الأربعاء، نوفمبر 23، 2011

حرام عليكم


"حرامٌ عليكم"

أوغل الدكتاتور القذافي في  ارتكاب الحرام؛ فتداعت عليه قوي الخير والعدل مدعومة بالقدرة الإلهية الجبارة، وتعاونت هذه القوى جميعها، بما فيها قوة ثوارنا، على إسقاط الدكتاتور، صانع الحرام وراعيه.

عندما واجه القذافي الحقيقة، صرخ بأعلى صوته قائلا:

حرامٌ عليكم!

قالها معمر القذافي، وسمعها الليبيون منه، ربما للمرة الأولى.

كيف يكتم المستبد مدمن الحرام هذه العبارة البليغة السنين الطوال، ثم يفاجئنا بقولها يوم سقوطه ومغادرته  لنا، بل ومغادرته الدنيا؟

هل أراد أن يعلمنا القذافي  درسا عجز هو عن فهمه طيلة عمره؟

أم إنها عناية السماء الحكيمة أجرت على لسانه هذه القاعدة القانونية الفذة، وأصرت على إسماعنا إياها من قبل شخص أدمن الحرام وصنع منه جبلا، ولكنه  عند حصحصة الحق تنصل وتبرأ منه، وحاول أن ينسفه بهذه الكلمة الديناميت، "حرامٌ عليكم"!

أجل لم يقل عيب عليكم، أو لا تفعلوا بي ذلك، أو ما شاكله، ولكنه قال: حرامٌ عليكم!

إن قيام القذافي برفع صوته بالتحذير من الحرام استوقفني، وكأنني أسمع هذه العبارة لأول مرة. ذلك لأن القذافي كان من رؤوس الحرام، ومجرد قيامه بالتحذير من الحرام وتغليظه له، في ذلك اليوم المشهود الذي أرخ لسقوطه وكذا قيامته، لهو أبلغ درس لمن يعرف بليغ الدروس ويستوعبها.

نطق القذافي بهذه العبارة ومات، وانتهى بموته عهد حكمه وتهدمت أركانه، ولكن الشعب الليبي الذي ابتلاه الله بولي أمر حرايمي كالقذافي لا يمكن له أن يبرأ من مرضه المزمن، معايشة الحرام وممارسته، إلا بوقفة جادة مع النفس ومواجهة صريحة معها تستمد من لحظة مواجهة القذافي مصيره وإعلاء صوته بالتحذير من الحرام ما يساعدها على إدراك الحرام والتخلص منه قبل فوات الأوان.

يعرف الليبيون كلمة الحرام معرفة جيدة، ويستخدمونها في لغتهم الشائعة استخداما واسعا، يبدأ من الأعمال السيئة البسيطة، مثل إلقاء أذى بالشارع، وينتهي عند أكبر الجرائم وأعظمها، وهو إهلاك الحرث والنسل.

ها نحن نحث الخطى نحو عملية صياغة الدستور، العقد الاجتماعي الأعظم، والأب والمهيمن على مجموعة القوانين المبينة والمفصلة للمشروع وغير المشروع والمباح والممنوع. وسوف ننفذ هذه العملية الفنية بنجاح، ونقوم بطبع دستورنا الجديد وغيره من القوانين، وسوف نقوم بتغليفها بغلاف جلدي ثمين، ونزين بها مكتباتنا.

ولكن هل هذه الخطوة التاريخية ذات فعل سحري، نجد أنفسنا بعدها نسير في نهج الحلال ودروب الخير والصلاح؟

غالب الظن لا!

الحرام كما يعرفه جميعنا يبدأ من إلقاء أحدنا كوبه الفارغ في الشارع، وينتهي  بما نعرفه من جرائم غلاظ.

لن يفعل الدستور الأب وأبناؤه القوانين، والذين نشمر جميعنا ثيابنا من أجل كتابة متونهم، أكثر من التأكيد على حقيقة الحلال والحرام، والمشروع وغير المشروع، متخذا من بحار الألفاظ والكلمات مطية له في رحلته الطويلة منذ حامورابي وحتى حينه.

وأعود وأسأل. هل يكفينا هذا العمل الفني البحث، فيفلح وحده في تجفيف منابع الحرام وتنظيف أيدينا وأرجلنا وألسنتنا منه؟

وأجيب بـكل ثقة: كلا!

ما العمل إذن؟

ليس هناك ما نعمله سوى مواجهة الناس بحقيقة مفادها أن إسقاط رأس الحرام أسهل بكثير من إقامة صرح الحلال.

كأنني أرى الأنظار تتجه إلى الثوار من أجل إنجاز هذه المهمة، مهمة تعريف الناس بالحرام وحثهم على اقتلاعه، والبدء منذ اللحظة في بناء صرح الحلال.

لم لا؟

منطقيا يستطيع الثوار فعل ذلك، وهم أهل لذلك وأحرى. ولكن كيف؟

كما أمضى الثوار الثمانية أشهر السابقة في اقتلاع أب الحرام، أحرى بهم أن يكملوا جميلهم، ويقومون خلال الثمانية أشهر القادمة بمساعدة الحكومة الجديدة على اقتلاع الحرام.

ما زال الكلام بسيطا وفضفاضا لإيغاله في التنظير وعدم لمسه عتبة العمل والتطبيق!

حسن، لنحاول التطبيق.

شخصيا أدين لكل ثائر ساهم في إزالة أب الحرام وراعيه، القذافي.

ولكنني بدأت هذه الأيام أنظر بعين السخرية لحاملي السلاح خفيفه         وثقيله، وهم يجوبون شوارع المدن، رافعين السلاح الخطأ في المكان الخطأ أمام العدو الخطأ.

عدونا الحقيقي الآن هو الحرام، والذي لا زال يعربد بيننا، رغم سقوط أبيه وصانعه وراعيه.

كأنك يا بوزيد ما غزيت!

كيف والثوار أزالوا كل عقبة أمام الليبيين من أجل صياغة دستورهم وما يلزمهم من قوانين؟

لن تكون هناك أهمية لأبي القوانين، الدستور، ولا لأبنائه القوانين، ما دام الكثير منا لا يحترم قانون المرور مثلا.

ماذا لو بدأ الثوار منذ اليوم بحث الناس وإجبارهم على تطبيق قانون المرور؟

لن تكون هناك أهمية لأبي القوانين، الدستور، ولا لأبنائه القوانين ما دامت قوانين حماية البيئة غير مفعلة.

لماذا لا يتضافر الثوار من أجل المحافظة على البيئة وتعليم الناس احترامها والمحافظة عليها؟

لن تكون هناك أهمية لأبي القوانين، الدستور، ولا لأبنائه القوانين ما دام الحياء العام يخدش وينتهك في وضح النهار، والناس وقوفا ينظرون.

ماذا لو انطلق الثوار ومعظمهم من الشباب وجابوا الشوارع، ودعوا الشباب خادشي الحياء إلى التزام الأدب في الطرقات والكف عن أذي المارين بها؟

لن تكون هناك قيمة للقوانين كلها ومافيا المتاجرة بالمخدرات تمارس عملها في الفتك بالمجتمع على مرأى ومسمع الجميع.

لماذا لا يشكل الثوار مفارز من أجل القضاء على هذه الظاهرة التي لن تفلح القوانين وحدها في محاربتها والقضاء عليها.

وهكذا بالنسبة لكل شأن من شئوننا التي تستحق الإصلاح.

وإذا سأل سائل وما دخل كل الذي قلته بالدستور؟

أجل. ليس لما قلت أية علاقة فنية مباشرة بالدستور، ولكن انخراط الثوار ومن خلفهم كل فئات الشعب في تفعيل القوانين الملامسة لواقع الناس، كقانون المرور، وقانون حماية البيئة، وقانون صيانة الحياء العام، وقانون المؤثرات العقلية، وغير ذلك من قوانين، ومحاولة ربط ذلك زمنيا وحركيا وإجرائيا بقيام الثوار بإسقاط رمز الحرام، القذافي، من شأن كل ذلك أن يضع الأرضية الملائمة لسن القوانين وإنفاذها بدءا من أبيها، الدستور، وانتهاء بالقوانين الأخرى.

من المعلوم أن من أكبر عيوبنا وأكثرها وأخطرها هو استخفاف الكثيرين منا بالقانون وتهوينهم لمبادئه، وفراغ أفئدتنا وأفكارنا من روحه، وليس ذلك بسبب عدم توفر القوانين، فهي كثيرة والحمد لله، ولكن سبب ذلك يعود إلى ما ربانا عليه طواغيت العهد الهالك وما مارسوه من استخفاف وعبث في حق القانون تشريعا وتطبيقا.

أجل فرأس الظلم والاستبداد والحرام سقط، ولكن جسمه المتعفن النتن لا يزال ممتدا على مدى الوطن، تزكم رائحته الأنوف وتقزز الأبدان وتنغص الشعور بالنصر، بل ربما يفعل فينا جسم الحرام الهالك أكثر من ذلك، فيقيد أرجلنا عن السير إلى الأمام، ويشل أيدينا عن البناء، ويلجم ألسننا عن قول الحق، وقبل وبعد كل ذلك يطمس على الأفئدة والقلوب؛ فترى الحرام حلالا والمنكر معروفا والممنوع مشروعا.

وعندها تكون يا بوزيد كأنك ما غزيت!

 محمد الشيباني
  
 




ليست هناك تعليقات: