك المقصلة، والتي يتربص سيفها الغادر في ثنايا غفلتنا ليوقظنا فزعين مرعوبين بصوت قرقعته الممتزجة بصراخ طفل برئ نهش غول الغفلة والفولاذ أنامله الناعمة الرقيقة .

أجل ما أكثر المقاصل من مثل مقصلة باب السيارة، وما أكثر قرقعة سيوفها، وصرخات ضحاياها، وما أكثر الخسائر التي حصدنا، والآلام التي تجرعنا بسبب هذه الحالة التي تتحول من مجرد سهو وغفلة مبررة إلى عادة مكررة متراكمة، يغطي رمادها جمرَها الحارق القاتل المتربص في طياتها. ولـَكـَم تزداد حرقتنا وتعظم حسرتنا عندما ندرك أن قليلا من الوعي والحذر كان كافيا لدفع ذلك الطوفان من الخسائر والآلام وأحيانا الدماء التي تنفجر على حين غرة من جبل ركام الغفلة والتغافل الذي صنعناه من اللبنات المتراكبة المتراكمة لتلك الخصلة الذميمة العقيمة الأثيمة الأليمة .

يواجهني الكثير ممن أعرف عند التطرق لهذه الحالة، والتي أصبحت لشيوعها ظاهرة ببعض الكلمات منها : خلـّيها على الله ، والحافظ ربي ، بل ويشتط بعضهم ويدفع بتلك الكلمة التي تثيرني كثيرا، والتي وفدت إلى لغتنا الدارجة حديثا وهي كلمة (ماتعدلش)، تلك الكلمة التي عبثت وبعنف بمؤشرات بوصلاتنا، ودفعت بها وبنا إلى الاتجاه العكسي في رحلتنا إلى الهدف الذي نريد .

أتعجَّب كثيرا من الحاملين الكبار للأثقال الكبار، ولا أخفيكم شدة عجبي وعظيم رهبتي  من القاضي الذي يصدر في أحيان ليست قليلة أحكاما ثقيلة تصل إلى درجة إعدام شخص ما أو سجنه طول عمره ، وأقول في نفسي ماذا لو كنت قاضيا وأنا على هذا الحال، هل تراني أستطيع أن أتحرر من حالة الخوف من غول الشعور بالغفلة عن نص قانوني، أو عن الإلمام ببعض خيوط القضية الدقيقة، والتي قد تقلب الحكم رأسا على عقب. وهل أستطيع بحذري هذا أن أرفع تلك المطرقة التي تنخلع لوقعها القلوب وأصدر حكما كهذا. إلا أنني  أخرج سريعا مما أنا فيه عندما أتذكر أن القاضي ليس وحده من يحمل ذلك الثقل، بل يقف إلى جواره جيش كبير من نصوص القوانين وهيئة المحكمة وحق المجني عليه واعتراف الجاني وغير ذلك كثير مما يساهم إلى حد كبير في سهولة اتخاذ تلك الأحكام الثقيلة ، ورغم ذلك (يا من مظاليم في الحبس) .       

وأحيانا أخرى تراني أنظر إلى الشخصيات الكبيرة جدا، والتي رغم كبرها فإنها أيضا تغفل كما أغفل، ورغم ذلك تراها زجّت بنفسها أو زجَّ  بها من حولها في إتخاذ قرارات، أو إطلاق أحكام فردية طالت دماء الناس وأرزاقهم وأعراضهم، وأرى كما يرى غيري تلك الهالة المحيطة بهم، والتي تبعث الرهبة والخوف في نفوس بعض من ينظر إليهم، وربما تبعث الإعجاب في نفوس البعض الآخر، إلا أن نظرتي هذه لا تلبث أن تتبدل عند سقوطهم ، فتراني أنظر إليهم مسترجعا بذاكرتي ما كانوا قد فعلوه ، وأكاد أسمع نشيج المدمنين منهم على الغفلة والتغافل وذلك عندما يرون رأي العين تلك الهوّات العميقة التي أوقعتهم فيها غفلتهم أو تغافلهم أو قلة حذرهم ، وأكاد أراهم يعضّون أصابع الندامة على كثير ما أدمنوه منها، وشحيح ما مارسوه من حذر ، وأقول في نفسي لو كنت مثلهم، وابتـُليت بما ابتلوا به لتمترست وراء الكثير من المستشارين والمساعدين وأهل الرأي والخبرة، ولتحصّنت وراء القوانين، ودعوت كل من أعرف لمشاركتي في حِملي هذا، ولاستعذت بالله من الغفلة واستخرته بعد كل هذا ألف مرة عند كل مرة .  

 أجل كل ساحة من ساحات حياتنا هي قاعة محكمة نحن فيها القضاة المعرّضون للغفلة، ونحن من يصدر الأحكام خطيرها وحقيرها ،ونحن من يتحمل التبعات عاجلها وآجلها، فنجني الربح والرضاء عن حَسَنها ، والخسارة والندم عن سيئها. وهي أيضا حلبة صراع يكاد يكون مصارعنا الأخطر فيها هو ذلك الغول الذي نطلق عليه ألطف أسمائه وهو الغفلة، ذلك العدو الذي له ألف عين، ويتحصن  بألف درع، ونحن أمامه عميانا وعراة حتى من لباس وعينا الذي منحه الخالق لنا .

نعم إننا في حالة غفلتنا نعمى عن كل شيء، ونتعرى من كل درع ، حتى يضلنا هذا العمي ويفضحنا ذلك العري ليضعنا عند مرتبة ما خلق الله من بهائم وربما أقل وأدنى .

 وبعد فهل أنا بشدة حذري وتمترسي وراء درع يقظتي، وخوفي المفرط من غفلتي أكون حساسا جدا لدرجة الجنون . لئن كان الأمر كذلك فما أجمل ذلك الجنون ..

السبت، أكتوبر 20، 2012


بعد الجماهيرية؛ هل هي الديمقراطية، أم الديماغوجية؟

لم يختر الليبيون الجماهيرية ونظامها الذي رآه مبدعه القذافي في قمة الإبداع، وإنما ساق ذلك الدكتاتور الليبيين سوقا وعلى مدى العقود لا لحكم أنفسهم بأنفسهم كما يدعي هو ويروج لفكرته، وإنما فقط ليقوموا بتجربة مكلفة جدا ليس لها من هدف سوى القيام بالإعلان عن منتج جديد لم يقم صاحبه بتطبيق أدنى معايير الجدوى عليه، بل قام منذ الوهلة الأولى بالزج بكل مقدرات البلد في هذه التجربة الخطيرة وغير المدروسة، والتي لم ينتج مركبها الضخم سوى منتجات معيبة لم تغر أحدا بالالتفات إليها أو الاهتمام بها.

وعندما غطى المنتج الجماهيري المعيب كل مكان، وشوهت ملامحه السقيمة كل زاوية من وعينا الغض، وبات من المحتم علينا وفقا لنواميس التاريخ المغادرة الفورية من المختبر الجماهيري القمئ إلى حيث يوجد كل العالم في الفضاء الديمقراطي الرحب، عندما حدث ذلك، وجدنا أنفسنا نسير معاقين؛ نركض على رجل واحدة، ونرى بعين يتيمة، ونفكر بنصف دماغ.

فرحنا ما وسعنا الفرح بسقوط الدكتاتورية، وأقمنا الاحتفالات الأسطورية بالتخلص من الاستبداد بكل صنوفه وأضرابه، ثم بدأنا تدشين صروحنا الديمقراطية وبناء أساسات الدولة الحديثة بكل ملامحها ومكوناتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. بيد أننا ونحن نقوم بكل هذه الأعباء الديمقراطية الجسيمة كنا موبوئين ببقايا أمراض وأدران ما خلفه النظام الجماهيري، بالإضافة إلى ما اعتري حركتنا من قصور ذاتي فرضه علينا موقعنا القدري في خريطة التخلف التاريخي.

أدت محصلة كل من ميراث النظام الجماهيري وميراث التخلف التاريخي إلى تشوه ظاهر في حركتنا ونحن نحبو في مضمار الديمقراطية، حتى بات من المتعين إعادة النظر في اسم حركتنا برمته وضرورة تسميته باسمه الصحيح، ألا وهو الحركة الديماغوجية، أو حكم الغوغاء، بدل الحركة الديمقراطية، أو حكم الأغلبية المسئولة الراشدة.

سوف نحقق إنجازا ديمقراطيا وحضاريا كبيرا، وذلك بمجرد قدرتنا على تشخيص الحالة التي نحن عليها، حالة الحركة الديماغوجية، وهو تشخيص من أولى ثمراته قيام كل منا بسؤال نفسه وسؤال من هم حوله على معدل ومستوى ديمقراطية ما نقوم به من عمل، وبالمقابل معرفة ما يعتري  هذه الأعمال من ديماغوجية وغوغائية.

أول هذه الأسئلة وأكثرها إلحاحا هو:

هل ثرنا، نحن الليبيين، على دكتاتور بائن الدكتاتورية استعمل القوة المفرطة لإخضاعنا جميعا لسطوته الاستبدادية الغاشمة ردحا طويلا من الزمن؟

إن الإجابة الصحيحة البريئة الخالية من أي غرض شخصي أو فئوي أو قبلي على هذا السؤال هي مفتاح بوابة ولوجنا إلى المضمار الديمقراطي، وهي أيضا الشفرة التي سنحل بها ما صعب من ألغاز وأحاجي شتتت الليبيين وفرقتهم أمام خيمة الدكتاتور وهو حي، ولا زالت تشتتهم وتفرقهم فوق قبر الدكتاتور بعدما شبع موتا. وبمعنى آخر ستعمل الإجابة الصحيحة على هذا السؤال على توحيدنا وإزالة ما كل يعيق تصالحنا وتسامحنا واتفاقنا.

أما السؤال الثاني فهو:

هل نحن أذكياء بما يكفي في اختيارنا لأقصر الطرق وأجداها لبناء دولتنا، حتى وإن تنازل البعض منا، ولو مؤقتا، على بعض ما يحمله من أفكار تختلف بشكل أو بآخر مع أفكار شريكه في الفريق الوطني الواحد، وكذا تخلصه من توجساته وظنونه وشكوكه أيا كان مبررها طالما أننا نرى الصرح الوطني يرتفع بناؤه ويعلو؟

وبمعنى آخر، وأخذا في الاعتبار بحتمية المرور بالمرحلة الديماغوجية، إلا أن سرعة عبورنا ومغادرتنا هذه المرحلة هو ما يجب أن يجعله كل ليبي في مقدمة همومه واهتماماته.

إن تحقيقنا لدرجة النجاح على هذين السؤالين هو المؤشر الوحيد على خلونا من بقايا علل وأمراض الدكتاتورية والجماهيرية والغوغائية، وهو الدليل الصريح الواضح على تؤهلنا لخوض غمار المعترك الديمقراطي والفوز بكأس المونديال الديمقراطي الصعب الثمين.


محمد عبد الله الشيباني

السبت، أكتوبر 13، 2012



من خواطري القديمة
كاتالوج
عديدة هي المرات التي أقف فيها ضاحكا من نفسي مرة وباكيا عليها مرات متأسفا على حالي ومتحسرا لسوء مآلي، وذلك بسبب وقوعي في أخطاء لم أعمل لها حساب، منها البسيط المضحك، ومنها العظيم المنهك، وكذلك تحملي لخسائر لم ترصدها توقعاتي، ولم تتوقعها حساباتي، ويزيدني ألما وغبنا استحالة الرجوع إلى الوراء ولو لخطوة واحدة أو استبدال الفكرة بأخرى، وأنَّ لي ذلك وأنا عالق في قطار الحياة السريع ذي الإتجاه الواحد.

 تمرّ بى هذه الحالة كلما مرَّ قطار حياتي بمحطة من محطاتها الكثيرة، الهينة منها والخطيرة، والتي كلما وقفت على أعتاب إحداها أعمد إلى ذاكرتي فأكدُّها وحافظة أوراقي فأبعثرها باحثا عن فكرة تعينني أو خارطة ترشدني أو نصيحة كان قد تبرع بها بعض الناصحين الذين مروا قبلي بمثل هذه المحطات، وكم تكون غبطتي شديدة ونشوتي عارمة عندما أجد ذلك التطابق المبهج اللذيذ بين خارطة قديمة كنت قد نسختها من أحد أطالس العابرين قبلي لدروب جرَّني إليها تيار الحياة الجارف فسلكتها بعدهم، أو عندما أجد نصيحة علقت في ذاكرتي كان قد أفاض بها  بعض الناصحين المرتوين برحيق التجربة الناضحين بعبق الحكمة على أمثالي المنتشين بكأس العجلة المبهورين بسرعة القطار وتجدد وتألق ألوان وعلامات المحطات التي يمرون بها الراقصين على إيقاع ما يغمرهم من ضجيج. 

تشيع لدي الكثيرين منا ظاهرة إتلاف الكاتالوجات وكتيبات استعمال الآلات التي يصنعها غيرنا ظنا منا بأنها مجرد أوراق تتساوى مع أوراق تغليف تلك الآلة ، وكم يكون أسفنا شديدا وحسرتنا مريرة عندما يتسبب جهلنا باستعمال هذه الآلة في تلفها، أو إتلاف ما حولها، ويزداد أسفنا وتشتد حسرتنا عندما    نعلم أن بضع كلمات كتبت بلغتنا في كاتالوج هذه الآلة عرضنا عن قراءتها هي سبب الخسارة التي جنينا  والجريمة التي اقترفنا. 

الشيء نفسه يتكرر والعادة تغلب لدى الكثير منا عند إمساكهم بمقود المركب الكبير الذي يعبرون به بحر حياتهم الواسع العميق، وما تخبطنا وسط ذلك العباب وتكرار هفواتنا وأخطائنا وأخيرا غرقنا إلا بسبب إتلاف ذلك الكاتالوج الموجود عادة بجوار المقود أو إهمال النظر إليه بل ربما عدم البحث عنه أصلا .

تعجبني كثيرا السير الذاتية التي تضيف إلى متعة قراءتها فائدة مادتها في إطلاع القارئ على طبيعة مراحل عمر الكاتب والتي كثيرا ما يجد فيها القارئ بعض التشابه مع مرحلة العمر التي يعيشها أو تلك التي تنتظره فيستعير من الكاتب الكثير من الأفكار ويتزود بالعديد من الأدوات والتي يمكن أن تشكل مجتمعة دليلا أو كاتالوجا يساعد في تسيير حياة القارئ، لا بل إنها تزوده بغطاء نفسي يحميه من وطأة ثقل المفاجأة المربك الذي قد تباغته به الأيام. تعجبني كما قلت تلك السير إلا أن الإعجاب استحوذ علي بدرجة أكبر عندما أخبرني أحد الأطباء بأن أحد زملاء مهنته عنون كتاب سيرته الذاتية بعنوان ( my mistakes)  ، أوأخطائي، وتعمدت كتابة هذه الكلمة بلغة صاحب المذكرات الذي لم يكن عربيا كما قال محدثي، ولعله بالتأكيد كان من أولئك القوم الذين يدمنون تدوين ما جرَّبوا، ولا يستحيون من الإعتراف بالأخطاء التي ارتكبوا، إستبراء علنيا من ذنبهم وإفادة يرجونها لغيرهم. .  

نجتمع مرات عديدة في مجامع عزاء لأناس فقدوا حياتهم الغالية أو ثرواتهم الطائلة نتيجة ارتكاب خطأ لا مبرر له إلا الجهل الساذج بتشغيل آلة لم يكلفوا أنفسهم مجرد الإلمام بمعايير أمانها،وكثير منا نحن المعزين يتعمد بدافع حب المعرفة البرئ أو بدافع الفضول الفج إلى الإلمام الدقيق بملابسات حدوث تلك المصائب،غير أننا وبنفس درجة فضولنا العالية لمعرفة كل شيئ ترانا ننسى كل شيئ وكأننا مصابون بعادة ضعف الذاكرة  وإتلاف المعلومة في  تكوينها المعنوي  والمادي وعدم تحميل ذهننا مجرد تذكر ما سمعنا أو شاهدنا ، أوتعويد أنفسنا عبء الإحتفاظِ ولو بوريقات قليلة زهيدة تحوي كنز التجارب الوفير الثمين،حتى أن الكثيرين منا  تراهم يقعون في نفس المأزق ويكرِّرون ذات الخطأ الذي أودى بحياة من يعرفون،بل إن البعض يعمد إلى اختلاق الأعذار والتماس الحجج لخطئهم المضحك المبكي فتراهم يعمدون إلى تبرير ذلك الخطأ بنص ديني يتكلفون  تفسيره أو مثل شعبي عتيق يسيئون فهمه.
 
 يقتحم الكثيرون منا مراحل خطيرة في حياتهم وهم خلو من أي نصيحة، عراة من كل سلاح من أسلحة الخبرة والتجربة، يملؤهم الإعتداد بما لديهم من معرفة مشحونين بما يتأجج في نفوسهم من رغبة جارفة وعاطفة متدفقة في اتخاذ هذا القرار أو ذاك، غير آبهين بما لسلاح الخبرة والتجربة من أهمية متعففين عن النظر بأعين غير أعينهم ،أو النظر بزاوية أخرى غير الزاوية التي ينظرون بها إلى الساحات الواسعة الممتدة لمضمار المرحلة بل المعركة التي يخوضون غمارها فيَهلَكون ويُهلكون .  

كثيرة هي القصص المحزنة التي نسمعها والتي يكثر شيوعها بين صفوف صغار السن المنتشين بخمر الشباب المستغنين بما لديهم من جموح رغبات وقوة عضلات غافلين عن حاجة هذه الرغبة والقوة إلى مركز تحكم وأداة سيطرة تدعمها التجربة وتوجهها المعلومة لتقود سيل القوة والرغبة والعاطفة بحكمة وتؤلف بين إيقاعاته المضطربة فتصوغ منها إيقاعا واحدا ناطقا بالنجاح طافحا بالبهجة واعدا بالسلامة.

إن تيار الخبرة والتجربة سواء على صعيد الفرد أو الجماعة يستمد زخمه وعنفوانه من مجموعة الروافد التي تصب في مجراه والمغذاة من عصارة المعاناة الباهضة الثمن الشريفة الأصول الكريمة الجوهر،وهي بذلك كنز معرفي ثمين يجب المحافظة عليه وتطويره ، ولا يحق لأحد العبث به أو تشويهه،ذلك أن من يعبث بهذا فإنما يعبث بالوعي ويشوه الفكر الذي يشكل الكينونة المعنوية للفرد والجماعة . 

كثيرون من رعاتنا وولاة أمورنا وعلى مستويات مختلفة من مدير صغير إلى مسئول خطير يدمنون تحقير ذلك الميراث ويبخسون تلك الكنوز بدافع السفه والحمق حينا،وبدافع الثقة المفرطة في أنفسهم أحيانا أخرى، فتراهم يهونون خبرة وتجربة سابقيهم،عامدين إلى ذلك البناء الذي تكونت لبناته من سبيكة العرق الأليم والزمن الثمين فيعملون فيه معاولهم من أجل تهيئة مكان لذواتهم وطمس ذوات  سابقيهم والذين كانوا قد فعلوا بهذا البناء مثل ما فعل أسلافهم،ولك أن تدرك ماذا يمكن أن يتبقى من هذا البناء الذي تنهشه الحماقة وتدكه السفاهة وتنسفه الأنانية.

نعم إن الغيب مما اختص الله به نفسه ، والنتيجة النهائية يعلمها مدبر الأمور سبحانه وتعالى،إلا أن من رحمة الله بنا أنه أمدنا بأدوات الإستشعار الحسية والمعنوية ، وجعل تيار الحياة منسابا متسقا، وكنز التجارب متوارثا يرثه جيل عن جيل، وسياق التاريخ منتظم ، حتى أننا نقول أحيانا أن التاريخ يعيد نفسه،وهو ما يؤكد تباث سنن الحياة وانسجام طبيعة الأشياء التي وإن اختلفت ظاهرا فإنها تتفق جوهرا في نسق تسهل قراءة نصه ولا يستعصى على الكثيرين فهم كنهه . و لعله مما يفيدنا كثيرا في إتباث جدوى وأهمية ما نقول ما زخرِ به كتاب الله من قصص وسير تتكرر الإشارة إليها بطريقة تسترعى النظر وتقدح زناد الفكر لتدفعه إلى مزيد التأمل وإطالة الوقوف أمام هذه القصص وذلك لأخذ العبرة والتزود بالخبرة  لولوج أبواب هذه الحياة ومن تم التهيؤ لولوج ذلك الباب العظيم المفضي إلى جنة أو جحيم ..   
 محمد عبد الله الشيباني