الاثنين، أغسطس 29، 2011

رسالة إرفاق



                       رسالة إرفاق قرار تعيين وزير

إلى من يهمه الأمر

الموضوع: مقترح رسالة إرفاق قرار تعيين لوظيفة عامة.

تمثَّلتُ حالة استلام أحدهم قرار تعيينه وزيرا في حكومة ثورة فبراير، وتقمصت شخصيته، وما إن فرغت من قراءة ديباجة القرار، وتأكدت من أنني قد أصبحت وزيرا في حكومة الجمهورية الليبية، حتى زاغ بصري، وثقل رأسي، وبدت الصحيفة التي في يدي على هيئة سجل عملاق بمساحة الوطن، انتصب في وسطه عداد زمني يسجل ويراكم الأيام الطوال، والأحداث الجسام لرحلة الاثنين وأربعين عاما الشداد العجاف، حتى إذا كان مساء يوم منتصف فبراير، تحامل ذلك الركام وصار إعصارا، وأخذ يقذف بأفواج الغاضبين إلى الشوارع والميادين، والتي ما لبثت أن تحولت، وفي لمح البصر، إلى ساحات رماية، أحاط بها سياج من سلاح فتاك، في أيدي جنود عتاة أجلاف، اتخذوا من الرؤوس الهشة، والقلوب والأكباد الرطبة هدفا مشتركا لحمم مدافعهم. وما إن أطلق راعي الرعية أمره بقتل رعيته، حتى انقسم الوطن الواحد إلى معسكرين متحاربين، معسكر يحارب من أجل أن يتحكم فرد، ومعسكر آخر يحارب من أجل أن يتحرر شعب. وما هي إلا لحظات حتى احمرَّ الإسفلت رغم اسوداده، واغبرَّ الأفق رغم صفائه وجلائه، وشقَّ الصراخ والدعاء عنان السماء.

أفقت من إغماءتي لأجد الورقة التي بين يدي، وقد تحول لونها الأبيض إلى لون أحمر قان، ما لبث أن سرى إلى كل أصابعي، وخضب كامل كفي. وإذا برائحة الدم والبارود تملأ المكان، وتتحول تلك الورقة النحيلة الخفيفة إلى جلمود صخر ثقيل بثقل دماء المغدورين، وصرخات المظلومين، وأنات المجروحين، ودموع اليتامى والثكالى الملوعين.


بحثت في الجوار عن بلسم أزيل به عن يدي أثر لهيب الدم، وأسكت به صدى الصرخات والأنات، فما وجدت غير مداد قلمي الذي تحولت قطراته المرتعشة المضطربة إلى كلمات متهالكة متلعثمة، صغت منها على عجل ووجل مقترح رسالة الإرفاق التالية. 

إلى كل من ابتلاه الله فولاه

سلام وبعد

ردَّدنا خلال العقود الأربعة الماضية، وبإفراط، مقولة الوظيفة تكليف وليست تشريف، غير أننا وجدنا أولئك المكلفين قد التصقوا بتلك الوظائف التصاقا حميميا بلغ حدَّ الشذوذ، وما سمعنا أحدا منهم أطلق أنَّة أو آهة أو أبدى تململا أو إعياء من تكاليف الوظيفة وأعبائها، بل وجدناهم كلهم قد هاموا في الوظيفة حتى الجنون!

لا شيء يبرر الهيام حتى الجنون، سوى غرق أمناء ورؤساء ومدراء ذلك العهد في بحار المتعة والسعادة والرضاء، وهو ما أفقد ذلك الشعار صلاحيته ومصداقيته، مما قلب مدلولات ألفاظه، فصارت كلمة التكليف، تعني نيل الحظوة والتشريف، وأصبحت الوظيفة العامة مغنما لا يناله إلا أحمق سفيه سخيف، وإذا النفاق  بعد أن طبع القلوب والنيات، تسرب إلى الألفاظ والكلمات!

تلك أمة قد خلت، وزمن قد ولى. وهو زمن سيطر فيه شخص سفيه، فولى أمور البلاد والعباد أزلامه ومريديه، وجعل سواهم خداما وعبيدا له ولبنيه.

إن الوظيفة التي كان يتكرم بها القذافي على من يركع له ويقبِّل قدمه، لم تكلف القذافي شيئا، وما كان يرجو منها القذافي سوى توطيد حكمه والدعاية له، وهو ما يفسر اقتصاره في إسناد تلك الوظائف على ذلك الصنف من الناس القادرين على تلبية شبقه وشذوذه، والذي يبدأ بتقبيل يد القائد الأسطورة، وينتهي بالذوبان الكامل في كفه المسحورة، ليشكل من المسوخ البشرية ما شاء له أن يشكل من أدوات إمتاع تسليه، ودروع حماية تحافظ على ملكه وتبقيه.

ها قد تغير الحال، وأتى بجديد المثال، وطرح أمامنا للمقارنة والاعتبار قراران؛ قرار يحمل تاريخ ما قبل فبراير، والذي كما قلنا لم يكلف القذافي شيئا، وقرار آخر يحمل تاريخ ما بعد فبراير، والذي كان ثمنه، كما نعلم، عشرات الآلاف من الليبيين ما بين موتى وجرحى وذوي عاهات، وكذا عشرات الآلاف بل مئاتها من أقارب وذوي أولئك الموتى والجرحى وأصحاب العاهات المسكونون بالأحزان والحسرات. وفي أسفل فاتورة المآسي يصدمنا ذلك الرقم المرعب المخيف لتلك الخسائر المادية الجسيمة جدا.

إن مئات آلاف الضحايا المذكورين هم الذين صاغوا بمداد المأساة هذا القرار الذي بين أيديكم، محملين إياكم أمانة ما أحرزوا من نصر على الظلم والظالمين والفساد والفاسدين، ومحذرينكم من أن أي زلل ترتكبونه بموجب قوة هذا القرار، إنما هو خذلان وخيانة لدماء زكية على الأرصفة سالت، واستخفاف بأرواح طاهرة نقية  في ساحة الوغى فاضت، واحتقار لأجسام احترقت وانطمست معالمها وزالت.

إن ضحايانا قد ضحوا من أجل العدل، فلا تظلموا. وضحوا من أجل الإصلاح فلا تفسدوا. وضحوا من أجل الديمقراطية فلا تستبدوا.

اذكروهم كلما حققتم بهذا القرار إنجازا، كان يوما من بعض أحلام الشهداء. وما كان هذا الإنجاز ليتحقق لو لم يتقدم أولئك الشهداء الأبرار، ويجعلوا من دمائهم حجر أساس ذلك الإنجاز، وكذا لما سواه من إنجازات.
اذكروهم كلما قرَّت أعينكم بمشهد من مشاهد ليبيا الجديدة التي طالما تمنى شهداؤنا أن يروها. وما تكرار خروجهم السلمي في أيام انتفاضتهم الأولى إلا محاولة بريئة منهم لتأويل أحلامهم ومناماتهم اللذيذة، والتي سرعان ما تدخل الكابوس وأوَّل كل تلك الأحلام على إيقاع لعلعة الرصاص وغرغرات المحتضرين وأنات المجروحين.

اذكروهم كلما تنسمتم عبير الحرية، وشربتم أنخابها العذبة، تلك الأنخاب التي امتدت إليها أصابع شبابنا الطرية النحيلة، فقذف بها السفاح بين أنياب مقصلته، ولم يسمح لهم ذلك الطاغية حتى بتحسس ملمس أيقونة الحرية، والتلذذ بمجرد النظر إليها عن قرب .

اذكروهم كلما مرَّ ركبكم الباذخ في شارع أو ميدان ارتوى أديمه بدماء الشهداء الأبرار، ذلك الأديم الذي ما لبث، بعدما تشرب بالدم الطاهر، إلا أن اهتز وأخرج شجرة الحرية السامقة التي ننعم الآن بظلالها الوارفة.

اذكروهم كلما قمتم بإعلاء صوتكم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، دون اضطراركم إلى التلفت يمنة أو يسرة مخافة أن يصفعكم دكتاتور، أو يبطش بكم أحد حراسه.

اذكروهم كلما وردتم موارد المعرفة، فلم تجدوا أبوابها موصدة، وقد وقف عليها السفهاء الأغرار، وهم يمارسون وصايتهم على عقولنا، ويستخفّون بتطلعاتنا المشروعة إلى الاغتراف بأيدينا من معين العلم والثقافة، والنهل منه حتى الارتواء. ولمّا لم نطاوعهم  قاموا بقطع كل يد تمتد لكتاب، وبإخراس كل لسان يتهجى ألف باء التعبير الحر.           

اذكروهم كلما جُلتم بأبصاركم في رحاب الوطن، فلم تصدمكم وتفقأ أعينكم صورة وترهات ذلك الطاغوت التي أجبرنا السنين الطوال على وضعها بين أجفاننا والمقل.

اذكروهم كلما أصختم بأسماعكم إلى إيقاعات ما خلق الله من حناجر وأوتار، ووجدتم هذه الإيقاعات قد صفت وخلت من ضجيج أبشع صوت لامس سمع إنسان، صوت القذافي الآثم الكذاب.

إذا ذكرتم كل ذلك، وغيره كثير كثير، فسوف تفكرون ألف مرة قبل أن توقعوا بما يفيد استلام قرار التعيين، والذي هو بحق قرار ينضح آلاما، ويقطر أدماء.  

إذا تجرأتم، وتسلمتم هذا القرار، وقبلتموه، فرجاء احذروه.

وإن وجدتم أنفسكم لا تقدرون عليه، فخير لكم أن تتركوه.

وفقكم الله.

محمد الشيباني


السبت، أغسطس 27، 2011

واضرب لهم مثلا رجلين



إدريس السنوسي
معمر القذافي

اقتسما الاثنان حكم الدولة الليبية الحديثة، وقد آتى الله الملك كلاهما، ثم نزعه منهما نزعا. يؤخذ على الأول قيامه بإبطاء حركة العجلة الديمقراطية للدولة الليبية الوليدة، ولكن الآخر قام بخلع العجلة نفسها من مكانها.

ترددتُ كثيرا قبل أن أتجرأ على وضع هذين الرجلين جنبا إلى جنب، وذلك لما يوجد من فرق شاسع بينهما، ولكن الضد يظهر حسنه الضد.

هذا وقد سهل عليَّ عمل هذه المقارنة قيام ثانيهما، القذافي، بالضغط بقوة وبعنف وباستفزاز كلما خطا خطوة وقطع مرحلة من مراحل مسافة حكمه الطويلة، والتي بلغت أكثر من ضعف مسافة حكم الأول.

مشى القذافي على الأرض مرحا، محاولا، وبكل حمق، خرق ظهرها، متطلعا، وبكل سفه ونزق وطيش إلى الجبال الشاهقة كي يبلغها طولا، ولم يقعده قصوره الفاضح، وسقوطه المخجل المتكرر على تكرار ما يفعل، وبطريقة دفعت كل من سمع ضجيجه المستفز إلى الالتفات نحوه، ومحاولة القيام بمقارنة وقع خطاه المتعثرة، بوقع خطى أشباهه من الحكام الآخرين المتزنين، ولا سيما سلفه؛ الملك الرفيق الشفيق، إدريس رحمه الله.

كنت في بداية مرحلة الشباب عندما جاء القذافي، وانسحب، وبكل هدوء، الملك إدريس، وكذا النظام الملكي كله بقضه وقضيضه، ولم أكن أعلم من ملامح ذلك العهد سوى ما تضمنه المنهج الدراسي من إشارات خجولة إلى الملك ونظامه، أو ما رسمته صورة ذلك الملك المسن الناضحة تواضعا والمكتنزة هيبة ووقارا، والمشعة أبوة ودفئا.

جلس الملك إدريس على كرسي الحكم ولم يزل غبار المعركة والجهاد ضد المستعمر على ثيابه الصوفية المتواضعة، وقَبِل تحمل وزر حكم الدولة الفقيرة في أشد مراحل حياتها صعوبة، والتي بدأت بعملية المخاض العسيرة، ثم مرحلة ولادة الدولة الشاقة، وانتهاء بمرحلة التكوين لدولة لا تملك شيئا. وكلها كانت مراحل مرهقة مضنية لرجل مسن صوفي زاهد، ليس لديه من حب السلطة والتطلع للمجد والزعامة ما يغريه، أو يخفف عنه ما يكابده من مشاق.

القذافي استلم الدولة بعدما اشتد عودها، وتدلت ثمارها وأينعت، وبضربة واحدة طائشة دانت لذلك المضارب النزق بلادا غنية بكاملها، وخرجت له الجموع الغافلة الساذجة والمغرر بها عن بكرة أبيها، دون أن تعرف حتى اسمه، مما أخرجه عن طوره ، بل وربما عن بشريته، ليتطلع إلى مراتب الآلهة المقدسة، وليجعل من تلك الجموع وقودا لرحلته الشاقة في متاهة المتألهين.

نجح القذافي في انقلابه، والذي ورغم انسحاب الملك المخلوع بكل رفق ولين، إلا أن القذافي تعمد استعداء الملك وبطانته وعائلته، وبتاريخ رجعي امتد إلى أجداده الأولين، أصحاب الدعوة السنوسية الإصلاحية الراشدة.

ساعد الفراغ المخيف الذي كانت عليه البيئة الثقافية والسياسية الليبية في عام 69 على تكبير صدى وقع أقدام الملازم البدوي الصعلوك المتشامخ حتى الجنون، بل وأحدث هذا الصدى في عقل القذافي موجات ارتدادية جعلته يزيد في كل مرة من قوة وقع أقدامه المدرعة بالحذاء العسكري الخشن الثقيل ، حتى بلغ به الحال حد الهوس، وذلك عندما اعتقد أنه المنقذ للبشرية كلها.

لم يكن الملك إدريس كذلك، بل لم نكن نسمع له صوتا، رغم علو أصوات أنداده شرقا وغربا، وأحيانا بطريقة مستفزة تبرر له إعلاء صوته والدفاع عن نفسه.

لم يكن إدريس مقتصدا رفيقا وديعا في كلامه وحسب، بل كان رفيقا في أفعاله ومحاسبة خصومه. دليل ذلك صفحه على مجموعة من ضباط الجيش، حاولوا الانقلاب عليه في بداية الستينات.

تعرض القذافي لمحاولات انقلاب شبيهة، ولكن رده لم يكن شبيها على الإطلاق برد الملك إدريس، بل كان رده في منتهى القسوة، حتى أن القذافي لم يكتف بإنزال عقوبة الإعدام الجسدي بهؤلاء الضباط ، بل امتد عقابه حتى طال أهلهم وذويهم، وربما كامل المنطقة التي ينتمون إليها.

اكتشفت أجهزة أمن الملك إدريس، في منتصف الستينات تنظيما سياسيا سريا، فما كان من الملك إلا أن أنزلهم سجونا فندقية، باعتبارهم سجناء رأي، وذلك بعدما حوكموا محاكمة عادلة، قضت عليهم بعقوبة رمزية، ما لبث أن تجاوزها عفو الملك وأسقطها قبل موعد انتهائها.

أما السجن السياسي للقذافي فهو حفرة في قاع الجحيم، يقذف فيها القذافي كل من يحاول تعلم الحروف الهجائية الأولى للسياسة، بل إن بعض من قذفوا في هذه الحفرة، وباعتراف القذافي نفسه، أبرياء، وبحسب كلامه، "جابتهم الدورة"!

أعرف سجينا، قضى أكثر من عشر سنين في سجن أبي سليم سيئ السمعة، وهو لا يعرف حتى اليوم لماذا سجنوه، وحتى سجانوه أنفسهم لم يكونوا يعرفون لماذا سجنوه، مما اضطرهم إلى كتابة العبارة المخزية، "لا شبهة عليه"، على شهادة خروجه من السجن.

تظاهر طلاب مدرسة ثانوية في بنغازي إبان العهد الملكي، وحدث أن أفرط أفراد الشرطة في التعامل معهم، مما أدى إلى موت بعضهم، فقامت الدنيا ولم تقعد، ولم تتكرر هذه الحالة بعد ذلك أبدا.

القذافي أسس لجان موت متخصصة في قتل الطلبة أسماها اللجان الثورية، وخصص يوما في كل عام تقام فيه الطقوس الاحتفالية بشنق الطلاب الشباب، والذين ليس لهم من ذنب سوى أنهم ضبطوا متلبسين بالجرم الشنيع، والإثم الفظيع، وهو قراءة كتاب لا يحب العقيد قراءته، أو ترديد شعار يكره العقيد ترديده. بل إن الكثير من الطلاب الشباب أجبروا وبطرق التعذيب القاسية على سرد ما يدور بأذهانهم من أفكار وخيالات من إرث المراهقة، ليصيغ أعضاء المحكمة الثورية الدائمة السفهاء الأغرار من هذه الخيالات حججا وأدلة دامغة تكفي لتعليق هؤلاء الطلاب على المشانق في جامعاتهم وأمام أهلهم وزملائهم!     

الملك إدريس اشترى المزارع التي استصلحها الطليان، وملكها للمزارعين الليبيين المعدمين من أجل تحسين أوضاعهم، كما دفع التجار والصناع على تنمية أصولهم، وضمن لهم العمل الحلال وشجعهم عليه.

القذافي قصم ظهر كل ليبي أراد أن يزكي أمواله ويربيها، فألغى التجارة، وصادر المصانع، بل وامتدت يده إلى السيولة النقدية في أيدي الناس فسرقها في ليلة واحدة.

 انتهج نظام الحكم الملكي سياسة خارجية ودبلوماسية متزنة رشيدة، وغشى وقار الملك إدريس الليبيين جميعهم، فما من سفارة تمتنع عن منح تأشيرة لليبي أبدا، وليس هناك من دولة وطأها ليبي فأساءت معاملته أو أزعجته، وكانت وثيقة السفر الليبية التي يتصدرها تاج الملك إدريس محل احترام جميع دول العالم.

بلغ بنا الحال بعدما شوه القذافي صورتنا، وعبث بسمعتنا، حد قيامنا بتغليف وثيقة سفرنا ذات اللون الأخضر المميز، بل ونتعمد أحيانا عدم إظهارها إلا عند الضرورة، وذلك لأن هذه الوثيقة حملها القتلة والمجرمون، وجعلوها رمزا من رموز الشر والإرهاب، مما دفع دول العالم كلها على وضع كل من يحمل هذه الوثيقة في محل شبهة الإرهاب المشينة، وذلك حتى تثبت براءته.   

لم يتاجر الملك إدريس بالشعارات، ولم يثبت عنه الدعوة لغير الدين والوطن، ووضع نصب عينيه بناء البلد، وهو بذلك يمكن تشبيهه بالشيخ زايد صانع دولة الإمارات، والذي أعجب بليبيا عندما زارها في العام 1970، ورآها مثلا يحتذى.

كان بإمكان الملك إدريس أن يسحق القذافي وحركته في مهدها، ولكنه ، وحسب شهادة عوض حمزة، أحد أعضاء مجموعة الانقلاب، لم يزد النظام الملكي عن مجرد إحدات تغييرات في أماكن عمل الضباط المشبوهين، وإيفاد بعضهم إلى الخارج في مهام تطويرية، ومن بينهم القذافي نفسه!
كما كان بإمكان الملك المخلوع ظلما، في الأيام الأولى للانقلاب، أن يقاوم التمرد ويخمده، لما كان يتمتع به من تأييد داخلي وخارجي، ولكن الشعور الأبوي للملك منعه من المجازفة المشروعة، تحرجا من إسالة دماء الليبيين.

هل يمكننا، ونحن ننظر إلى هذه الصفحة المشرفة من تاريخ الملك إدريس في تعامله مع المتمردين، وتحرجه من إسالة دماء بني وطنه، أن نتجرأ على عمل مقارنة ما بينه وبين ما قام به القذافي خلال الستة شهور الماضية في رده على حركة شعبية سلمية، لم تزد على قولها له؛ كفاك أربعة عقود من سوء الحكم والجور والظلم والاستبداد.    

كثيرة هي الملامح المتضادة بين هذين الرجلين، معمر وإدريس، حتى أن الناظر إليهما يستغرب توالي عصريها، وتعاقب نظاميهما.

هل يحق لنا أن نطمع، بعد هذا النظام الأسود السيئ جدا، في نظام أبيض مضاد له ويعقبه مباشرة، كما أعقب الضد ضده يوما ما، وليكون نظامنا الجديد مفرط الحسن، رائع الملامح والتقاسيم، وذلك حتى نعوض وبسرعة عن كل ما خسرناه جراء وقوعنا تحت كلكل نظام  في غاية القبح والخبث والفظاعة!

آمل ذلك.  

محمد الشيباني
http://libyanspring.blogspot.com

الأربعاء، أغسطس 24، 2011

أجل؛ فالطغيان جينة وغريزة



سجل التاريخ وبوضوح تام حالة تسلط واستبداد فرد على دولة بكاملها، ولمدة قياسية؛ أربعة عقود وزيادة!

كما سجل التاريخ أيضا، وربما بوضوح أكثر، ظاهرة إقدام فرد على شن حرب طويلة الأمد شديدة العنف والقسوة على كل بني شعبه!

وقد تم تسجيل هذين الحدثين التاريخيين حصريا باسم معمر القذافي.

وقد يكون للقذافي أشباها في التسلط وشن الحرب على بني الوطن، ولكن القذافي بزَّهم جميعا وتغلب عنهم وذلك بقيامه بأكبر عملية تشرنق ومواراة وتمويه لغريزته الاستبدادية العدوانية على مدى سنوات حكمه الطويلة، كما قام عند انفضاح أمره بأكبر عملية خلع وتفكيك لكل ما أقامه حول ذاته وغريزته وجيناته الطاغوتية من دروع حماية وأسيجة تمويه.

التفاف أبناء القذافي وعشيرته حوله في باب العزيزية، العنوان القانوني والحركي لنشاطه، وانطلاق صواريخ السكود من سرت مسقط رأسه والعنوان الجيني له ولزمرته، حدثان يؤكدان وصول مرحلة تخلص الدكتاتور من الدائرة الأخيرة لأسيجة قوقعته التي خبأ فيها جيناته وغرائزه الطاغوتية العقود الطوال.

ربما لأول مرة في التاريخ يتعرى فيها دكتاتور، وبهذه الطريقة الفاضحة،  من أكبر ما غطى ووارى به دكتاتور نفسه.

إن المتابع لحياة القذافي منذ صباه وبواكير شبابه  يدرك أنه، ومنذ ذلك الوقت المبكر جدا، كان يقوم بعملية الغش والتخفي لمكنونات نفسه، وما يخفيه في أعماقها.

حدثني أحد زملاء القذافي في دراسته الثانوية في مصراتة بأن القذافي كان يضفي على نفسه وبشكل مبالغ فيه مسحة الوقار والتدين، وكان يتقدم الصفوف ويؤم المصلين، ويظهر لأقرانه اهتمامه بالقراءة، وغير ذلك مما يشعر بتميز الرجل وعلو مقامه.

مكنته قدرته على التنكر، وما ألحقه بها من تطوير، من الاستحواذ على ثقة بعض زملائه الضباط، وتمكن من الركوب على ظهورهم، كما قال هو بنفسه، والدخول إلى مبنى الإذاعة والسيطرة على الحكم.

تطورت تقنيات العقيد الشاب وحاكم ليبيا الأوحد في بناء ورص جدران قوقعته الطاغوتية، وسخر إمكانيات دولة بكاملها في إقناع الآخرين بأن ما يكتنزه من غرائز وخصائص جينية طاغوتية ما هي إلا فتوحات وإشراقات ربانية لقائد فذ ومفكر إنساني عالمي، جاء ليحل للبشرية جميعها مشكلة نظام الحكم!

إعلان الثورة الثقافية، وإصدار فصول الكتاب الأخضر، وتتويج كل ذلك بإعلان الجماهيرية، كلها مراحل شاقة كلفت ليبيا الكثير، ولكن كل ذلك لا يساوي شيء أمام المكسب الكبير، ونجاح المهمة الخطيرة للدكتاتور التي حاول من خلالها تقديم نفسه على أنه قائد أممي منزه جدا عن أدران حب التسلط التي تعتري كل الحكام الآخرين، ولو كانوا أولئك القادمين عبر صناديق الانتخابات!

أمعن الدكتاتور في الكذب والتمويه والتعمية، حتى بلغ به الحال نسيان ما كان يقوله، وكذا ما كان يصر عليه السنين الطوال من أنه ليس بحاكم ولا ملك، وليظهر علينا فجأة، ويقول متفاخرا متشامخا بأنه ملك الملوك، وليس مجرد ملك!

الذين فضحوا القذافي كثيرون، ولكن آخرهم وأهمهم هم أبناء القذافي، وذلك عندما امتشقوا جميعهم السيوف ودخلوا المعركة إلى جانب أبيهم بدون تردد، وهو ما يمكن اعتباره من أهم ملامح التعري الجيني للقذافي وانكشافه على حقيقته المخيفة التي أتبثها ذلك التواصل الوراثي الكامل بينه وبين أبنائه، والذين كانوا وبحق النسخة طبق الأصل من أبيهم الدكتاتور.

إن أبناء القذافي جميعهم،ربما باستثناء ابنه البكر، محمد، أظهروا ارتباطهم وتواصلهم وراثيا بما هو عليه والدهم، وإن ما ظهر عليه سيف مؤخرا يؤكد التعري الكامل من كل أثواب الوقار السياسي، وحتى أثواب النفاق الاجتماعي، ورأيناه كيف خلع كل أثوابه التي كان يرتديها السنين الطوال، وليتصرف وكأنه زعيم فصيل قطاع طرق نال من خصومه ما كان يريد.

ها نحن، وبفضل الله، نقوم بإسدال الستار على أبشع مرحلة في تاريخنا، والتي ظهر في فصلها الأخير أخطر ما كان يواريه ويتستر عليه القذافي وأبناؤه وأعوانه، ألا وهو نزعتهم وغريزتهم العدوانية، والمتصلة جذورها مباشرة بالتكوين الجيني لهذا لأبيهم وقائدهم ورمزهم.

لابد لنا ونحن نضع حجر الأساس لدولة متحضرة حديثة أن نحذر ونحن نرص هذه الحجارة من خلوها من عدوى فيروس التسلط الخبيث الذي حضنه القذافي وطوره السنين الطوال، ولابد أن الكثيرين من أتباعه ومريديه كانوا في دائرة الإصابة المؤكدة بهذا الفيروس.

قد نجد أنفسنا ملزمين، إزاء تفشي حالة العدوى هذه، ولو مؤقتا، بإنشاء مؤسسة تعني بممارسة الرقابة على كل حجر من حجارة بناء دولتنا، وأن نعمل على أن لا تسمح فلاتر هذه المؤسسة بمرور ذوي العدوى حتى يعاد تأهيلهم، والتأكد من خلوهم من علل وأمراض الحقبة القذافية اللعينة.

أفادتنا شهور المحنة الأخيرة بالتعرف عن قرب على كل ملامح الشخصية الاستكبارية للقذافي وأعوانه، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

1 ــ الارتباط المرضي بالزعيم، والذي تم اختزاله في ذهن الكثيرين على أنه صاحب السيطرة، وأن مجرد ظهور ذلك الزعيم مسيطرا يعني لديهم مشروعية كل ما يعمل، وهو شعور تم تلبيسه من قبل البعض بلباس الدين حتى إنهم اعتقدوا بأن القذافي ولي أمر الجميع، ولو أقدم على قتل الجميع!

2 ــ الارتباط المرضي بالقبيلة والمراهنة على رابطة الدم واعتبارها الوسيلة الوحيدة لإثبات الذات وجني الفوائد والمنافع التي لا يمكن الحصول عليها، وفق رأي هؤلاء، إلا بالتحلق حول الحكام وأصحاب النفوذ وموالاتهم دون النظر إلى شرعيتهم وأحقيتهم في الحكم.

3 ــ النظر إلى الآخر، ممن هو ليس من المنتمين للقبيلة والزمرة الحاكمة وأنصارها، بالدونية، بل ووضعه موضع الخصم، وإلباسه ثوب الخيانة والعداوة.

4 ــ  أدت الحالات المرضية الثلاث المذكورة إلى وقوع صدام مباشر بين أصحاب هذه الحالات وبين المثل الدينية والأخلاقية وكذا الثوابت والمعادلات الفلسفية والعلمية والقانونية، فعمدوا إلى تطويع هذه المثل والثوابت وفصَّلوها على مقاس توجهاتهم ومصالحهم العصبية القبلية الضيقة.

5 ــ  أفرزت الحالات الأربع سالفة الذكر ظاهرة النفاق الاجتماعي والسياسي وربما الديني، وليتحول المجتمع بكامله إلى ساحة حرب يصعب فيها على كل محارب تمييز خصمه، وأصبحت كل أهداف هذه الحرب الخبيثة تقع في مرمى الوطن، وانجلت المعركة على خسارة ماحقة للجميع.       

6 ــ  الغياب الكامل للحكمة على طول مدى الحقبة القذافية اللعينة، إلا أن الحكمة غابت وبشكل مخيف على مدى زمني ابتدأ من خطاب عبد الرحمن شلقم بمجلس الأمن، وانتهى بتصريح محمد القذافي لقناة الجزيرة، وكلا الرجلين، وهما من داخل البلاط، حددا مركز ثقل ذراع الحكمة ومناطها، وهو بالطبع معمر القذافي، رمز السفاهة والتهور.

محمد الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

الخميس، أغسطس 18، 2011

واضرب لهم مثلا رجلين




محمد يوسف المقريف ، وزميله !!!


هما زميلان جمعتهما  كلية واحدة، وربما سنة تخرج واحدة، من كلية الاقتصاد والتجارة بالجامعة الليبية. وبكل تأكيد، كان قد جمعهما، يومَ تخرجهما المشترك، شعور واحد ملؤه الأمل، في لعب دور مهم لبناء بلدهما المستقل حديثا، المملكة الليبية، تلك الدولة الموعودة برفاه اقتصادي، وتطور اجتماعي، تؤكده الاستكشافات النفطية الواعدة، والتي بدأت طلائعها من براميل الذهب الأسود، تتحول إلى عملة صعبة، تتلهف لها البلاد، تلهف الظمآن إلى كوب من الماء الصعب، في يوم صيف صحراوي عصيب.

تجاوب القدر مع تطلعات الشابين الجامعيين، المقريف وزميله، وتساوق الإيقاع المنتظم الحالم لسيمفونية الدولة الناشئة، مع ما تحصلا عليه هذين الشابين من تأهيل عال، مكنهما من اعتلاء مناصب مرموقة، زادت هي الأخرى أملهما تجنحا، وحماسهما تدفقا وانطلاقا.

سوف نصاب بالدهشة، لو كان بإمكاننا أن نقوم بعقد مقارنة بسيطة بين ما كان يدور في خيال هذين الشابين، وهما في اليوم الأول لشغلهما تلك الوظائف الوزارية، قبل حوالي أربعة عقود، وما كان يرسمه لهما الأمل الممكن، من مشاهد تكاد ترى بالعين لبلدهم ليبيا في عام 2011، وبين الحالة المأساوية التي عليها ليبيا الآن، وقد أسلمها عبث العابثين، وفساد الفاسدين، وتسلط المتسلطين الظالمين، إلى هذه الحالة الكارثية التي ساهم فيها الجميع، وها هم الجميع يتقاسمون الثمرة المرة لناتج رحلة الضياع، وراء أمير الضياع، القذافي.

لابد أن يعقب دهشتنا المشروعة هذه، سيل من الأسئلة، يتقدمهم سؤال كبير، هو:

ما مدى مساهمة كل واحد من هذين الرجلين، المقريف وزميله، ونظراؤهما، في كل ما جرى؟

السؤال ثقيل بثقل السنين الأربعين، وهو ثقيل أيضا بثقل جبال الظلم والقهر والتخلف التي صنعتها السلبية واللامبالاة والجبن غير المبرر للكثير من الليبيين الذين ساهم كل واحد منهم في بناء وارتفاع تلك الجبال، والتي في كهوفها  أقام القذافي قلاعه وسجونه.

ومن سخرية الأقدار، أو قل حكمتها، كونت تلك الأثقال والمظالم رافعة عملاقة اتكأت عليها انتفاضة فبراير، وحركت بها الواقع البائس المرير، وتمكنت بواسطتها من تدمير عرش طاغية، جعل من بلد كامل ملهاة، يتلهى به هو وأولاده وأزلامه وتابعوه.

من المعلوم أن المقريف شغل منصب رئيس ديوان المحاسبة في بداية السبعينيات، وهو اختيار يمنح شهادة رشد رفيعة للنظام الذي اختار رجلا بكفاءة وجدارة أستاذ المحاسبة الشاب، صاحب المؤهل العلمي العالمي المعروف. وسوف تترسخ شهادة رشد النظام هذه، بإطلاقه يد هذا المراقب المالي الصارم الذي حمل بيمينه ما عرف عنه من كفاءة له وللجهاز الرقابي الذي يقود، وملأ يده الأخرى بسلطة عليا لا تخضع، عرفا أو قانونا، سوى لسلطة البرلمان.

لم يكن في تلك الفترة سلطة برلمانية، يستمد منها رئيس ديوان المحاسبة قوته، ويرفع إليها تقاريره، بل كانت السلطة، كل السلطة،  مركزة بيد العسكر قادة الانقلاب، أو بالأحرى، بيد العقيد قائد أولئك العسكر.

الأرقام مرآة، بل هي أحدُّ المرايا، وأكثرها جرأة على إظهار ما يعتري وجه الناظر إليها، ولو كان هذا الناظر إليها، ذي مزاج حاد، ويستخدم أحيانا المسدس من أجل إجبار الناظرين إليه، التغزل في عوار عينيه.

غطى العوار العيون، ولا يمكن لشخص في نزاهة وتدين وكفاءة المقريف، وهو يحمل مرآة الأرقام الحادة جدا، أن يسلم من رصاص القذافي الأعور، بل الأعمى، والذي أطلق للتو الرصاص على الدولة كلها، بكل مؤسساتها وقوانينها، وأعلن الثورة الشعبية، التي أرَّخ يوم ولادتها المشئوم، ليوم وفاة الدولة الليبية، أو على الأقل دخولها في غيبوبة طويلة المدى.

لو قُدِّر لنا أن نقرأ ردة فعل من وقفوا أمام مرآة المقريف في ذلك الزمن المبكر، من عسكر وأعوان عسكر، ممن كانوا يقودون الدولة الليبية، وما خطه عبوس وجه الناظرين ذميمي الخلقة على سطحها البراق، وما قذفت به عيونهم من كره وحقد على كل من كان يحمل مثل تلك المرايا الرقابية الفاضحة، لرأينا في ذلك الوقت المبكر جدا ملخصا وافيا لما جرى خلال العقود اللاحقة جميعها، بل ربما تمكنا من رؤية شلال الدم الذي يجري الآن في زاوية من زوايا تلك المرآة.

انطلق الرصاص على المقريف ومرآته، فلم ينحن الرجل لجمع حطام هذه المرآة، ويقوم بتثبيته وترقيعه كيف ما أمكن، وبالطريقة التي تجعل صورة وجه الطاغية البشع، وعيونه النافثة كبرا وخبثا وخيانة وغدرا، صورة وجه ملائكي، ينز براءة، ويسكب طهارة،  ويتألق هيبة وجلالا.

كلا. ثم كلا!

هذا ما نطق به الرجل، وبلغة صريحة، لا تعرف المواربة، ولا تحتمل التأويل.

ببراءة الأطفال، تساءلت آنذاك، ماذا لو لم يجد القذافي من يصنع له مرآة الأرقام التي يريد، ولم يجد خليفة للمقريف، تخالف المقريف. أجل، فالأرقام هي الأرقام، ومراياها هي ذات المرايا التي لا تمت بصلة قربى، أو وشيجة دم لأحد، مهما علا شأنه، وعظم بأسه؟

 جاء الجواب على تساؤلي البريء في منتهى الإحباط، وذلك عندما رأيت زملاء المقريف ممن يشغلون وظائف وزارية عليا، يتقبلون كل ما يتقيؤه القذافي الشاذ من أفكار، بل ويروجون لها، ويتكلفون ويتعسفون في ليِّ ذراع الحقيقة، وتسفيه ما تعلموه من علوم، وكل ذلك لا لشيء إلا لإثبات أن القائد المنظر، يرى ما لا يراه الناظرون.

قال المقريف: كلا، وأوقف عمره كله على هذه الكلمة، ذلك العمر الذي جعله القذافي في بؤرة انتقامه، ووجه له كل أسلحته، وحرَّض عليه مرتزقته، ولكن حامل مرايا الأرقام، المقريف، ظل يمسك بمرآة الحقيقة، ويقذف بشعاعها الثاقب عين الطاغوت وأعوانه، حتى تمكن أخيرا من فقئها.

وها هو المقريف، رغم مكر ملك الملوك، يظهر علينا عبر الشاشات، وضاء المحيا، باسم الثغر، ساحر البيان، يتدفق حيوية، ويشتعل حماسا.

وللتاريخ، فإنني قلت ما قلت في المقريف، استنادا لما يعرفه عوام الناس المهتمين بالشأن الوطني، ولم أعرف المقريف إلا معرفة طالب مغمور في سنته الأولى الجامعية، لأستاذ مرموق، برتبة وزير، ولا شيء غير ذلك.

أعود إلى تساؤلي الطفولي البريء: ماذا لو تكررت لفظة "كلا" التي قالها المقريف، على لسان قافلة التكنوقراط الذين مسح فيهم ذلك الطاغية الشاذ كل أوساخه وقاذوراته، حتى بدوا الآن، وكأنهم من فرط ما ألقاه على وجوههم من أدران، وكأنهم مسخ من البشر.

رجال سبعينيون كثر، قضوا كل عمرهم ركوعا أمام أباطيل وترهات ذكرٍ مثلهم، يعرفون بطلان ما يقول، ولم نسمع أحدا منهم ينبس ببنت شفة، وهو يرى الوطن يقوده إلى الهاوية حاكم شاذ، لم يجد من يقف في وجهه، ويقول له: كلا.


 هي إذن كلمة "كلا" التي تجبرنا دائما بالعودة إليها، عندما نحاول أن نعيد قراءة التاريخ، ونقوم بعقد المقارنات العادلة المفيدة بين رجل قال: كلا، وآخر أخرسه طمعه عن البوح بها.

لو قال كلمة "كلا" الأنيقة الخفيفة هذه، الصف الأول من التكنوقراط الذين استعان بهم القذافي في بداية عهده المشئوم، ثم تبعهم بقولها الصف الثاني، وحتى الثالث، لوفروا علينا بعملهم المجيد هذا، شلال دماء آلاف الشباب الذين ذبحتهم شحنات كلمات "كلا" المتراكمة المنحبسة، والتي أحجم عن قولها في الوقت المناسب أجداد هؤلاء الشباب، من أمثال زميل المقريف، ومن هم مثله، ولكانت ليبيا غير هذه التي نراها.   

لابد أن نقف وقفة إجلال واحترام لكل من وقف في وجه الطاغية، والذين منهم من قضى نحبه شهيدا، ومنهم من أكرمه ربه بمشهد رؤية سقوط هبل ليبيا.

أكاد أهيم حبا بكلمة "كلا" هذه، بل ويدفعني حبي لها إلى المطالبة بتخصيص مادة في دستور ليبيا المقبل، تتضمن التنويه بكلمة "كلا"، وجعل النطق بها حقا مشروعا، بل وواجبا على كل مواطن.




    




    

الاثنين، أغسطس 15، 2011

واضرب لهم مثلا رجلين


:

عبد الرحمن شلقم

و

البغدادي المحمودي


استعمل القذافي الرجلين، كما استعمل الكثيرين غيرهم، وذلك بعدما أخضعهما لاختبارات قاسية، تحصلا بموجبها على لقب سوبر أمين، وهو رتبة من الرتب الرفيعة المعدودة المحدودة. ذلك أن الأمناء، وخاصة السوبر منهم، في فقه سياسة الخيمة، ورغم أنهم يقومون بمهامهم المعروفة كوزراء ومدراء شركات وأجهزة  وهيئات ومثابات وغيرها، إلا أن مهمتهم الأولى هي قيامهم بمهام مجلس أمناء الخيمة، وهو المجلس المسئول مسئولية مباشرة على تأمين بقاء الجماهيرية وقائدها الرمز المقدس،  وإلى الأبد.

وفي سبيل قيام هذه النخبة بهذه المهمة الخطيرة، والمضادة لكل نواميس الكون وقوانينه، يتحتم على كل الأعراف والقوانين السائدة مهما علا قدرها أن تكون طيعة في أيدي رجال هذه النخبة، بحيث يشكلونها وفق ما تقتضيه مهمتهم كأمناء، ولو كانت هذه القوانين تتعلق بأشياء كبيرة الشأن عظيمة المنزلة شديدة الحرمة كحرمة الدم والعرض والمال.

وحتى يقضي رب الخيمة ووثنها، القذافي، على كل ما يعيق مجلس أمناء الخيمة من معوقات، فقد قام بتقدم صفوفهم في مراحل إعدادهم الأولى، وذلك لكسر كل حواجز الخوف والتردد الكامنة في النفس البشرية، واطمأن بنفسه على مدى قدرة هؤلاء الصفوة المختارة على عمل أي شيء مهما عظم خطره واشتد بأسه.

أجل تقدم القذافي سدنة معبده ومريديه الثوريين في ورش العمل وميادين العنف الثوري، والتي تستمد جميعها شرعية ما يرتكب فيها من موبقات من شرعية الثورة لا من سواها، كما حرص وبكل الوسائل على أن يخترق مشاعرهم ويسيطر على عقولهم، بل والذهاب بعيدا حيث الفطرة والجبلة المكنونة في أعماق الذات البشرية والمختوم عليها بشفرة سرية. ويعتبر كشف هذه الشفرة والعبث بها من قبل آخرين، بمثابة هدم آخر حصن من حصون النفس المسئولة المكلفة، والسيطرة على مقود إرادتها.

ولابد لإتمام مهمة خطيرة كمهمة انتهاك حرمة النفس واقتياد إرادتها والسيطرة عليها، عمد القذافي إلى استخدام وسائل التلبيس الإبليسية المعروفة، حيث دأب على تلبيس بوائقه، تارة بكونه أسطورة ثورية أنجبها رحم عالم الخوارق والمعجزات، وتارة أخرى باعتباره رسول تحرير البشرية وهاديها إلى الطريق الثالث والأخير في رحلتها الطويلة، وتارة ثالثة باعتباره مفكرا وحكيما يندر أن يجود الزمان بمثله، وغير ذلك من تلبيسات طاغوتية معروفة.

باستثناء بعض الانشقاقات القديمة في مجلس الانقلاب، لم يتعرض رب الخيمة، القذافي، إلى أية منغصات من شأنها أن تذهب نشوته الإبليسية التي يمنحها له كأس إغواء الناس والسيطرة على إرادتهم، ولدرجة جعلهم يرون الأسود أبيض، والظلم عدل، والقتل قربان، واستعباد الناس تخليصا لهم، وغير ذلك من المتناقضات العجيبة الغريبة التي لا يقع فيها إلا من وقع في براثن شيطان الجماهيرية العظمى وتلبيساته!     

قضى شلقم الكثير من وقت التأهيل، وخاض ما يكفي من الاختبارات، وتأكد لدى القذافي خلو شلقم من جميع الخلايا الحية الرشيدة المشاكسة، والتي قد تنتفض وبشكل مفاجئ، استجابة لمؤثر غير محسوب، وهو مؤثر يقوم وبمجرد حدوثه بانتشال صاحبه، وبطريقة درامية، من براثن المشعوذ ودهاليزه المظلمة القمئة، ويقذف به بعيدا جدا حيث ألق الحقيقة المجلي للبصر والبصيرة، والمنعش للعقل والذاكرة، والمطهر للذات والبدن.

وبهاتين الأداتين الفعالتين؛ أداة الإقتداء بالقائد الأسطورة في ورش وساحات العمل الثوري، وأداة تلبيسات القائد الشيطانية المتقنة في إغواء النفوس والعبث بشفرة مكنوناتها، تم تنفيذ أكبر عملية خطف واغتصاب لكائنات آدمية عاقلة سوية، وتحويلها إلى كائئات أخرى "بشرإبليسية" روبوتية، يتم التحكم فيها من غرفة التحكم  الرئيسية المخبوءة في زاوية بعيدة من دماغ الدكتاتور الشيطان.

ولأن الله صاحب الملك يغار على ملكه، ولا يتركه نهبا لكل من هب ودب، ولأن الإمهال المقدر للقذافي بلغ نهايته، أرسل الله رياح التغيير ذات الشحنتين؛ شحنة ساحقة ماحقة لقطع رؤوس الشياطين وأعوانهم، وشحنة أخرى منجية عاتقة، تأخذ برفق بيد الضحايا وتنتشلهم من براثن المسخ والاستعباد، وتضعهم على عروش المجد والتحرر والانعتاق.

ولعل من بعض أسباب وإرهاصات نجاة وتحرر شلقم من قيود الخيمة وأحابيل وثنها، هو مكوثه مدة لا بأس بها بعيدا عن الخيمة ومجال سيطرتها، وفي مكان  توفرت فيه شحنة كافية من ضوء بصر وبصيرة، أفلحت في إنعاش قلب وعين عضو مجلس أمناء الخيمة، شلقم.

كل ذلك كان يحدث في كف الغيب وحجبه لتهيئة المكان والزمان لذلك الحدث الأعجوبة، والذي تم في سويعاته القليلة نقض ودك حصون طاغية كرس عمره لتلافي حدث مثل هذا الحدث الكبير الشهير: فضيحة الطاغية على رؤوس الأشهاد.

وشهد شاهد من أهلها، لا بل صرخ فاضح من أهلها، حيث بؤرة إبصار وسمع أهل الأرض جميعهم، وظل يشرح على طاولة مجلس الأمن الدولي، وباستخدام مشرط الباب السابع الذي مزق حده القانوني الحاد جدا جثة الطاغية المفضوح وهشم عظامه وبعثر نخاعه، تماما كما يفعل هو بصدور مواطنيه العزل وبجماجمهم، فالجزاء من جنس العمل عدل وأي عدل.

تابع العالم كله ما حدث من أشياء عجيبة إبان وقوع المناطق المنتفضة من ليبيا بين فكي التمساح الجائع، القذافي، وكيف عزفت أصابع القدر بإبداع خارق على أوتار الأحداث، فأسمعت العالم أجمع لحنا إلهيا لأبدع سيمفونية إنقاذ إلهي لشعب يريد أن يحكم نفسه بنفسه، واجتثاث إلهي أيضا لحاكم متسلط يريد أن يحكم هذا الشعب أو يقتله.

كل ما يهمنا من هذا المشهد، ونحن نضرب مثلا لرجل من رجال هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها بلادنا، هو يقظة ضمير هذا الرجل، عبد الرحمن، وانتداب القدر له، ولنائبه الأستاذ ابراهيم الدباشي، وكذا السفير علي الأوجلي، وذلك من اجل القيام بأكبر عملية استنقاذ من نوعها عرفها العالم.

أما المشهد الثاني والذي بطله، البغدادي المحمودي، وكثيرون غيره، فهو يعبر عن الناتج الآخر لظاهرة مسخ واستلاب الذات، ولدرجة تظهر فيها هذه الذات المتميزة الحرة المنفردة، وكأنها يد إضافية لماسخ هذه الذات ومستلبها.

يوجه المشعوذ القذافي أمرا إلى البغدادي المنسحق الذات  مفاده قتل زميله شلقم، والذي بينهما كما قال البغدادي ماء وملح، ثم لا يتوانى أو يتريث الأخير إزاء هذا الأمر الجلل والخطيئة الكبرى، القتل، فيصدر أوامره بالتنفيذ، بل ويلح ويصر على ذلك.

ليس أمرا غريبا أن يخطئ الإنسان، ولكن الغرابة كل الغرابة أن يصبح الخطأ ديدن الإنسان ومنهجه. كما أنه ليس عجيبا أن يستعمل إنسان إنسانا، ولكن العجب كل العجب أن يتحول إنسان ما بكل كتلته المادية والمعنوية إلى مجرد سكين في يد ظالم قاتل.

شلقم والبغدادي كانا يأكلان على قصعة واحدة، وبينهما ماء وملح، ثم فجأة تنفجر هذه القصعة ويتحول، ماؤها وملحها إلى بحر هادر يدفع بشلقم بعيدا جدا عن زميله البغدادي، وربما إلى الأبد، وخاصة إذا قرر قابيل البغدادي المضي قدما في تهديده بقتل أخيه هابيل شلقم الطيب الوديع، الفنان على رأي سيف!

أجزم بأن قوابيل ليبيا جميعهم، هم ضحايا وساوس إبليس ليبيا، القذافي، والذي يقوم هذه الأيام يرصف طريق خروجه، هو وعائلته، بجماجم كل قابيل وهابيل، فكلهم عند القذافي سواء.   

 

الجمعة، أغسطس 12، 2011

واضرب لهم مثلا رجلين


واضرب لهم مثلا رجلين!
جبريل النبيل، وشاكير ال ..........!

لست سعيدا بذكر الأسماء، وإنما أذكرهم مضطرا. كما أنني لا أعني الأسماء، عند ذكرها، لذاتها، وإنما أعني مواقف الأشخاص حملة هذه الأسماء، ومن تم تحليل هذه المواقف، من أجل الوصول إلى أسباب تباينها إلى درجة التضاد، وأثر هذا التباين والتضاد فيما تمر به بلادنا من أحداث جسام لها ما بعدها.

تلعب البيئة بمكانها وزمانها ومناخها الفكري وهواءها السياسي ونسيجها الاجتماعي دورا مهما في تكوين الناس، ويفترض منطقيا تساوي نتائج تأثير البيئة الواحدة على الأشخاص الذين تحتضنهم هذه البيئة، ولكن حدث العكس، وأنتجت البيئة الواحدة رجالا مختلفين بل متضادين، ولذا وجب ضرب المثل بهم.

لا أعرف الرجلين، جبريل وشاكير، معرفة شخصية، ولا أعرف شيئا عنهما من شأنه أن يسهل علي مهمتي هذه، وذلك باستثناء معلومات عامة من هنا وهناك، لا تفي بمتطلبات جعل كل واحد منهما مثلا يضرب.

سهل علي شاكير المهمة، باحتلاله مبنى الإذاعة، هذه الأيام، والإقامة فيه هو وعائلته، حتى أن طفلته الصغيرة شاركته ليلة أول أمس إحدى مساجالاته الإعلامية. وبظهور شاكير اليومي المترف، وكشفه الفاضح لكل ما تحوي خزائنه، سهل عليَّ الأمر حقا، وجعل بنفسه من نفسه مضربا للمثل!

يشارك شاكير مشاركة ثقيلة في الحرب الإعلامية، الموازية لحرب الميدان، التي يشنها القذافي على شعبه، ودليل ذلك تعمد، شاكير، الظهور كما لو أنه شريك رئيسي في الغزوة الجماهيرية الأولى التي خاضها القذافي منذ أكثر من أربعة عقود، وشريكا مؤسسا في الجماهيرية الثانية، والتي ستولد، وفق تحليلات شاكير وتنبؤاته، بعد انتصار القائد الأب في الحرب الدائرة، وتولي القيادة من بعده ابنه وولي عهده.

بهذه المشاركة الإعلامية السخية، منحني شاكير فرصة النظر إليه عن قرب، وتفحص بعض ملامحه، واستخلاص ما من شأنه أن يساعدني على تقدير حجمه وأبعاده، وكمية المادة المرئية وغير المرئية من شخصيته، وحجم الإرث الملتصق به من مراحل عمره المختلفة، ووزنه المعنوي النسبي تجاه ما مر به من أحداث، وما أحاطت به من مؤثرات، وغير ذلك.

ولأن المساحة ضيقة، ولأنني لست من المختصين حتى أتمكن من بسط كل ما أشرت إليه، لذلك سوف أقتصر على أول مرحلة في سيرة شاكير، وأول خطوة خطاها. سأذهب إلى هناك حيث الساعة التي قرر فيها شاكير دراسة العلوم السياسية، بعد حصوله على الشهادة الثانوية العامة قبل أربعين عاما من سقوطه المدوي الذي نراه.

في بداية السبعينات، وفي بلد حديث عهد بالسياسة وعلومها وفنونها وتطبيقاتها، يندر من يفكر أن يدرس العلوم السياسية، وربما أصبحت هذه الندرة صفرا لطالب مثل يوسف شاكير المنحدر من أسرة فقيرة، كما اعترف هو بنفسه، وهي حالة تجبر شاكير، المتحصل لتوه على الثانوية العامة، التماس أقصر طريق يؤمن له الخروج من فقره، وما من طريق أمامه أقرب وأقصر من توجهه إلى كلية تطبيقية ككلية التجارة مثلا القريبة من محل سكنه، والتي تتمتع بسمعة جيدة في ضمان خريجيها لفرص عمل مرضية.

إن اختيار شاكير الطريق الأطول، واختياره دراسة العلوم السياسية في مصر بعيدا عن أهله، كان، حسب تقديري، بدافع نزعة  الظهور المغروسة في نفسه، والتي ستجد في كلية العلوم السياسية ما يطفئ ظمأها، ويحقق لشاكير الخطوة الأولى نحو التألق السياسي الذي يراوده.

لو كانت بلد شاكير دولة ديمقراطية، لوجد شاكير، عاشق السياسة، نفسه ضمن حزب من الأحزاب المتنافسة على حكم البلاد، أو لحضنه برلمانها. ولكن مغتصب السلطة، القذافي، أغلق أمامه وأمام غيره فرصة المشاركة في حكم بلدهم، مما سبب للكثيرين منهم كبتا تراكمت طبقاته، فأورثت في أنفس بعضهم غلا على النظام كله، فعارضوه وناهضوه. كما أورثت في أنفس آخرين انسحاقا، مسخ ذاتهم، حتى دفعهم ذلك إلى شراء المجد السياسي المزيف بأغلى ما لديهم؛ كرامتهم.

انسحق شاكير نفسيا بما تعرض له من حرمان سياسي طويل الأمد، غطى أو كاد عمره كله، وليس أمامه إزاء هذا الانسحاق إلا اقتحام الخطر من أجل تحقق الوطر. وإني لأعذره في ذلك!

في غاية الانسحاق، أشبع شاكير الوطر، وكابد الخطر، واقتحم خيمة الدكتاتور الأشر، وهو اقتحام قيل فيه كلام كثير، من بينه دخول شاكير على أربع، إلى تلك الخيمة، الخبر الذي كذبته أول ما سمعته، ولكن تدخل شاكير وإتيانه بالدليل الحي على قدرة انسحاقه في سبيل ظهوره، أجبرني على تصديق كل غريب وعجيب قيل عنه.

أجل انسحق شاكير، حتى جعل من شيبته، ووقار شيخوخته، موضع بصقات ملايين الناظرين إليه، وهو يخوض حربا مهينة في صف دكتاتور يطلب من شعبه أن يركع له ، أو يقتله.

محمود جبريل هو الآخر من طبقة شاكير الاجتماعية، ويشابهه كثيرا في مدخلات هذه المقارنة، ولكنه، ويا للعجب خصيمه وضده في مخرجاتها.

وفق رواية شاكير، فإن الرجلين، جبريل وشاكير،  ترافقا وربما تشابها حتى بلوغهما أشدهما، وبلغا أربعين عاما. وهناك تفارقا، ولا زالا متفارقين.

لماذا؟

درس جبريل السياسة ولكنه لم يمرض بها ويعاني منها ما عاناه شاكير. بمعنى أنه لم يقع في حبها، ويهيم بها، حتى يرى من خلالها الشمطاء حسناء.

نجح محمود جبريل في حياته المهنية نجاحا فتح عليه ما استغلق من أبواب السياسة رغم صدإ مفاصلها، ولكنه أبى أن يدخل راكعا، أو متسللا من خلال بابها الموارب.

ومرة أخرى أعود إلى شاكير، وشهادته بنفسه، على أن السياسة، التي يعشقها شاكير، تبرجت أمام جبريل، وراودته عن نفسه، فاستعصم!

أجل إن جبريل لم يلتقط الطعم. لماذا؟

وهنا تزيح عن كاهلي عبء الإجابة عن هذا السؤال، ثورة 17 فبراير.

قبِل محمود جبريل سياسة  17 فبراير ذات الشوكة والثمرة المرة، ورفض الأخرى غير ذات الشوكة، رغم تبرجها ومراودتها له. ما من سبب يجبر جبريل على رفض جائزة القذافي والتربع في خيمته، سوى كرامته.

يبدو أننا وصلنا إلى حيث نريد، ووصلنا إلى حل اللغز وعقدة هذا التحليل، والتي بانفكاكها ينفك لنا ما استغلق من ألغاز المشهد السياسي الليبي كله، والذي من أهم ملامحه  تسمر عدد محدود من الرموز عديمي الكرامة دون أن يتحركوا من أمكنتهم العقود الطوال.

الساحة السياسية الليبية قبل17 فبراير عبارة عن حظيرة في الفناء الخلفي للخيمة. ولم يسمح بدخول أحد إلى تلك الحظيرة إلا من خلال باب الخيمة المنخفض السقف حتى الخضوع والركوع، والموارب الضيق المدخل حتى مسخ وانسحاق من أراد ولوجه، وهو ما لم يفعله جبريل، وذلك لأنه نبيل، وفعله ولكنه متأخر جدا شاكير، لأنه ............... 

محمد الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com