الثلاثاء، سبتمبر 25، 2012


أخطأ في الاختيار، فلا تخطئوا مثله

أيٌّ من كتائب الثوار، فرادى أو مجتمعين، أقوى من كتائب معمر الدفين؟

الجواب: لا أحد.

أعتذر عن خشونة عنوان المقال، وكذا على استهلاله بالسؤال.

أما الخشونة فمبررها ما تعج به بلادنا من عنف ورعونة.

وأما الاستهلال بالسؤال، فدافعي إليه هو اختصار طريق الجدال، واستعجال ما للحوار المختصر المفيد من خلاصة ومآل.

خُيِّر القذافي صاحب الكتائب الكثيرة الخطيرة بين الديمقراطية والحرب الأهلية؛ فهزأ من الديمقراطية، واختار الثانية؛ فكانت له القاضية.

أصحاب الكتائب القزمية الطرية هم أيضا الآن مخيرون بين دولة ديمقراطية مدفوع ثمنها دما وكاش بالتساوي وبالتضامن من جميع الليبيين، وبين إمارات كرتونية ولدت وتورمت بليل، لم يدفع في أسهم رأسمالها سوى أسهم فخرية لا تحمل أي قيمة سوى توقيعة انتهازي متربص مكار، قام بتعويم سعر السهم المصكوك بعملة حرية الوطن الغالية، والمغطى بثمين الدماء الطاهرة الزكية، وجعله مقوما بحطام الدنيا من سلطة زائلة ومال نافد.

راهن القذافي على الكتلة الصامتة الرخوة، ودأب على تحريكها بين أصابعه صانعا منها ملاهيه الكثيرة. ولما بالغ في اطمئنانه إلى لعبته السمجة، تحولت تلك الكتلة اللينة إلى أصابع من ديناميت، قطعت للزعيم الزنيم أصابعه في بنغازي الشرقية، وذلك قبل أن تأتي على ذراعيه ورأسه في نواحي ليبيا الغربية.

ولأن الكتلة الشعبية الصامتة ما عادت صامتة بعد أن اجتازت أصعب وأشق امتحان، فلم تمنح للمقلدين الدكتاتوريين الصغار ما منحته لكبيرهم الدكتاتور الكبير من وقت طويل وصبر جميل.

في بنغازي حطم ديناصور الكتلة الصامتة، سابقا، ما صنعه الهواة من صروح اتخذت من باب العزيزية أمثلة لها.

وفي بنغازي لم يُخير أشباه الدكتاتور وورثته بين الديمقراطية والحرب الأهلية، بل تم تخييرهم بين الديمقراطية، أو الهزيمة الحالّة الآنية.     

كتلة بنغازي، وكتل طرابلس، وكتل فزان، اتخذت جميعها الحجم الحرج حجما دائما لها، كما جعلت من مجس تحسس رائحة الدكتاتورية وممارسة الوصاية عليها فتيل انفجارها،  ومنحت فلول الدكتاتوريين الأوصياء الذين نجوا من ملحمة بنغازي فرصة ذهبية للنجاة بأنفسهم واللواذ وبالسرعة القصوى بالحمى الديمقراطي الواسع المنيف.

إن إقدام الليبيين على دفع الضريبة الباهظة من أجل إزالة الدكتاتورية ونجاحهم في ذلك، من شأنه أن يمنحهم الحق الكامل في الرد على هؤلاء الأوصياء بالحجة الدامغة التي تجرهم جرا إلى حلبة الديمقراطية والاحتكام إلى قوانينها الفذة، تلك الديمقراطية التي تجرم تطاول القلة وتمنع تسلطها، تحت أي مسمى كان، على حق الكثرة وتزوير إرادتها.


محمد عبد الله الشيباني


الاثنين، سبتمبر 24، 2012


حَول، تطرف، تكلف، ظلم. تُرى هل أفرح كل ذلك النبي؟!

أول ما يرتكبه المتظاهرون العفويون المنفلتون من أخطاء، مهما كانت عدالة قضيتهم، هو تعديهم على حق الآخرين في الطريق وتعطيلها وإشاعة الخوف فيها. أما ثاني أخطاء هؤلاء، وهو الأشنع، فهو محاصرتهم واستباحتهم لمكان يتمتع بحرمة مقدسة مستمدة من حرمة وأعراض وأموال ودماء ساكنيه.

الطريق والمأوى هما الملاذ الوحيد للأحياء ساكني الدنيا، والعبث بأي منهما إنما هو عبث بالحياة كلها.

الذين تظاهروا بسبب فيلم "براءة المسلمين"، ورغم أنهم، يرفعون راية الدين الذي يعظم حرمة الطريق والمأوى وأموال وأعراض وأرواح من فيهما، ويأمر بالرفق في كل شيء، إلا أن أيا من مظاهر الدين لم تكن بادية على هؤلاء المتظاهرين، سوى ما شمروه من ثياب، أو ما أرسلوه من شعر.


قناة تليفزيونية اسمها "الحياة"، تمارس فعالياتها بصوت جهوري صادح، وصورة واضحة صارخة، وعلى مدي اليوم، ليله ونهاره، متخذة من تقنيات الإعلام المتطورة سلاحا لها، ومن علوم اللغة والنفس والتاريخ أدوات تشكيك وهدم لعقيدة المسلم.

الحول الذي في عيون متظاهري الشوارع الهوج، حال بينهم وبين رؤية فيل قناة الحياة الذي يحاول أن يهدم بمعاوله العقيدة الإسلامية من قواعدها، بينما ضخم الحول نفسه برغوث الفيلم الواهي جدا فأحاله دينصور.

ركب هؤلاء الحمقى دينصور من حمق وجهل وتكلف وتطرف، فأغلقوا به الطرق وأرعبوا مرتاديها، ثم قصدوا مساكن ذات حرمة فهدموها على ساكنيها، واستباحوا أموالهم وأعراضهم ودمائهم دونما جرم ارتكبوه، بل ربما لم يكونوا على علم بما لأجله حرقوا وقتلوا. إنهم حقا مستأمنون غافلون قتِلوا بغير ذنب!

المتظاهرون المنفلتون قلة، ولكنهم يتكلمون باسمنا، نحن الكثرة الكاثرة، ويتصرفون نيابة عنا، نحن جماهير الشعب الصامتة، فينهبون باسمنا، ويقتحمون البيوت باسمنا، ويسفكون الدماء المعصومة باسمنا، ويوقعون على صكوك إدانة أخلاقية تلبسنا جرما مشهودا، وسندات خسارة باهظة ماحقة تلقي على كواهلنا دينا ثقيلا ممدودا.

إن إقدام الليبيين على دفع الضريبة الباهظة من أجل إزالة الدكتاتورية ونجاحهم في ذلك، من شأنه أن يمنحهم الحق الكامل في الرد على هؤلاء الأوصياء بالحجة الدامغة التي تجرهم جرا إلى حلبة الديمقراطية والاحتكام إلى قوانينها الفذة، تلك الديمقراطية التي تجرم تطاول القلة وتمنع تسلطها، تحت أي مسمى كان، على حق الكثرة وتزوير إرادتها.

إن ظروف بلدنا ليبيا الحالية الحرجة جدا وحاجتها الماسة للهدوء والأمان والتماس العون من كل جهة، تحتم على كل أبنائها تقدير هذه الظروف والتعامل بحصافة وذكاء مع ما تعج به الساحة من متناقضات ومتباينات، لا تزيدها العين الحولاء والذراع الهوجاء والفكرة الحمقاء إلا تناقضا، ولا نجني من ذلك إلا ضررا وتخلفا وضياعا.

اهدءوا أيها المتظاهرون المنفلتون، وخذوا نفسا عميقا يزود دماغكم بما يحتاج إليه من أكسجين الحياة التي يجب أن نعيشها بذكاء، ونتعامل مع تناقضاتها بهدوء ورشد ودهاء، ونحارب خصمنا بسلاحه الناعم الذكي المؤثر الذي يحاربنا به صباح مساء.

إن الكلمة والمعلومة سواء المتربعة في وسط كتاب أو جريدة أو مجلة، أو تلك الممتطية ظهر العنكبوت والمسافرة على جناح الأثير، لهي السلاح الأكثر ذكاء والأكبر تطورا والأقوى حجة والأقل تكاليف. إنها حقا الأجدى.

الناس كلهم خلق الله؛ مؤمنهم وكافرهم، والأديان والرسل كلهم من عند الله، وليس من العدل أن يكون تنافسنا في ذلك تنافسا نقتسم به غنيمة، يقتل بعضنا بعضا على الفوز بشطرها الأكبر. وإنما التنافس يجب أن يكون في دعوة الناس إلى دين الله وجمعهم في حظيرة الدين الحق الذي تزداد قوته في الأرض بزيادة المؤمنين به إيمانا عن قناعة موردها الوحيد الحكمة والموعظة الحسنة، ووشاحها الرفق والمعروف.

حرق المتظاهرون المنفلتون حتى الموت سفير دولة كبرى نحن بحاجة لها، وحطمت معاولهم الغبية صرح ثقة الناس بنا واطمئنانهم إلى نظامنا الديمقراطي الوليد، وهو صرح صنع شهداؤنا لبناته بغالي دمائهم ونفيس أرواحهم، وليس من حق أحد أيا كانت حجته أن يعبث بهذا الصرح، ويفرض علينا وصايته، ويرهن حياتنا ومستقبلنا لحَوله وحمقه وتكلفه وجهله.

قالوا فعلنا كل ذلك من أجل النبي.
ولكن النبي من كل ذلك بريء.



محمد عبد الله الشيباني



السبت، سبتمبر 15، 2012


إنهم يوقعون باسمنا، ثم يختمون بخاتم الرب، حقا إنه العجب!

أشد ما كان يغضبني ويؤلمني من تصرفات دكتاتور ليبيا السابق وعصابته هو إدمانهم ممارسة الوصاية الإجبارية على جموع الشعب الليبي والتوقيع باسمهم والتصرف نيابة عنهم كما لو أن هؤلاء الأوصياء وكلاء شرعيون ونواب موكلون بملء الإرادة وكل الرضا.

رفع القذافي شعار الشعب سيد الجميع، ولكن الجميع الذين كان يعنيهم القذافي ليس من ضمنهم بالطبع لا هو ولا أبناءه ولا باقي عصابته.

ورغم أن القذافي مارس أبشع أنواع الوصاية على الشعب الليبي إلا أنه لم يتجرأ على إلباس وصايته ثوب القدسية الإلهية كما يفعل بعض ورثة الحكم الدكتاتوري المتسلط هذه الأيام، والذين قاموا بتطوير هذا الإرث بطريقة تمنع تكرار الثورة عليه؛ إذ كيف يثور الناس على حكم الإله ونصوصه المقدسة التي لا يوجد من نسخها سوى نسخة واحدة كانت من نصيب هؤلاء الورثة المحظوظين.

إنه الكبر والعجز والكسل والتعجل الذي صبغ جميع أعمالنا.

ألم يكن من الممكن تأجيل إصلاح الباطل بعض الوقت يقوم خلاله دعاة الإصلاح باستيفاء شروط مهمتهم وتنفيذ كافة متطلباتها القانونية والاجتماعية وحتى النفسية؟

بلى، ولكنه الحمق الشبيه جدا بحمق القذافي عندما كان يحلم ليلا ثم يقوم صباحا بتنفيذ أضغاث أحلامه على الشعب الضعيف المغلوب على أمره.

إن حمل السلاح وحشد المتحمسين والتغرير بهم من أجل القيام بعمل مهما بلغت شرعيته من شأنه أن يفرغ هذا العمل من شرعيته.

إن تجاهل الدولة القائمة والقيام بعمل من ورائها مهما بلغت شرعيته وفائدته من شأنه هو الآخر أن ينزع كل شرعية عن هذا العمل.

كان من نتائج أعمال رعناء كهذه هدم بيت من بيوت الله تقام فيه كل الصلوات بحجة وجود قبر عتيق متهالك في إحدى زواياه.

وكان من نتائج أعمال كهذه أيضا مقتل أبرياء ذوي ذمة وعهود وذلك بحجة نشر فيديو تافه لا علاقة لهم به، بل ربما لا يعلمون عنه شيئا.

يُهدم المسجد، ويُقتل الأبرياء، وتتشوه سمعة البلد، وتتعطل مصالح الناس، والمتهم الوحيد عن كل هذه الأعمال هو دائما ممارسة الوصاية غير المشروعة من قبل فئة مستقوية تقوم  بالتوقيع نيابة عنا وتوريطنا فيما ليس لنا به علم ولا يجلب لنا نفعا.

ليس هناك من تفسير لكل التصرفات المذكورة سوى ازدراء الليبيين جميعهم وتهوين أمر حكومتهم الديمقراطية الوليدة.

وإذا صح هذا التفسير فليس أمامنا إلا الاعتراف وبمرارة بالغة بأن دم الشهداء حقا قد ذهب هباء!


محمد عبد الله الشيباني

الجمعة، سبتمبر 14، 2012



 قرأت فعرفت فاندهشت  

كلما علمت جديدا أو أدركت خافيا من خفايا نفسي، أو فيما حولي من أشياء التي أعلم بعض ظاهرها وأجهل كل باطنها، تملكني شعور أوله دهشة، ووسطه رضا وافتخار، أما آخره فيضعني في حالة يمكن تسميتها بحالة الخدر الذهني، حيث تختلط لدي مشاعر الدهشة والذهول وعدم القدرة على استيعاب ومتابعة تيار خفايا وأسرار بواطن تلك الأشياء، والتي تمدد لنا سطحها الظاهري فتعلقنا به وسرنا فوقه حقبا وآمادا طوالا قبل أن يأذن الله لأناملنا الطرية الذكية باختراق قشرة هذا الغشاء ونزع أول الأغلفة المتراصة تحته والتي لا يمكن لأحد أن يلمَّ بعددها أو يلامس عمقها، سواء هناك حيث عالم الفيمتو ثانية والنانو متر الذي تتضاءل فيه الأشياء حتى تغيب عن وعينا تصاغرا ودقة، أو هنالك حيث عالم الجزر المجرية والحقب الضوئية الذي تتعاظم فيه الأشياء حجما وحركة حتى تخترق سقف خيالنا وتتجاوزه، بل إنها تغيب في عالم اللانهاية .

عجيبُ العالم المجهري أنه رغم ضيقه ودقيق أحجام كائناته إلا أنه يشابه عالم  الأفلاك في آفاقه ومتاهاته، وفائق سرعة الأجسام الهائمة في فضائه، ذلك الفضاء الغامض الذي كثيرا ما ألجأنا ونحن نحاول شرح ظاهرة من ظواهره أو تفسير سلوك بعض ساكنيه ، إلى استخدام الإفتراض والتقدير في انتظار أن يأتي اليقين .

 أما عجيبُ عالم الأفلاك فإنه رغم اتساعه المذهل إلا أن كائناته تتمدد وتتعاظم  ولدرجة ضاق بها هذا العالم الأسطوري  حتى ألجأها هذا الضيق لأن تبحث لنفسها عن عالم أوسع عجز عقلنا حتى عن مجرد تسميته فأطلقنا عليه اسما زاد في تلغيزه ، وذلك عندما أسميناه عالم اللانهاية، وهي تسمية تشي بقصورنا حتى عن مجرد منح هذا العالم  اسما محددا له.     

أجل وكأننا بعد هذا المجهود الشاق الذي بذلناه وفائق تقنية ما نستخدمه من أدوات في ارتياد عالم الضآلة وعالم الضخامة على السواء، لا نجد بدا من الإعتراف بأن الطريق الذي نتعجل الوصول إلى نهايته يتمدد أمامنا كلما زادت سرعة خطانا عليه وإلحاحنا في طلب نهايته !

أمارس من حين لآخر هواية الترحال بخيالي عبر فضاء الوجود المطلق المثير، محاولا إطفاء حرَّ فضولي ولو بافتراضي ملامسة أبعد نقطة كان قد لمسها أصبع مكتشف في فضاء جسمي الشاسع الممتد، وكذلك أبعد نقطة في فضاء الكون اللامتناهي تسلل منها شعاع واه فقنصه مسبار.

مارست هذه الهواية أكثر من مرة  واستطعت أن أرى  ولو من بعيد جدا  أقزام العالم النانومتري البالغة الصغر والمتخذة من جزء المليار من المتر قصورا باذخة لها في ذلك العالم السحري المحير، كما استطعت أن  أرى في الطرف الآخر من الوجود عمالقة العالم الفلكي الأسطوري هائمة في فراغ لا نهاية له ولا قرار، متخذة من مدى ما يقطعه الضوء في ملايين ومليارات السنوات الضوئية أمكنة ودروبا لها.

 وعلى الرغم مما أتاحته لنا طفرة المعرفة التي أعذرت كل متذرع بجهل، إلا أنني كلما حاولت أن أستبرأ من جهلي بقرينة حب المعرفة واللهاث ورائها، متطفلا لا محترفا، أراني ازددت جرما جراء زيادة أدلة جهالتي، والتي تزداد التصاقا بي بازدياد معرفتي .

كنت للتو قد فرغت من قراءة موضوع بملحق مجلة العربي العلمي  2  /  2009والمعنون بعنوان " الماء، السائل الذي لا نعرفه " حيث أورد كاتب المقال ما توصل إليه أخيرا مركز بحثي أمريكي عندما قام برصد حركة الماء الذي نشربه وهو يتخلل نسيج أجسامنا مؤديا لعمليات حيوية وذلك بالإشتراك مع جزئيات حيوية أخرى مثل البروتين.

شبَّه التقرير حركة وشكل جزيء البروتين لحظة ارتباطه مع جزيئ الماء بحركة وشكل راقص الباليه  حيث ينتني جزيئ البروتين مكتسبا شكلا مميزا يكون أساسيا لقيامه بوظائفه الحيوية والتي لا يمكن له أن يقوم بها إلا عند اتخاذه ذلك الشكل الملتوي ووفق رقصة دأب على ممارستها في كل مرة صافح فيها جزيئ الماء ذاك منذ أن تقاسما الإثنان أداء هذا الدور الأزلي المولد، الأبدي البقاء  .

أثارني هذا التقرير الراصد لرقصة واحدة من الرقصات المقامة على خشبة المسارح الحيوية في غيابات أجسامنا دون انقطاع، وأراني من خلال كوة ضيقة ذلك المشهد البديع الرهيب من عديد المشاهد اللامتناهية التي يزدحم بها جسدي، متخذا وسيلة ايضاح له جرعة من ماء مهين دأبت على عبِّه وحقنه داخل جوفي السنين الطوال، ولم يخطر ببالي البتة أن هناك في تلك الأماكن الضيقة والظلمات الحالكة مسارح باليه ومهرجانات رقص يلعب فيها هذا الماء دور البطولة  مع مواد حيوية كثيرة مرتبطا بها تارة ومنفصلا أخرى وفي إيقاع منتظم ورقصة خالدة لا تقوم للحياة قائمة إلا عليها  .

 وللأمانة، ما كنت أعرف قبلا عن الماء سوى أنه سائل رقراق أتناوله عبر فمي لأطفئ به عطشي وليأخد طريقه بعد ذلك عبر مسارب وطرق ومحطات كثيرة في جسدي سمعت عنها الكثير ولم ألمس منها أو أرى إلا ما كان قد ظهر وانبرى  .

 وما ان تمكنت وبعد جهد ليس باليسير من استيعاب هذه القصة الأسطورية، والتي لولا شاهد العلم عليها ما كانت لتجد على وجه الأرض من يسمعها فضلا عن أن يقبلها أو يعقلها ، حتى فاجئني التقرير بما هو أجل وأعظم، ذلك أن حفلة الرقص تلك قد تم تصوير مشاهدها بواسطة آلة تعتمد استخدام نبضات فائقة القصر من أشعة الليزر لرصد عملية الإرتباط تلك بين جزيئ الماء والبروتين وفي مدى زمني قدره "بيكوثانية" والتي تعني جزء من تريليون من الثانية ! أي أننا إذا أردنا أن ننجز هذه المهمة فما علينا إلا أن نمسك بالثانية الواحدة الخاطفة السرعة الدقيقة القوام ونقسمها ألف ألف ألف ألف شظية ثم نمسك ببضع شظيات منها كانت قد احتوت المشهد وأحكمت عليه قبضتها، متخذة من أصابع تلك الكاميرا الخارقة  أصابع لها .

ولك أن تتصور تلك الأجواء المحمومة لتلك المعارك التي  تدور رحاها داخل أجسامنا على مدى العمر من ارتباط وانفصال واتصال واختزال، والتي تتخذ من الذرات المتناهية الصغر جنودا وأعتدة لها ، ومن الكهارب مراكب تمتطيها ، ومن شظايا الثواني المنسحقة مدى وشوطا زمنيا ينظم سيرها .

ترى ماذا يكون حالي لو انتقلت في رحلتي هذه ، وبسرعة ، إلى نافذة أخرى لأرى منها زاوية من زوايا الكون السحيق، والتي تتحول فيها البيكو ثانية إلى سنة ضوئية ، ويتحول فيه النسيج الحيوي المجهري إلى جزيرة مجرية، وتتحول فيه رقصة الباليه إلى حركة حلزونية لعناقيد ممتدة من المجرات العملاقة تطوف في فضاء لم نتمكن حتى الآن إلا من رؤية شظية صغيرة منه . ليس لي إن حدث ذلك إلا أن أعيد كتابة عنوان هذا المقال .. ليصبح قرأت فعرفت فاندهشت  لأضيف عليه .. وبالله آمنت .

قد يقول بعض من تبعني على مضض في رحلة طويلة كهذه : ما جدوى أن نذهب بعيدا ونحن  هنا في القريب جدا نصارع العلل والأمراض بكل أنواعها وأصنافها ، ونكابد المشاق للخروج من براثن التخلف والضياع ؟
سؤال وجيه ويحتمل عديد الإجابات ، إلا أنه لا تحضرني إلا إجابة واحدة عنه، وهي  أنني عندما أقوم بتلك الرحلة الإفتراضية الرخيصة التكاليف أعود بكنز عظيم يقضي عني ديونا كثيرة وبلسم قويم يداوي لدي عللا خطيرة . ألا وهو عرفاني بحجمي وحجم الكائنات الآدمية والأرضية الصغيرة القريبة مني ، فتزداد المساحة بيني وبين الآخرين، ويحد التوتر في داخلي وما حولي، ويتمدد هامش العذر، وحيز البراءة ، وينكشف غشاء الغفلة .. ويدب في نفسي شعور صادق لا ريب فيه بأن للكون إله تتصاغر أمامه كل الآلهة  المصطنعة والتي تشكل السبب الأكبر لكل علة نعانيها وكل مصيبة نكابدها .

محمد عبد الله الشيباني