الأربعاء، أغسطس 24، 2011

أجل؛ فالطغيان جينة وغريزة



سجل التاريخ وبوضوح تام حالة تسلط واستبداد فرد على دولة بكاملها، ولمدة قياسية؛ أربعة عقود وزيادة!

كما سجل التاريخ أيضا، وربما بوضوح أكثر، ظاهرة إقدام فرد على شن حرب طويلة الأمد شديدة العنف والقسوة على كل بني شعبه!

وقد تم تسجيل هذين الحدثين التاريخيين حصريا باسم معمر القذافي.

وقد يكون للقذافي أشباها في التسلط وشن الحرب على بني الوطن، ولكن القذافي بزَّهم جميعا وتغلب عنهم وذلك بقيامه بأكبر عملية تشرنق ومواراة وتمويه لغريزته الاستبدادية العدوانية على مدى سنوات حكمه الطويلة، كما قام عند انفضاح أمره بأكبر عملية خلع وتفكيك لكل ما أقامه حول ذاته وغريزته وجيناته الطاغوتية من دروع حماية وأسيجة تمويه.

التفاف أبناء القذافي وعشيرته حوله في باب العزيزية، العنوان القانوني والحركي لنشاطه، وانطلاق صواريخ السكود من سرت مسقط رأسه والعنوان الجيني له ولزمرته، حدثان يؤكدان وصول مرحلة تخلص الدكتاتور من الدائرة الأخيرة لأسيجة قوقعته التي خبأ فيها جيناته وغرائزه الطاغوتية العقود الطوال.

ربما لأول مرة في التاريخ يتعرى فيها دكتاتور، وبهذه الطريقة الفاضحة،  من أكبر ما غطى ووارى به دكتاتور نفسه.

إن المتابع لحياة القذافي منذ صباه وبواكير شبابه  يدرك أنه، ومنذ ذلك الوقت المبكر جدا، كان يقوم بعملية الغش والتخفي لمكنونات نفسه، وما يخفيه في أعماقها.

حدثني أحد زملاء القذافي في دراسته الثانوية في مصراتة بأن القذافي كان يضفي على نفسه وبشكل مبالغ فيه مسحة الوقار والتدين، وكان يتقدم الصفوف ويؤم المصلين، ويظهر لأقرانه اهتمامه بالقراءة، وغير ذلك مما يشعر بتميز الرجل وعلو مقامه.

مكنته قدرته على التنكر، وما ألحقه بها من تطوير، من الاستحواذ على ثقة بعض زملائه الضباط، وتمكن من الركوب على ظهورهم، كما قال هو بنفسه، والدخول إلى مبنى الإذاعة والسيطرة على الحكم.

تطورت تقنيات العقيد الشاب وحاكم ليبيا الأوحد في بناء ورص جدران قوقعته الطاغوتية، وسخر إمكانيات دولة بكاملها في إقناع الآخرين بأن ما يكتنزه من غرائز وخصائص جينية طاغوتية ما هي إلا فتوحات وإشراقات ربانية لقائد فذ ومفكر إنساني عالمي، جاء ليحل للبشرية جميعها مشكلة نظام الحكم!

إعلان الثورة الثقافية، وإصدار فصول الكتاب الأخضر، وتتويج كل ذلك بإعلان الجماهيرية، كلها مراحل شاقة كلفت ليبيا الكثير، ولكن كل ذلك لا يساوي شيء أمام المكسب الكبير، ونجاح المهمة الخطيرة للدكتاتور التي حاول من خلالها تقديم نفسه على أنه قائد أممي منزه جدا عن أدران حب التسلط التي تعتري كل الحكام الآخرين، ولو كانوا أولئك القادمين عبر صناديق الانتخابات!

أمعن الدكتاتور في الكذب والتمويه والتعمية، حتى بلغ به الحال نسيان ما كان يقوله، وكذا ما كان يصر عليه السنين الطوال من أنه ليس بحاكم ولا ملك، وليظهر علينا فجأة، ويقول متفاخرا متشامخا بأنه ملك الملوك، وليس مجرد ملك!

الذين فضحوا القذافي كثيرون، ولكن آخرهم وأهمهم هم أبناء القذافي، وذلك عندما امتشقوا جميعهم السيوف ودخلوا المعركة إلى جانب أبيهم بدون تردد، وهو ما يمكن اعتباره من أهم ملامح التعري الجيني للقذافي وانكشافه على حقيقته المخيفة التي أتبثها ذلك التواصل الوراثي الكامل بينه وبين أبنائه، والذين كانوا وبحق النسخة طبق الأصل من أبيهم الدكتاتور.

إن أبناء القذافي جميعهم،ربما باستثناء ابنه البكر، محمد، أظهروا ارتباطهم وتواصلهم وراثيا بما هو عليه والدهم، وإن ما ظهر عليه سيف مؤخرا يؤكد التعري الكامل من كل أثواب الوقار السياسي، وحتى أثواب النفاق الاجتماعي، ورأيناه كيف خلع كل أثوابه التي كان يرتديها السنين الطوال، وليتصرف وكأنه زعيم فصيل قطاع طرق نال من خصومه ما كان يريد.

ها نحن، وبفضل الله، نقوم بإسدال الستار على أبشع مرحلة في تاريخنا، والتي ظهر في فصلها الأخير أخطر ما كان يواريه ويتستر عليه القذافي وأبناؤه وأعوانه، ألا وهو نزعتهم وغريزتهم العدوانية، والمتصلة جذورها مباشرة بالتكوين الجيني لهذا لأبيهم وقائدهم ورمزهم.

لابد لنا ونحن نضع حجر الأساس لدولة متحضرة حديثة أن نحذر ونحن نرص هذه الحجارة من خلوها من عدوى فيروس التسلط الخبيث الذي حضنه القذافي وطوره السنين الطوال، ولابد أن الكثيرين من أتباعه ومريديه كانوا في دائرة الإصابة المؤكدة بهذا الفيروس.

قد نجد أنفسنا ملزمين، إزاء تفشي حالة العدوى هذه، ولو مؤقتا، بإنشاء مؤسسة تعني بممارسة الرقابة على كل حجر من حجارة بناء دولتنا، وأن نعمل على أن لا تسمح فلاتر هذه المؤسسة بمرور ذوي العدوى حتى يعاد تأهيلهم، والتأكد من خلوهم من علل وأمراض الحقبة القذافية اللعينة.

أفادتنا شهور المحنة الأخيرة بالتعرف عن قرب على كل ملامح الشخصية الاستكبارية للقذافي وأعوانه، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

1 ــ الارتباط المرضي بالزعيم، والذي تم اختزاله في ذهن الكثيرين على أنه صاحب السيطرة، وأن مجرد ظهور ذلك الزعيم مسيطرا يعني لديهم مشروعية كل ما يعمل، وهو شعور تم تلبيسه من قبل البعض بلباس الدين حتى إنهم اعتقدوا بأن القذافي ولي أمر الجميع، ولو أقدم على قتل الجميع!

2 ــ الارتباط المرضي بالقبيلة والمراهنة على رابطة الدم واعتبارها الوسيلة الوحيدة لإثبات الذات وجني الفوائد والمنافع التي لا يمكن الحصول عليها، وفق رأي هؤلاء، إلا بالتحلق حول الحكام وأصحاب النفوذ وموالاتهم دون النظر إلى شرعيتهم وأحقيتهم في الحكم.

3 ــ النظر إلى الآخر، ممن هو ليس من المنتمين للقبيلة والزمرة الحاكمة وأنصارها، بالدونية، بل ووضعه موضع الخصم، وإلباسه ثوب الخيانة والعداوة.

4 ــ  أدت الحالات المرضية الثلاث المذكورة إلى وقوع صدام مباشر بين أصحاب هذه الحالات وبين المثل الدينية والأخلاقية وكذا الثوابت والمعادلات الفلسفية والعلمية والقانونية، فعمدوا إلى تطويع هذه المثل والثوابت وفصَّلوها على مقاس توجهاتهم ومصالحهم العصبية القبلية الضيقة.

5 ــ  أفرزت الحالات الأربع سالفة الذكر ظاهرة النفاق الاجتماعي والسياسي وربما الديني، وليتحول المجتمع بكامله إلى ساحة حرب يصعب فيها على كل محارب تمييز خصمه، وأصبحت كل أهداف هذه الحرب الخبيثة تقع في مرمى الوطن، وانجلت المعركة على خسارة ماحقة للجميع.       

6 ــ  الغياب الكامل للحكمة على طول مدى الحقبة القذافية اللعينة، إلا أن الحكمة غابت وبشكل مخيف على مدى زمني ابتدأ من خطاب عبد الرحمن شلقم بمجلس الأمن، وانتهى بتصريح محمد القذافي لقناة الجزيرة، وكلا الرجلين، وهما من داخل البلاط، حددا مركز ثقل ذراع الحكمة ومناطها، وهو بالطبع معمر القذافي، رمز السفاهة والتهور.

محمد الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: