السبت، أغسطس 27، 2011

واضرب لهم مثلا رجلين



إدريس السنوسي
معمر القذافي

اقتسما الاثنان حكم الدولة الليبية الحديثة، وقد آتى الله الملك كلاهما، ثم نزعه منهما نزعا. يؤخذ على الأول قيامه بإبطاء حركة العجلة الديمقراطية للدولة الليبية الوليدة، ولكن الآخر قام بخلع العجلة نفسها من مكانها.

ترددتُ كثيرا قبل أن أتجرأ على وضع هذين الرجلين جنبا إلى جنب، وذلك لما يوجد من فرق شاسع بينهما، ولكن الضد يظهر حسنه الضد.

هذا وقد سهل عليَّ عمل هذه المقارنة قيام ثانيهما، القذافي، بالضغط بقوة وبعنف وباستفزاز كلما خطا خطوة وقطع مرحلة من مراحل مسافة حكمه الطويلة، والتي بلغت أكثر من ضعف مسافة حكم الأول.

مشى القذافي على الأرض مرحا، محاولا، وبكل حمق، خرق ظهرها، متطلعا، وبكل سفه ونزق وطيش إلى الجبال الشاهقة كي يبلغها طولا، ولم يقعده قصوره الفاضح، وسقوطه المخجل المتكرر على تكرار ما يفعل، وبطريقة دفعت كل من سمع ضجيجه المستفز إلى الالتفات نحوه، ومحاولة القيام بمقارنة وقع خطاه المتعثرة، بوقع خطى أشباهه من الحكام الآخرين المتزنين، ولا سيما سلفه؛ الملك الرفيق الشفيق، إدريس رحمه الله.

كنت في بداية مرحلة الشباب عندما جاء القذافي، وانسحب، وبكل هدوء، الملك إدريس، وكذا النظام الملكي كله بقضه وقضيضه، ولم أكن أعلم من ملامح ذلك العهد سوى ما تضمنه المنهج الدراسي من إشارات خجولة إلى الملك ونظامه، أو ما رسمته صورة ذلك الملك المسن الناضحة تواضعا والمكتنزة هيبة ووقارا، والمشعة أبوة ودفئا.

جلس الملك إدريس على كرسي الحكم ولم يزل غبار المعركة والجهاد ضد المستعمر على ثيابه الصوفية المتواضعة، وقَبِل تحمل وزر حكم الدولة الفقيرة في أشد مراحل حياتها صعوبة، والتي بدأت بعملية المخاض العسيرة، ثم مرحلة ولادة الدولة الشاقة، وانتهاء بمرحلة التكوين لدولة لا تملك شيئا. وكلها كانت مراحل مرهقة مضنية لرجل مسن صوفي زاهد، ليس لديه من حب السلطة والتطلع للمجد والزعامة ما يغريه، أو يخفف عنه ما يكابده من مشاق.

القذافي استلم الدولة بعدما اشتد عودها، وتدلت ثمارها وأينعت، وبضربة واحدة طائشة دانت لذلك المضارب النزق بلادا غنية بكاملها، وخرجت له الجموع الغافلة الساذجة والمغرر بها عن بكرة أبيها، دون أن تعرف حتى اسمه، مما أخرجه عن طوره ، بل وربما عن بشريته، ليتطلع إلى مراتب الآلهة المقدسة، وليجعل من تلك الجموع وقودا لرحلته الشاقة في متاهة المتألهين.

نجح القذافي في انقلابه، والذي ورغم انسحاب الملك المخلوع بكل رفق ولين، إلا أن القذافي تعمد استعداء الملك وبطانته وعائلته، وبتاريخ رجعي امتد إلى أجداده الأولين، أصحاب الدعوة السنوسية الإصلاحية الراشدة.

ساعد الفراغ المخيف الذي كانت عليه البيئة الثقافية والسياسية الليبية في عام 69 على تكبير صدى وقع أقدام الملازم البدوي الصعلوك المتشامخ حتى الجنون، بل وأحدث هذا الصدى في عقل القذافي موجات ارتدادية جعلته يزيد في كل مرة من قوة وقع أقدامه المدرعة بالحذاء العسكري الخشن الثقيل ، حتى بلغ به الحال حد الهوس، وذلك عندما اعتقد أنه المنقذ للبشرية كلها.

لم يكن الملك إدريس كذلك، بل لم نكن نسمع له صوتا، رغم علو أصوات أنداده شرقا وغربا، وأحيانا بطريقة مستفزة تبرر له إعلاء صوته والدفاع عن نفسه.

لم يكن إدريس مقتصدا رفيقا وديعا في كلامه وحسب، بل كان رفيقا في أفعاله ومحاسبة خصومه. دليل ذلك صفحه على مجموعة من ضباط الجيش، حاولوا الانقلاب عليه في بداية الستينات.

تعرض القذافي لمحاولات انقلاب شبيهة، ولكن رده لم يكن شبيها على الإطلاق برد الملك إدريس، بل كان رده في منتهى القسوة، حتى أن القذافي لم يكتف بإنزال عقوبة الإعدام الجسدي بهؤلاء الضباط ، بل امتد عقابه حتى طال أهلهم وذويهم، وربما كامل المنطقة التي ينتمون إليها.

اكتشفت أجهزة أمن الملك إدريس، في منتصف الستينات تنظيما سياسيا سريا، فما كان من الملك إلا أن أنزلهم سجونا فندقية، باعتبارهم سجناء رأي، وذلك بعدما حوكموا محاكمة عادلة، قضت عليهم بعقوبة رمزية، ما لبث أن تجاوزها عفو الملك وأسقطها قبل موعد انتهائها.

أما السجن السياسي للقذافي فهو حفرة في قاع الجحيم، يقذف فيها القذافي كل من يحاول تعلم الحروف الهجائية الأولى للسياسة، بل إن بعض من قذفوا في هذه الحفرة، وباعتراف القذافي نفسه، أبرياء، وبحسب كلامه، "جابتهم الدورة"!

أعرف سجينا، قضى أكثر من عشر سنين في سجن أبي سليم سيئ السمعة، وهو لا يعرف حتى اليوم لماذا سجنوه، وحتى سجانوه أنفسهم لم يكونوا يعرفون لماذا سجنوه، مما اضطرهم إلى كتابة العبارة المخزية، "لا شبهة عليه"، على شهادة خروجه من السجن.

تظاهر طلاب مدرسة ثانوية في بنغازي إبان العهد الملكي، وحدث أن أفرط أفراد الشرطة في التعامل معهم، مما أدى إلى موت بعضهم، فقامت الدنيا ولم تقعد، ولم تتكرر هذه الحالة بعد ذلك أبدا.

القذافي أسس لجان موت متخصصة في قتل الطلبة أسماها اللجان الثورية، وخصص يوما في كل عام تقام فيه الطقوس الاحتفالية بشنق الطلاب الشباب، والذين ليس لهم من ذنب سوى أنهم ضبطوا متلبسين بالجرم الشنيع، والإثم الفظيع، وهو قراءة كتاب لا يحب العقيد قراءته، أو ترديد شعار يكره العقيد ترديده. بل إن الكثير من الطلاب الشباب أجبروا وبطرق التعذيب القاسية على سرد ما يدور بأذهانهم من أفكار وخيالات من إرث المراهقة، ليصيغ أعضاء المحكمة الثورية الدائمة السفهاء الأغرار من هذه الخيالات حججا وأدلة دامغة تكفي لتعليق هؤلاء الطلاب على المشانق في جامعاتهم وأمام أهلهم وزملائهم!     

الملك إدريس اشترى المزارع التي استصلحها الطليان، وملكها للمزارعين الليبيين المعدمين من أجل تحسين أوضاعهم، كما دفع التجار والصناع على تنمية أصولهم، وضمن لهم العمل الحلال وشجعهم عليه.

القذافي قصم ظهر كل ليبي أراد أن يزكي أمواله ويربيها، فألغى التجارة، وصادر المصانع، بل وامتدت يده إلى السيولة النقدية في أيدي الناس فسرقها في ليلة واحدة.

 انتهج نظام الحكم الملكي سياسة خارجية ودبلوماسية متزنة رشيدة، وغشى وقار الملك إدريس الليبيين جميعهم، فما من سفارة تمتنع عن منح تأشيرة لليبي أبدا، وليس هناك من دولة وطأها ليبي فأساءت معاملته أو أزعجته، وكانت وثيقة السفر الليبية التي يتصدرها تاج الملك إدريس محل احترام جميع دول العالم.

بلغ بنا الحال بعدما شوه القذافي صورتنا، وعبث بسمعتنا، حد قيامنا بتغليف وثيقة سفرنا ذات اللون الأخضر المميز، بل ونتعمد أحيانا عدم إظهارها إلا عند الضرورة، وذلك لأن هذه الوثيقة حملها القتلة والمجرمون، وجعلوها رمزا من رموز الشر والإرهاب، مما دفع دول العالم كلها على وضع كل من يحمل هذه الوثيقة في محل شبهة الإرهاب المشينة، وذلك حتى تثبت براءته.   

لم يتاجر الملك إدريس بالشعارات، ولم يثبت عنه الدعوة لغير الدين والوطن، ووضع نصب عينيه بناء البلد، وهو بذلك يمكن تشبيهه بالشيخ زايد صانع دولة الإمارات، والذي أعجب بليبيا عندما زارها في العام 1970، ورآها مثلا يحتذى.

كان بإمكان الملك إدريس أن يسحق القذافي وحركته في مهدها، ولكنه ، وحسب شهادة عوض حمزة، أحد أعضاء مجموعة الانقلاب، لم يزد النظام الملكي عن مجرد إحدات تغييرات في أماكن عمل الضباط المشبوهين، وإيفاد بعضهم إلى الخارج في مهام تطويرية، ومن بينهم القذافي نفسه!
كما كان بإمكان الملك المخلوع ظلما، في الأيام الأولى للانقلاب، أن يقاوم التمرد ويخمده، لما كان يتمتع به من تأييد داخلي وخارجي، ولكن الشعور الأبوي للملك منعه من المجازفة المشروعة، تحرجا من إسالة دماء الليبيين.

هل يمكننا، ونحن ننظر إلى هذه الصفحة المشرفة من تاريخ الملك إدريس في تعامله مع المتمردين، وتحرجه من إسالة دماء بني وطنه، أن نتجرأ على عمل مقارنة ما بينه وبين ما قام به القذافي خلال الستة شهور الماضية في رده على حركة شعبية سلمية، لم تزد على قولها له؛ كفاك أربعة عقود من سوء الحكم والجور والظلم والاستبداد.    

كثيرة هي الملامح المتضادة بين هذين الرجلين، معمر وإدريس، حتى أن الناظر إليهما يستغرب توالي عصريها، وتعاقب نظاميهما.

هل يحق لنا أن نطمع، بعد هذا النظام الأسود السيئ جدا، في نظام أبيض مضاد له ويعقبه مباشرة، كما أعقب الضد ضده يوما ما، وليكون نظامنا الجديد مفرط الحسن، رائع الملامح والتقاسيم، وذلك حتى نعوض وبسرعة عن كل ما خسرناه جراء وقوعنا تحت كلكل نظام  في غاية القبح والخبث والفظاعة!

آمل ذلك.  

محمد الشيباني
http://libyanspring.blogspot.com

ليست هناك تعليقات: