السبت، يناير 26، 2013



تعداد الأخطاء لمجرد التعداد فحسب، دونما اتخاذها مجسا لتقدير وتحديد وتحسس ما يحيق بنا من أخطار، هو مجرد رياضة ذهنية عبثية، وربما لون من الفضول المستهجن الساذج لتصيد أخطاء الآخر وتسجيل الأهداف في مرماه والتصفيق لخسارته تفكها أو شماتة. وهذه العادة عند تفاقمها تصبح مرضا نفسيا يعبر عن انهزام ذات صاحبه الذي يتخذ من عادة تخطئة الآخرين سلوانا له وتنفيسا لعقده.

إعلاء الصوت بالنقد الهادف البناء هو عمل ديمقراطي هادف حرمنا منه طيلة حقبة الاستبداد المقيتة، وحُق لنا وقد دفعنا ثمن تذكرة دخول النادي الديمقراطي المكلفة أن نمارس البوح الممنوع  سابقا المشروع حاليا.

بيد أن انهماكنا في تسجيل أخطاء من اخترناهم ديمقراطيا وخولناهم تسيير دفة الدولة ولدرجة باتت تربك هؤلاء المسئولين وتمنعهم من أداء المهام الجسام والمشاكل العظام الموكلة إليهم لهو أمر يبعدنا عن الهدف الذي نروم.

ويزيد الطين بلة أن جبال الأخطاء المزعوم اصطيادها وما يصاحب ذلك من جلبة وغبار مثار من شأنه أن يضاعف من غشاوة عيوننا فتبدو لها الأشياء على غير حقيقتها، ويزيد من قصور عقولنا فتعجز عن إدراك الخطأ الجسيم، وربما عميت عن الخطر المدلهم العظيم.

حديث الكثير من الناس، وخاصة الشباب منهم، وهم ينتقدون أداء الحكومة أو المؤتمر الوطني أو غيرهم من أجهزة الدولة خلال الفترة الحرجة من عمر الثورة يتركز معظمه بعيدا عن الثورة واستحقاقاتها ومستهدفاتها وغاياتها.

نعم ليس للثورة التي صنعناها على عجل أية أجندة سوى ما كنا نحمله من عزيز الأمنيات لحياة طاهرة من أرجاس الدكتاتورية وحكم الفرد المتسلط الظالم الذي أفلحنا في إسقاط رأسه، ولكننا لم نفلح حتى الآن في إزالة أقل القليل من وسخه وخبثه ورجسه.

كتل أدران النظام السابق الكبيرة على مستوى الجهاز التنفيذي والرقابي لا تزال متكدسة في تروس عجلات القاطرة؛ فلا وزير استقر في مكتبه كما ينبغي له أن يستقر، وقد أمسك بزمام الأمور ودانت له مقاليد السلطة التي يواجه بها المسئولية، ولا جهاز رقابي تربع في المدى الموكول إليه وأحكم قبضته على مجريات الأمور فيه.

بقدر ما سرني أن يحيل رئيس المؤتمر الوطني ملف مصروفات الحكومة السابقة للتدقيق من قبل ديوان المحاسبة بسبب ما قيل عن شبهة السفه والتبذير والإسراف فيه، فقد ساءني تأخر هذا التدقيق لما بعد الصرف وتحقق التلف!

أفلح رئيس المؤتمر في تسجيل الخطأ، ولكن الدولة كلها فشلت في تحسس خطر السفه والإسراف والتبذير وربما الفساد قبل وقوعه والنجاة من كلاليبه!

ذلك كله على مستوى رأس هرم الدولة، أما ظاهرة الإسراف في تسجيل الأخطاء والتعامي عن تحسس الأخطار الجسيمة فهي مستشرية كثيرا في قاعدة الهرم.

في المدى المكاني الذي يحيط بمحل سكناي في ناحية من نواحي العاصمة طرابلس لا تزال أدران حقبة القذافي تملأ كل زاوية؛ فلا  شيء مما كنا نسعى إليه تحقق، بدءا من إصلاح الطرق التي نسلك، مرورا بتطوير مرافق الحياة الأخرى من مدارس ومستشفيات وحتى شبكات الصرف الصحي وقنوات المياه، ولكن ورغم كل تلك العيوب الصارخة الصادمة، فإنك ما تكاد تقترب من اثنين أو أكثر إلا وتجدهم يتلون صحائف اتهام طويلة ممتدة تطال كل مسئول، بدءا من رئيس المؤتمر الوطني وحتى عضو المجلس المحلي بالمنطقة. والحالة ذاتها تراها بوضوح أكثر، وبشكل أقذر في فضاء البوح الإلكتروني الواسع المنفلت.

المؤسف أن طاقة الثورة والتغيير لدينا اتخذت المسار الخطأ، وهو احتراف تسجيل أخطاء الآخر، وذلك لسهولة ارتياد هذا المسار وتحقيق الأهداف الرخيصة فيه، مما نأى بنا بعيدا عن مسار الثورة الصحيح، وهو التغيير الحقيقي لواقع الحال المزري والتحسس الواعي للأخطار التي تتهددنا من كل مكان.

أهم ما ينشأ عن شيوع هذه العادة السيئة واستفحالها هو تضاؤل مستوى الثقة بين فئات المجتمع وتخاذل أفراده ومن تم انهزامهم.

كما تعتبر هذه العادة المرضية أحد أهم أسباب إبطاء تشكل النخبة الراشدة الفاعلة التي تحرك المجتمع نحو أهدافه، ذلك أن ممارسة تخطئة شخوص ورموز القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة إنما هو دك لصرح مؤسسات المجتمع وتسريع لتدهورها وسقوطها بدلا عن دعمها وتقويتها.
          
محمد عبد الله الشيباني

السبت، يناير 12، 2013

البرلمان الاجتماعي


                            البرلمان الاجتماعي                       
إلى السيدين: رئيس المؤتمر الوطني، ورئيس الحكومة المحترمين.

الموضوع: مقترح بتأسيس "البرلمان الاجتماعي"، رديف البرلمان السياسي.

بساطتي وأميتي الفكرية والسياسية ، وربما تفاؤلي  المفرط، جنحوا بي ، كما جنحوا بالكثيرين أمثالي، وجعلتنا ونحن في ذروة تجرع مرارة جنون الدكتاتور المجروح وردة فعله الهوجاء على مطالبة الشعب له بالتنحي، ننتشي بنغم الديمقراطية الشجي، ونتنفس عبقها من وراء أدخنة البارود المتفجر، رغم ما في هذه الأدخنة من كريه رائحة، وما صاحبها من مرعب صوت.

وفي هذه الأجواء الاستثنائية ولد، وعلى عجل، المجلس الوطني الانتقالي، فما كان له إلا أن يتهجى ألفباء دروس الديمقراطية الغريبة عن ديارنا وأسماعنا وأفهامنا.

ألف هذه الأبجدية هو إعلان تحرر الشعب من غاصبي حريته وكسر قيود استعباده، أما ياؤها فهو انطلاق قاطرة الديمقراطية بما تحمل من برلمان تتجسد فيه إرادة الشعب، وحكومة شرعية ذات سلطة تساوي مسئوليتها، ورئيس منتخب.

أجل فليس أمام المجلس الانتقالي الطري العود إلا أن يصدر إعلانا دستوريا يختزل فيه أبجدية الديمقراطية من ألفها حتى يائها؛ بدءا من الدستور، حتى المجلس التأسيسي، إلى مجلس البرلمان،  وانتهاء بانتخاب رئيس البلاد!

وبانتخاب المؤتمر الوطني، وتشكيل ما أطلق عليه أول حكومة ديمقراطية، تجاوزنا شكلا، وحفظنا تلقينا كل أحرف أبجدية الديمقراطية، وربما استوعبنا بنجاح الدرس التشبيهي لكيفية التحليق الديمقراطي الأول.

في قيادة السيارة وكذلك الطيارة لا يمكن لمن نجح في الامتحان التشبيهي الأول أن يعهد إليه بسياقة حافلة تحمل خمسين شخصا، أو أن يحلق بطائرة تحمل مئات الأشخاص.

بعد زوال قشرة السكرة واستيضاح عمق الفكرة، فوجئنا بأن كل ما فعلناه خلال العام المدمي الأول ولاحقه العام المضني الثاني، قد ترك في النفس بعض الحسرة، وبأنه لا يعدو عن كونه مجرد درس ديمقراطي تشبيهي، وتأكدنا بأنه ليس لدينا من مؤهلات الالتحاق بالنادي الديمقراطي الحديث سوى الأمنيات وحار الدعوات.

كطول هذه المقدمة المزعجة المملة، بل وأطول بكثير، هي المسافة بيننا وبين ما حسبناه نصرا ديمقراطيا حققناه، وإنجازا سياسيا حضاريا أنجزناه. ذلك أن الورقة الانتخابية التي أذهلنا بريقها لا تعني شهادة الكفاءة السياسية للمواطن الذي يحملها، كما أن عدد الأصوات التي أحرزها أعضاء المؤتمر الوطني لا تساوي بالضبط أعداد أثقال وحدات الإرادة لأصحاب هذه الأصوات، وهو أمر يقود مباشرة إلى نتيجة مؤلمة مفادها بأن أعضاء المؤتمر المنتخبين ديمقراطيا لا تسكن أجسامهم الضخمة المتثاقلة روح الديمقراطية، والتي بخلو أي جسم منها فإنه يتحول إلى مجرد دمية عرض بلاستيكية لا تساوي قيمتها معشار قيمة ما تحمل من ثياب.

إن برلمان يقتحمه مسلحون في وضح النهار ويهينون من فيه ويرهبونهم حتى يلتمس هؤلاء النواب المحترمون مخارج جانبية للنجاة بأنفسهم من بطش الذين اقتحموا قاعة البرلمان ومجلس ممثلي الشعب؛ إن برلمان كهذا ما هو إلا منتج ديمقراطي مغشوش فاقد لكل المواصفات المعيارية التي عليها نظيره المنتج الديمقراطي السليم الصحيح.

بيد أن نتيجة امتحان سنة أولى ديمقراطية المفزعة رغم إيلامها الشديد، ليست بأشد إيلاما ولا أكثر وجعا من نتيجة سنة اثنين وأربعين دكتاتورية، كما أن المؤتمر الوطني رغم عيوبه الجسيمة هو أفضل ألف مرة من مؤتمر الشعب العام الذي كان يمارس فيه الدكتاتور لهوه وعبثه  المقززين.

أعلم أن هذه التعزية لن تسلينا، ولا تخلصنا مما نحن فيه من كوابيس اللعبة الديمقراطية الخطيرة، وهي لعبة تتضاعف خطورتها بعدد الأهداف التي يستقبلها مرماها، والتي عند بلوغها الحجم الحرج سوف تتحطم فجأة عوارض المرمى، ويسقط سقف البرلمان على من فيه، لتسقط بعد ذلك البلد كلها لا سمح الله.

اللعبة الديمقراطية الخطيرة انطلقت، ولا يمكن إيقافها، إذ أن إيقافها يعني الانسحاب وإخلاء الميدان للمتربصين الكثيرين بها.

من قراءة التقرير الأخير لحالة جسمنا الديمقراطي المعتل، يمكننا إدراك سبب اعتلال هذا الجسم، ذلك الاعتلال الذي ليس له من سبب سوى ما عليه المؤتمر الوطني، والحكومة من ضعف وهوان إرادة.

وما دام بناؤنا الاجتماعي في صيغته القبلية مما يعول عليه في جمع الصفوف وتجميع القوى وتوجيهها، ألا يكون من المجدي رفد المجلس الوطني المنتخب بمجلس يتشكل أعضاؤه من رؤساء القبائل ووجوهها، ويمكن أن يطلق على هذا المجلس اسم "البرلمان الاجتماعي" تمييزا له عن البرلمان السياسي القائم.

أهل القبيلة أدرى بمن فيها، وأعلم بأحوالهم، وأقدر على توجيههم وإصلاح من فسد منهم، وتعزيز من صلح منهم وتأييده. كما أن تجزئة المشكلة الكبيرة التي يتعامل معها المؤتمر الوطني الحالي، أو البرلمان مستقبلا، أو الحكومة، وجعلها على هيئة مشكلات صغيرة بحجم كل قبيلة من شأنه أن يسهل التعامل مع هذه المشكلة ويسارع في حلها.

أحد أهم أعراض مرض جسمنا السياسي الحالي هو عدم توفر مركب هرمون الثقة في مفاصل هذا الجسم وعضلاته، وهو مركب يعمل عمل المايسترو لتوجيه الوظائف الكثيرة الخطيرة لجسم الدولة الضخم المترهل.

هرمون الثقة هذا سوف يتوفر وبكثرة عندما يجمع القبيلة ورئيسها لقاء محلي قبلي حميمي، تطرح فيه القبيلة كل مشاكلها، ويقوم فيه رئيسها بوضع الحقيقة كاملة أمام أعضاء هذه القبيلة الذين ليس لهم سوى القبول والإذعان.

قرارات المؤتمر الوطني والحكومة تكون أكثر قبولا لدى عموم الناس وأيسر للتنفيذ عند قيام أعضاء البرلمان الاجتماعي كل في المجال القبلي القادم منه بالعمل على تهيئة الناس لها ومنع عنصر المفاجأة من تأثيره السلبي، لا سيما إذا كانت هذه القرارات بها ما لا يروق.

أعضاء البرلمان الاجتماعي القادمون من الإجماع التقليدي التراثي العفوي للقبيلة، وبما يحملون من ثقة أعضاء قبيلتهم، هم الأقدر تعبيرا عن ذات القبيلة ووجدانياتها. وهو حال من شأنه أن يكمل النقص الذي يكتنف عضو المؤتمر أو البرلمان السياسي، والذي تأتي به، كما هو معروف، عمليات الحساب الجامدة لنتائج صناديق الانتخاب.

رب قائل يقول إن هذا البرلمان الاجتماعي الذي تتكلم عنه إن هو إلا نسخة من مؤتمر الشعب العام الذي كان يتكون بآلية التصعيد المتخلفة، وتقذف بأعضائه حمى الصراع القبلي البغيض.

وأقول: إن الفارق بين هذا وذاك جوهري، وذلك بسبب الاختلاف الشاسع بين البيئة الدكتاتورية التي صنعت مؤتمر الشعب العام السابق وحضنته، والبيئة الديمقراطية الحالية. ومن ناحية أخرى فإن البرلمان الاجتماعي المقترح هو حل ملح ومؤقت لمشكلة ضعف إرادة المؤتمر الحالي، ورديف للبرلمان السياسي الذي تشترطه قوانين ومعايير المضمار الديمقراطي، وذلك ريثما يقف برلماننا الديمقراطي الوليد على رجليه ويشتد عوده.

إن تشكيل هذا البرلمان الاجتماعي لن يأخذ كثير وقت، ولن يكلف باهظ أموال، إذ يكفي توجيه الدعوة لكل شيخ قبيلة من قبائل ليبيا، وتحميلهم جميعا مسئولية أمانة ومسئولية المشاركة في دفع قاطرة الديمقراطية، والتي لن تنطلق إلا بعد سيطرة الشيوخ على الصبيان، وغلق الحكماء أفواه السفهاء.

حسنة هذه الفكرة في كونها تبقي على المسار الديمقراطي وفق الخطة الموضوعة، والتي، وبسبب الحالة الطارئة المعروفة التي نعيشها، لا يمكن تنفيذها بدون وضع كبراء القبائل وشيوخها أمام مسئولياتهم تجاه قبائلهم وساكنيها.

الله الموفق.

 محمد عبد الله الشيباني


الجمعة، يناير 11، 2013

يا كبار "الثوار" وعقلاءهم: كفوا عنا صغاركم وسفهاءكم!


يا كبار "الثوار" وعقلاءهم: كفوا عنا صغاركم وسفهاءكم!

أجد لنفسي ألف عذر وعذر في كرهي واشمئزازي من كلمة ثورة ومشتقاتها، وذلك لأنني حُقنت مكرها بهذه الكلمة الخشنة على مدى عمر ثورة الفاتح "أبدا" وجماهيريتها العظمى التي عمَّرت أزيد من أربعة عقود.

فقط الذين قضوا سني شبابهم وكهولتهم وشيخوختهم مجبرين على معايشة نظام حكم ادعى الثورة وأدمنها، واتخذ من العبث المفرط في كل شيء طريقة تفكير ومنهج حياة ونظام حكم؛ هؤلاء فقط هم من يسهل عليَّ إقناعهم بموقفي من كلمة ثورة.

على رأس كل جبل من الجبال الكثيرة للعبث المفرط التي تشكلت منها جماهيريتنا العظمى السابقة تنتصب كلمة ثورة بما تمتلئ به هذه الكلمة وتفيض من صنوف غلظة وجفاء وخشونة وعربدة، و"عوج"، وهو الأهم!

كانت كلمة ثورة، وها هي عادت، تبرر القتل والسجن والتعذيب وسرقة الأموال وهدرها، وكل ما هو مناف لدين ومجاف لخلق.

عندما كنا طلابا، وبعد التحاقنا بوظائفنا، وحتى في الحي الذي نقيم فيه، كان مجرد علمنا بشخص من زملائنا أو جيراننا أن له من كلمة ثورة نصيب، يصيبنا ذلك بحالة من الخوف والاضطراب، وتوقع كل سوء من جانب هذا الشخص، ويصير ذلك الشخص كابوس ليلنا ونهارنا.

من سوء حظ كلمة ثورة في عالمنا العربي أن معظم أجنتها تشكلت في معسكرات الجيش ودهاليز مقار المخابرات، وضمت غرف البيان الأول في الإذاعات مسقط رأسها، ثم  ترعرعت بين أيدي وتحت وصاية مراكز القوة من جنرالات وثورجيين، وغيرهم.

في ردة فعلنا الأولى على نجاح انتفاضتنا على النظام  السابق وجد الكثير من الذين تذوقوا بعمق ومرارة كلمة ثورة غضاضة وحرجا كبيرين، وهم يستعيرون مكرهين هذه الكلمة، والتي لم يترك فيها النظام السابق موقع إصبع من ذكريات سعيدة وأفعال مجيدة يمكن استعارتها وبسطها على ما أطلقنا عليه مجبرين اسم ثورة.

يبدو أن النحس لم يشأ مغادرة كلمة ثورة الليبية هذه، وذلك حتى بعد مرورها بأعقد عمليات التطهير والتعقيم من أدرانها الأولى التي عرفناها بها، وكذا تغير الأوضاع السياسية بواقع 180 درجة عما كانت عليه.

ما من أحد منا ساءه أو أزعجه مظهر وسحنة ثوارنا الأوائل الذين شاءت الأقدار أن تكون أول معرفتهم بالثورة ضد الظلم  والاستبداد والفساد لا في قاعات المناظرة ومؤتمرات الحوار المتحضر البناء، بل في جبهات القتال والبارود والدم، وما فرضته هذه البيئة الخشنة على ملامح وكلام وأفعال الثائرين من غلظة وشدة وجفاء، ومن ملازمتهم طقوس الحرب والتزي بزيها وترديد أهازيجها.

بيد أن إصرار بعض المتشعبطين بقطار الثورة على جعل البلاد، التي نستعجل تحولها إلى دبي شمال أفريقيا وربما أفضل، إلى بلاد تصبح على كلمة ثورة وتمسي عليها، وتنام على الانفجارات وتصبح على غلق الطرقات وحمل الجنازات، فهو أمر لا يمت بأي صلة ولا تربطه أي وشيجة بما كنا نتمناه ونحلم به، وتمناه وحلم به ومات عليه الثوار الحقيقيون الشهداء الشرفاء.

إن الحوادث الكثيرة المؤسفة التي باتت ملازمة لنا؛ من خطف، وسرقة بالإكراه، واقتحامات، وغلق للطرقات، وغير ذلك كثير، إنما تتم كلها من قبل شباب وأحيانا صبيان يحملون السلاح ويركبون سيارات كتائب الثوار ويعلقون شعاراتهم، بل إن مجموعة منهم استعارت مؤخرا دبابة من كتيبة بالجوار وسدت بها الطريق، وذلك من أجل التعبير" الثوري الديمقراطي" على حادثة ما!

وحتى مع الأخذ في الاعتبار وجود بعض الكتائب التي تأسست ضرارا، وتعمل بعيدا عن الغالبية الصالحة من الكتائب، إلا أن ذلك يعاظم ولا يقلل من مسئولية كتائب الثوار المعروفة، والتي ينتسب إليها السواد الأعظم من الشباب الحاملين للسلاح الأن، والذين لهم ملفات إدارية تثبت تبعيتهم لكتيبتهم، وكذا وجود ملف مالي يتقاضى به منتسبو هذه الكتائب أجرا شهريا منتظما معلوما.

إن القلة من المحسوبين على الثوار الذين يتاجرون بالمخدرات ويسرقون ويغلقون الطرقات ويخرقون القانون، وهم يرتدون بزة كتائب الثوار ويركبون السيارات الحاملة لشعارات هذه الكتائب، إن هم إلا أجسام طفيلية فتاكة تعبث بكيان الثورة والثوار الحقيقيين وتشوه سمعتهم.

نحن نعذر الحكومة ونقدر ظرفها، وذلك لأنها غير مسئولة على شيء لا تقدر عليه، ولكن الكتائب المعروفة التي تملك السلاح وتملك الرجال الذين ربما يكون بعضهم من طائفة حاميها حراميها، هم من نحملهم المسئولية الكاملة على ما يجري من قبل سفهاء "الثوار" وأشرارها.

على كل كتيبة معروفة أن تقوم بتحديد مكان عملها ومجال سيطرتها، وكذا تحديد ما لديها من قوة بشرية لاستخدامها في تأدية دورها في بسط الأمن وتنظيم وتيسير حياة المواطنين، وتتحمل المسئولية عن كل مظهر غير مسئول يقوم به من يدعون الانتساب للثورة.

ما دام هذا الوضع الاستثنائي للحكومة قائما، وما دام ما يعرف بكتائب الثوار هم المتواجدون في الشارع، فإن الواجب يحتم على هذه الكتائب قيامها بتنظيم نفسها وتطهير كوادرها من كل شخص منافق يوجد في صفوفها، ثم وبالتنسيق مع وزارة الداخلية ترسم هذه الكتيبة لنشاطها مربعا أمنيا تنشر قوتها عليه زمنيا ومكانيا.

لا بأس من أن تقوم كل كتيبة بتطعيم أذرعها الرادعة بأصابع اجتماعية من كبار وشيوخ المنطقة المتواجدة بها هذه الكتيبة، وذلك لما لهؤلاء من دور في إطفاء الكثير من حرائق الشارع قبل الاضطرار إلى إطفاء النار بالنار.

وحتما ستؤدي هذه الإجراءات إلى ردات فعل متباينة من جانب المحسوبين على الثوار، إلا أن هذه الإجراءات ستعمل على تقليل قوة العناصر المنحرفة، إما بخضوعها للشرع والقانون وانضوائها تحت مظلة الدولة، وهو الذي نريد، أو بتشتتها وتشرذمها وتلاشيها.

 محمد عبد الله الشيباني

الأربعاء، يناير 09، 2013

إلى الرئيس المحاسب المقريف: هذا هو ظني بك!


إلى الرئيس المحاسب المقريف: هذا هو ظني بك!

13 مليار. 8 مليار. 5 مليار، ليس ملاليم أو قروش، وإنما هي دنانير!!!!!!!

هذه الأرقام الفلكية لا تخص محطات تحلية، أو مصانع بترو كيميائية، أو مدن سكنية، أو سلسلة مدن سياحية على مدى شاطئنا الطويل!

كلا إنها تتعلق بتجهيزات إدارية ومستلزمات رخوة تخص دواوين الحكومة، كما أن هذه المبالغ الكبيرة جدا ليست عن عشر سنين، بل هي لمجرد مدة أقل من ذلك بكثير.

إن مجرد قيام المقريف المحاسب الماهر بوصف هذا العمل بالسفه، وإحالة هذا الملف إلى ديوان المحاسبة، يشير بوضوح إلى وجود عيوب جسيمة بهذا الإجراء، ويدفعني إلى الوثوق بوجود شبهة الفساد المالي والإداري؛ صنو الفساد السياسي ورافده الأهم.

هذه هي الجراحة التصحيحية الأولى الناجحة في جسمنا الحكومي الموبوء، وعليها سيتوقف نجاح عمليات وطرق العلاج الضرورية اللاحقة.

إن السفه الذي عناه المقريف، والذي اكتنف هذه التكاليف المتعلقة بالباب الثاني في الميزانية، يبدأ من تقدير هذه التكاليف بالرقم 13 مليار دينار، ثم تسييل 8 مليار دينار، وأخيرا حرق 5 مليار دينار في مقابل أصول هشة، ولتنبعث من هذا الحريق رائحة التناقض المنطقي الصارخ مع رائحة الإسراف والتبذير المقززة النفاذة.

إن السفه والإسراف والتبذير في جهة ما من جهات الدولة، لابد وأن يقابله تقتير وشح وعدم عدالة في أوجه إنفاق ضرورية أخرى. كما أن شيوع مثل هذا السلوك في دواوين الدولة المقتدى بها، يبرر للجهات الإدارية الأدنى السلوك نفسه ويشرعن لها ذلك.

ليت مساوئ انعدام الضبط المالي والإداري تقف عند مجرد تضخم رقم التكاليف الحكومية، إذن لهان الأمر، ولكن شيوع السفه والإسراف والتبذير المالي والفساد الإداري يعمل في المدى الطويل على تردي منظومة الأخلاق في المجتمع بأكمله، وهو ما عانينا منه كثيرا فيما سبق.

نعول كثيرا على الدكتور المقريف، وهو المحاسب والثائر التاريخي على ظاهرة السفه والإسراف والتبذير التي صبغت حقبة الاستبداد السابقة، حتى أن موقفه من هذا العمل المنكر دفع به إلى طلاق النظام السابق، وإعلان الحرب عليه قبل عقود مضت.

وبغض النظر عن نتيجة التحقيق في هذا الملف المشبوه، إلا أن إعلاء الصوت تحت قبة البرلمان بإعلان الحرب على الفساد، ووضع ديوان المحاسبة أمام مسئوليته التاريخية، سوف يدفع بالاتجاه الصحيح، ويعمل على شحذ سيف الرقابة المالية والإدارية الذي يجب أن يخرج من غمده ويزال صدأه.

 محمد عبد الله الشيباني

الثلاثاء، يناير 08، 2013

العزل السياسي المؤقت


العزل السياسي المؤقت؛ لغم من مخلفات الحرب، أو تحصين من مضاعفاتها؟

مخلفات حربنا الوطنية السابقة كثيرة وخطيرة، ويزيد من خطورة هذه المخلفات شدة ارتباطها بعامل الزمن الذي لا يعمل على تآكلها وتلاشيها كما يفعل مع الكثير من الأشياء، ولكنه يراكم ويعقد ما تؤول إليه أحوال هذه المخلفات، وهو ما يستدعي تأمين خطرها، والعمل على تفادي نتائج مآلاتها المهلكة.

الخلاص النهائي من ألغام حرب الإخوة الأعداء هو تكاثف الجميع ممن تظلهم شجرة الوطن من أجل تحويل مخلفات تلك الحرب إلى بلاسم جرح وعوامل قرب وحب.

أشد المناطق الحرجة في لغم العزل السياسي المتداول خبره هذه الأيام، هي تلك المنطقة التي تتداخل فيها مادة هذا اللغم مع النسيج الرخو للهوية الوطنية التي تعتبر، وخاصة في هذه الآونة، من أهم المناطق وأشدها حساسية بحسبانها الحجر الأساس للبناء الديمقراطي الوليد.

لابد لنا ونحن نحاول درأ شرور خلافنا الدامي السابق ، ومن بينها لغم ما يسمى بالعزل السياسي، أن ننظر إلى المواطن محل الشبهة السياسية المؤقتة على أنه ضحية نظام سياسي مارس مختلف وسائل الابتزاز من أجل مسخ هوية إنسانية المواطن قبل مسخ هوية مواطنته، وأجبر المواطنين جميعهم على تنفس هواء الدكتاتورية والفساد وانعدام الشفافية، وغير ذلك من ملوثات الحياة الاجتماعية والسياسية.

وبالمقابل فإن المواطن محل هذه الشبهة يجب عليه أن ينظر إلى القصور المؤقت في كفاءته السياسية وفق المعايير الجديدة للنظام الجديد على أنها أمر عارض وإجراء تحفظي لابد منه، وبأن زوالها عنه هو الطريق الوحيد نحو ممارسة دوره الوطني، وهو بكامل عافيته وفي أعلى مستويات هويته الوطنية.


ألم يمر هذا المواطن يوما ما وهو يُختار لتولي منصب من مناصب النظام السابق بعديد المناخل، والتي ما مر خلالها أحد إلا وقد تركت في كرامته ندوب، وفي مصداقيته خدوش، بل  وفي فطرته عيوب!

مجرد حضور مهرجانات الزور وطقوس عبادة الفرد وتقديسه بأي صورة من الصور، ولو كانت تصفيقا أو هتافا، يعتبر وزرا وذنبا يجب التحلل منه، ناهيك عن تولي الوظائف الهامة بناء على توصيات وصكوك مكتب اللجان الثورية سيء الصيت، وغيره من مؤسسات الغربلة والتصنيف الأمني الفاضح.

ليس خفيا على أحد ما أحدثه رأس النظام السابق من شروخ في صرح الهوية الوطنية، وذلك بما مارس من صنوف استبداد ودكتاتورية، وبما أظهره من أنانية وتهوين لقيمة الوطن ومواطنيه حتى جعل كل ذلك في كفة وكفة خدش شعور أحد أبنائه السفهاء العابثين" هانيبال سويسرا" في كفة أخرى، ناهيك عن ولوغ النظام المفرط في دماء الليبيين وأعراضهم وأرزاقهم دونما أي شعور برادع يردعه.

كل الليبيين عايشوا ذلك الدكتاتور وابتلوا وكابدوا مشاق نظامه، تلك المشاق التي لا يمكن أن تتساوى ردات فعل الناس تجاهها، وذلك لاختلاف قناعات الناس وظروفهم وقدراتهم.

خط العزل السياسي كما يجدر بالجميع أن يراه هو خط تفرضه معادلات الواقع القاهرة، وهو خط يفصل ما بين نظام سياسي ونظام سياسي آخر قام على أنقاضه ويخالفه في كل شيء، وتبعا لذلك سوف يكون هذا الخط فاصلا عادلا بين ضحايا الدكتاتورية من ذوي الإصابات بالجرعات العالية من سموم تلك الحقبة، وبين سواهم، وبقدر تفهمنا لهذا الخط وماهيته تكون قدرتنا على إزالته أقوى وأسرع.

عدد لا بأس به ممن عبث بهم موج بحر الدكتاتورية الهائج، ووضعتهم الأقدار في المنطقة الحمراء لخط الكفاءة الوطنية، بادروا، وفي مناسبات مختلفة، بالانشقاق عن النظام. طائفة المنشقين هؤلاء، في أي وقت، وبأي لون كانوا، هم أقرب الأمثلة وأوضحها على شرعية وضرورة وجود خط العزل السياسي الحالي بكافة درجاته.

حري بنا أن نفهم العزل السياسي المؤقت على أنه حالة تبرؤ وتطهر من أدران نظام سياسي ظالم أهلك الحرث والنسل، وبأن هذا التبرؤ والتطهر إن هو إلا مسوغات إثبات مواطنة للذين فاتهم شرف تقديم هذه المسوغات على هيئة سنوات من السجن والإقصاء إبان ليل الاستبداد الطويل، أو على هيئة قطرات من دم غال تشرف شهداء هذا الوطن بتقديمه بدون مقابل دنيوي رخيص.  

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com



الجمعة، يناير 04، 2013

تبا للطغاة؛ منعونا تعلم الثورة، فانزلقنا إلى الفورة!


تبا للطغاة؛ منعونا تعلم الثورة، فانزلقنا إلى الفورة!

الآن أضحى جليا أن ما قمنا به كان مجرد فورة وليس ثورة، وأن نظام الاستبداد الذي حكمنا طويلا هو من سبب لنا هذا  الشلل الثقافي الذي ألبس علينا الفورة فحسبناها ثورة.

أما أن ما قمنا به هو مجرد فورة وليس ثورة، فهو أمر أكدته المشاهد الأولى لفوران الشارع في فبراير 2011، وما اتسمت به حركة الجماهير المنتفضة آنذاك من عفوية واضحة، ثم زادت ذلك تأكيدا تلك المشاهد والتصرفات التي اكتنفت سلوكنا من لحظة سقوط النظام حتى حينه.

إبان خوضنا للحرب التي فرضها علينا القذافي وحتى إسقاط رأس النظام الدكتاتوري كانت الفورة بكل عيوبها ومنزلقاتها مقبولة لعدم توفر البديل لها، ولكن وبعد انقضاء عامين على ما أطلقنا عليه اسم ثورة لم يبد على أرض الواقع وسلوك الناس أنه كذلك، بل تبين لنا أن ما قمنا به ودفعنا من أجله كل غال كان مردوده متواضعا جدا، وهو مجرد سقوط رأس نظام حكم متهالك فقد صلاحيته بإجماع شهادات مختبرات الدنيا.

معالم هذه الفورة وملامحها الصارخة لا تكاد تخطئها العين، ذلك أن الكثير من الفائرين الأوائل ومن لحق بهم من فائرين مقلدين لا يزالون جميعهم في نوبة فورانهم المحموم.

أقل هؤلاء الفائرين سوءا أولئك الذين لا زالوا يصمون آذانهم عن سماع نداء الحكومة مجاهرين بعدم رضاهم بتسليم سلاحهم والانضواء تحت مظلة وزارة الداخلية أو وزارة الدفاع. أما أسوأ هؤلاء الفائرين فإنهم لا يزالون يرتدون بزة الميدان ويمتشقون السلاح ويحاربون طواحين الهواء مثيرين بذلك غبار الفوضى التي تسمح لهم بقطف ثمار فورتهم والسيطرة على ما ليس لهم فيه حق؛ بدءا من راتب لا يقدمون عملا مقابله، وانتهاء بعمليات سرقة بالإكراه، وربما اختطاف وقتل.

لم يعد يهمني كثيرا أمر من لم يزل في حالة فورة وهياج غير مبرر، وذلك لأنهم جميعهم خارجون عن القانون، ويجب أن يحاسبوا على ذلك.

من يهمني حقا هم أولئك الذين حلموا بزوال ليل الطغيان طوال ليل الطغيان الأسود الطويل، وصنعوا جنين انتفاضة فبراير من أطياف حلمهم وقطرات دمهم، حتى إذا أذنت الأقدار بنفخ الروح في هذا الجنين، وأسفر فجر 17 فبراير عن ولادته، استبشروا بهذا الوليد المجيد، وأطلقوا عليه تبركا وتفاؤلا: اسم ثورة فبراير.

في مقدمة هؤلاء كوكبة شهداء الثورة على الاستبداد والطغيان قبل انتفاضة فبراير بعشرات السنين وإبانها، فعليهم سلام الله ورحمته وبركاته.

وثاني هؤلاء هم أولئك الأحياء الأنقياء من رجس الطغيان القديم والجديد، والذين أكرمهم الله وأثلج صدورهم بتحقق وعده في المستبدين الظالمين، ففرحوا بذلك وانتشوا،  ولكن سرعان ما سرقت فرحتهم، وتكدر صفوهم، وربما خاب أملهم.

هؤلاء الذين أعنيهم هم الذين، لا زالوا منتشين بسقوط نظام الطغيان، إلا أنهم لن يبلغوا ذروة نشوتهم حتى يتحقق الحلم، ويرون الثورة كائنا حيا رشيدا يزيل كل آثار الظلم والتخلف والفساد، ويرسي بدلها صروح العدل والتقدم والصلاح والرشاد.

وهؤلاء لابد أنهم يعلمون أن من مهد لتكدير صفوهم وخطط لحرمانهم قطف ثمار سقوط الطغيان هو نظام الطغيان نفسه بما كرس من جهل وتخلف وتصحر ثقافي على مدى العقود، وبما غرس من أسافين فرقة، وبما زرع من بذور تزمت واصطفاف جهوي وقبلي وحتى ديني نحصد الآن كل مساوئه ولم نظفر بأي من محاسنه.

الفائدة التي أرجوها مما أقول هو قدرتنا على تشخيص علتنا القائمة، هذه العلة التي جعلتنا نقف محتارين متعجبين من قدرتنا على كسر رأس الظلم الشديد القوي، وعجزنا عن بتر أطرافه وجذوره الناضحة بالجهل والنافثة لأدخنة الثلوث الحائلة دون أي تغيير والمانعة لأي إصلاح، بل والحاجبة عنا رؤية الطريق الذي نسير فيه.

ونحن إذ نشخص هذه الحالة يتراءى لنا بوضوح أبرز مظاهرها وهو انعدام القدرة على الاتصال والتأثير فيما بين مكونات القوة الشعبية المنتفضة من أجل التغيير، وكأن الليبيين لا قدوة لهم، من حكيم يسمعون نصائحه وكبير يذعنون لأمره.

وبالتركيز أكثر على هذه الحالة نلحظ بوضوح الحبل السري الذي يوصلها بمصدرها، وهو حبل مسموم ومحقون بجراثيم وفيروسات حقبة الاستبداد التي أمعنت في تكريس حالة انعدام القدوة والاستخفاف بأي كبير أو ناصح أو مشير.

أحتار كثيرا وأنا أسمع أن القبلية ونظامها هو من يحكم المجتمع الليبي. ذلك أن من معلوماتي البسيطة عن النظام القبلي هو خضوع القبيلة لشيخها وكبيرها وانضباطها هرميا  وصولا إلى رب الأسرة الصغيرة.

لو توفر هذا النظام الاجتماعي المحكم لأمكن تجميع رؤوس هؤلاء القبائل مهما تعاظم عددهم وتباين رأيهم، ولأمكن حل مشاكل الليبيين جميعهم في يوم واحد.

يبدو أن النظام القبلي الذي يحكمنا يعمل في اتجاه واحد غايته النفخ في الموروثات القديمة البائسة للقبيلة، من مثل التعصب والتكبر والتفاخر الفج، وكذا التكلف في ممارسة عادة الأخذ بالثأر، والصراع الدموي الساذج على شبر من أرض يباب، ولا شيء غير ذلك.

من أثر غياب دور القدوة، وتلاشي سلطة ومسئولية الكبير على الغر الصغير، ما شهدته مؤخرا عندما مررت بمجموعة من الصبيان الفائرين، وما أكثرهم هذه الأيام، وهم يقومون دونما خجل أو حياء بقطع وإغلاق شارع رئيسي مكتظ من شوارع العاصمة، الأمر الذي سبب في تغيير مسار المارين وتشتتهم في الأزقة والحارات، ليصل كل منهم غايته متأخرا الساعات، ومن هؤلاء من الدقائق تفصل بين موته والحياة!

لم أتحسر على شيء، وأنا أرى عربدة هؤلاء الصبية، أكثر من تحسري على غياب آبائهم وأعمامهم وأخوالهم وقصورهم عن نصيحتهم وردعهم، وزادت جرعة تحسري تلك عند قيامي بتصفح وجوه وملامح هؤلاء الصبية فما وجدت فيها أثرا من براءة ولا قطرة من ماء حياء.

مولود التغيير الذي حلمنا به وانتظرناه طويلا قارب بلوغ العامين من عمره، ولم يتهج بعد الحرف الأول من أبجدية الثورة والتغيير، وذلك لأن هذا المولود دخل في نوبة فورة وإغماءة هيجان كان من أهم أعراضها تعطل وسائل الاتصال المنظمة والمنسقة لوظائف جسمه وفعاليات كيانه.

إلى كل من لا يزال فائرا:

الفورة المزمنة مانعة للتغيير المنشود، وهي ردة عن الثورة وعمل مضاد لها، وكل من يدأب على ممارسة هذه الفورة ويصر عليها إنما يعمل على بعث جماهيرية جديدة وخلق قذافي آخر. إنه ببساطة يخون الوطن.
  
المتهم الوحيد بسرقة فرح الثورة وخيبة الأمل هم أولئك الذين لا زالوا يوهموننا بأنهم ثوار؛ فيمنعون باسم الثورة النظام، ويخنقون باسم الثورة العدل، وينشرون باسم الثورة الفساد، ويطردون باسم الثورة الأمن. إنهم حقا يقتلون الثورة. إنهم يئدون الحلم.
   
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com