السبت، أكتوبر 13، 2012



من خواطري القديمة
كاتالوج
عديدة هي المرات التي أقف فيها ضاحكا من نفسي مرة وباكيا عليها مرات متأسفا على حالي ومتحسرا لسوء مآلي، وذلك بسبب وقوعي في أخطاء لم أعمل لها حساب، منها البسيط المضحك، ومنها العظيم المنهك، وكذلك تحملي لخسائر لم ترصدها توقعاتي، ولم تتوقعها حساباتي، ويزيدني ألما وغبنا استحالة الرجوع إلى الوراء ولو لخطوة واحدة أو استبدال الفكرة بأخرى، وأنَّ لي ذلك وأنا عالق في قطار الحياة السريع ذي الإتجاه الواحد.

 تمرّ بى هذه الحالة كلما مرَّ قطار حياتي بمحطة من محطاتها الكثيرة، الهينة منها والخطيرة، والتي كلما وقفت على أعتاب إحداها أعمد إلى ذاكرتي فأكدُّها وحافظة أوراقي فأبعثرها باحثا عن فكرة تعينني أو خارطة ترشدني أو نصيحة كان قد تبرع بها بعض الناصحين الذين مروا قبلي بمثل هذه المحطات، وكم تكون غبطتي شديدة ونشوتي عارمة عندما أجد ذلك التطابق المبهج اللذيذ بين خارطة قديمة كنت قد نسختها من أحد أطالس العابرين قبلي لدروب جرَّني إليها تيار الحياة الجارف فسلكتها بعدهم، أو عندما أجد نصيحة علقت في ذاكرتي كان قد أفاض بها  بعض الناصحين المرتوين برحيق التجربة الناضحين بعبق الحكمة على أمثالي المنتشين بكأس العجلة المبهورين بسرعة القطار وتجدد وتألق ألوان وعلامات المحطات التي يمرون بها الراقصين على إيقاع ما يغمرهم من ضجيج. 

تشيع لدي الكثيرين منا ظاهرة إتلاف الكاتالوجات وكتيبات استعمال الآلات التي يصنعها غيرنا ظنا منا بأنها مجرد أوراق تتساوى مع أوراق تغليف تلك الآلة ، وكم يكون أسفنا شديدا وحسرتنا مريرة عندما يتسبب جهلنا باستعمال هذه الآلة في تلفها، أو إتلاف ما حولها، ويزداد أسفنا وتشتد حسرتنا عندما    نعلم أن بضع كلمات كتبت بلغتنا في كاتالوج هذه الآلة عرضنا عن قراءتها هي سبب الخسارة التي جنينا  والجريمة التي اقترفنا. 

الشيء نفسه يتكرر والعادة تغلب لدى الكثير منا عند إمساكهم بمقود المركب الكبير الذي يعبرون به بحر حياتهم الواسع العميق، وما تخبطنا وسط ذلك العباب وتكرار هفواتنا وأخطائنا وأخيرا غرقنا إلا بسبب إتلاف ذلك الكاتالوج الموجود عادة بجوار المقود أو إهمال النظر إليه بل ربما عدم البحث عنه أصلا .

تعجبني كثيرا السير الذاتية التي تضيف إلى متعة قراءتها فائدة مادتها في إطلاع القارئ على طبيعة مراحل عمر الكاتب والتي كثيرا ما يجد فيها القارئ بعض التشابه مع مرحلة العمر التي يعيشها أو تلك التي تنتظره فيستعير من الكاتب الكثير من الأفكار ويتزود بالعديد من الأدوات والتي يمكن أن تشكل مجتمعة دليلا أو كاتالوجا يساعد في تسيير حياة القارئ، لا بل إنها تزوده بغطاء نفسي يحميه من وطأة ثقل المفاجأة المربك الذي قد تباغته به الأيام. تعجبني كما قلت تلك السير إلا أن الإعجاب استحوذ علي بدرجة أكبر عندما أخبرني أحد الأطباء بأن أحد زملاء مهنته عنون كتاب سيرته الذاتية بعنوان ( my mistakes)  ، أوأخطائي، وتعمدت كتابة هذه الكلمة بلغة صاحب المذكرات الذي لم يكن عربيا كما قال محدثي، ولعله بالتأكيد كان من أولئك القوم الذين يدمنون تدوين ما جرَّبوا، ولا يستحيون من الإعتراف بالأخطاء التي ارتكبوا، إستبراء علنيا من ذنبهم وإفادة يرجونها لغيرهم. .  

نجتمع مرات عديدة في مجامع عزاء لأناس فقدوا حياتهم الغالية أو ثرواتهم الطائلة نتيجة ارتكاب خطأ لا مبرر له إلا الجهل الساذج بتشغيل آلة لم يكلفوا أنفسهم مجرد الإلمام بمعايير أمانها،وكثير منا نحن المعزين يتعمد بدافع حب المعرفة البرئ أو بدافع الفضول الفج إلى الإلمام الدقيق بملابسات حدوث تلك المصائب،غير أننا وبنفس درجة فضولنا العالية لمعرفة كل شيئ ترانا ننسى كل شيئ وكأننا مصابون بعادة ضعف الذاكرة  وإتلاف المعلومة في  تكوينها المعنوي  والمادي وعدم تحميل ذهننا مجرد تذكر ما سمعنا أو شاهدنا ، أوتعويد أنفسنا عبء الإحتفاظِ ولو بوريقات قليلة زهيدة تحوي كنز التجارب الوفير الثمين،حتى أن الكثيرين منا  تراهم يقعون في نفس المأزق ويكرِّرون ذات الخطأ الذي أودى بحياة من يعرفون،بل إن البعض يعمد إلى اختلاق الأعذار والتماس الحجج لخطئهم المضحك المبكي فتراهم يعمدون إلى تبرير ذلك الخطأ بنص ديني يتكلفون  تفسيره أو مثل شعبي عتيق يسيئون فهمه.
 
 يقتحم الكثيرون منا مراحل خطيرة في حياتهم وهم خلو من أي نصيحة، عراة من كل سلاح من أسلحة الخبرة والتجربة، يملؤهم الإعتداد بما لديهم من معرفة مشحونين بما يتأجج في نفوسهم من رغبة جارفة وعاطفة متدفقة في اتخاذ هذا القرار أو ذاك، غير آبهين بما لسلاح الخبرة والتجربة من أهمية متعففين عن النظر بأعين غير أعينهم ،أو النظر بزاوية أخرى غير الزاوية التي ينظرون بها إلى الساحات الواسعة الممتدة لمضمار المرحلة بل المعركة التي يخوضون غمارها فيَهلَكون ويُهلكون .  

كثيرة هي القصص المحزنة التي نسمعها والتي يكثر شيوعها بين صفوف صغار السن المنتشين بخمر الشباب المستغنين بما لديهم من جموح رغبات وقوة عضلات غافلين عن حاجة هذه الرغبة والقوة إلى مركز تحكم وأداة سيطرة تدعمها التجربة وتوجهها المعلومة لتقود سيل القوة والرغبة والعاطفة بحكمة وتؤلف بين إيقاعاته المضطربة فتصوغ منها إيقاعا واحدا ناطقا بالنجاح طافحا بالبهجة واعدا بالسلامة.

إن تيار الخبرة والتجربة سواء على صعيد الفرد أو الجماعة يستمد زخمه وعنفوانه من مجموعة الروافد التي تصب في مجراه والمغذاة من عصارة المعاناة الباهضة الثمن الشريفة الأصول الكريمة الجوهر،وهي بذلك كنز معرفي ثمين يجب المحافظة عليه وتطويره ، ولا يحق لأحد العبث به أو تشويهه،ذلك أن من يعبث بهذا فإنما يعبث بالوعي ويشوه الفكر الذي يشكل الكينونة المعنوية للفرد والجماعة . 

كثيرون من رعاتنا وولاة أمورنا وعلى مستويات مختلفة من مدير صغير إلى مسئول خطير يدمنون تحقير ذلك الميراث ويبخسون تلك الكنوز بدافع السفه والحمق حينا،وبدافع الثقة المفرطة في أنفسهم أحيانا أخرى، فتراهم يهونون خبرة وتجربة سابقيهم،عامدين إلى ذلك البناء الذي تكونت لبناته من سبيكة العرق الأليم والزمن الثمين فيعملون فيه معاولهم من أجل تهيئة مكان لذواتهم وطمس ذوات  سابقيهم والذين كانوا قد فعلوا بهذا البناء مثل ما فعل أسلافهم،ولك أن تدرك ماذا يمكن أن يتبقى من هذا البناء الذي تنهشه الحماقة وتدكه السفاهة وتنسفه الأنانية.

نعم إن الغيب مما اختص الله به نفسه ، والنتيجة النهائية يعلمها مدبر الأمور سبحانه وتعالى،إلا أن من رحمة الله بنا أنه أمدنا بأدوات الإستشعار الحسية والمعنوية ، وجعل تيار الحياة منسابا متسقا، وكنز التجارب متوارثا يرثه جيل عن جيل، وسياق التاريخ منتظم ، حتى أننا نقول أحيانا أن التاريخ يعيد نفسه،وهو ما يؤكد تباث سنن الحياة وانسجام طبيعة الأشياء التي وإن اختلفت ظاهرا فإنها تتفق جوهرا في نسق تسهل قراءة نصه ولا يستعصى على الكثيرين فهم كنهه . و لعله مما يفيدنا كثيرا في إتباث جدوى وأهمية ما نقول ما زخرِ به كتاب الله من قصص وسير تتكرر الإشارة إليها بطريقة تسترعى النظر وتقدح زناد الفكر لتدفعه إلى مزيد التأمل وإطالة الوقوف أمام هذه القصص وذلك لأخذ العبرة والتزود بالخبرة  لولوج أبواب هذه الحياة ومن تم التهيؤ لولوج ذلك الباب العظيم المفضي إلى جنة أو جحيم ..   
 محمد عبد الله الشيباني

ليست هناك تعليقات: