الأحد، نوفمبر 04، 2012



من خواطري القديمة

أردد كما يردد الكثيرون قول الشاعر أحمد شوقي رحمه الله :     دقاتُ قلبِ المرءِ قائلة له :: أنَّ الحياة دقائق وثواني    .

ولأنني كنت معتادا على ما للقلب من نبضات، ودقات متصلات منتظمات، وما للزمن من دقائق وثواني، بل وسنين  ممتدات، فلم أكن لأرى ما يلفت النظر ، فيما تضمنه سالف بيت الشعر، من مواعظ وعبر .

غير أن قلبي الذي لا أحس بدقاته إلا استثناء؛ خوفا وفرحا، أو ركضا وإجهادا، قام ذات ليلة، على حين غِرَّة، وعلى غير عادة، فحال بيني وبين الوسادة، وانتزعني انتزاعا من فراشي الوثير، ونومي الأثير، وعلمني هذا الدرس الخصوصي  الخطير .

كان الدرس خصوصيا خصوصية العلاقة بين المرء وقلبه ،الذي ليس له في جوفه مثله، وكان خطيرا خطر ما علِمته ولأول مرة أن المدى الزمني بين النبضة ولاحقتها ليس دائما   ثانية واحدة تزيد قليلا أو تنقص قليلا ، بل ربما امتد ذلك المدى امتداد البرزخ الذي لا يعلم مداه، إلا خالق الموت والحياه .

كان المعلم خفيف الظل، فأعطى درسه وارتحل، وذلك بعدما خصني بهذا الحوار، وأفضى إلي ببعض الأسرار، آثرت أن أنظمها شعرا، علني أحسن لها ذكرا ، وتكون في قلوب القارئين أعظم أثرا .
 فكانت هذه الأبيات :
في    هدأةِ   الأصواتِ  والحركاتِ
خَرقَ  السكونَ وضجَّ  بالخفقاتِ
فعرفـتُ   طارقَ   خلوتي وسألـتهُ
فيمّ  ارْتـفَاعُ    وتيرةِ النبضاتِ؟
لا  صوتَ  أسمعُ غير صوتكعالياً
والكلُّ   حولك   غارقٌ     بُسبات 
فَـأجَابَنِي:  قـبْـلَ الْجَمِيـــعِ أنَا هـُـنَــا
وقوامُ  هَذَا الْجـسـم مِـنْ لـَبـِـنـَاتي
لَـوْ لَــمْ  أكــُنْ مُـتَـحَـرِّكاً  مُـتـَكَـلـِّماُ
لَرَأيْتَ مَنْ فِي الأرْض كَالأمْواتِ
مُـذ ْ  أبدعَ  الخلاقُ  كاملَ   خِلقتي 
لمْ   أنقطعْ   أبدا ً عن  الحركاتِ
كـُلـِّفت ُ   إعطاءَ   الحياةِ    وعدَّ  ما
تحوي   حياة   الحيِّ  مِن   أوقاتِ
لَـوْلاي ما لانَ الـشـدِيـدُ  لِـسَــاعِـــــدٍ
ودنا    البعيدُ   لواهن ِ الخطوات ِ
فعَظِيمُ  مَا  شـادَ  الأنَـامُ   بِـأرْضِـهِمْ
مِنْ وَقعِ  إيقاعِي  ومِنْ  طَرَقَـاتِي
مُتتابعُ   الأعْوَامِ   لـيسَ    وَسِـيـلَـتي
فـي الْـعَـدِّ   بَـلْ  مُـتتابِعُ  الدَّقـَاتِ
لــوْلاي لامْـتـدّتْ رَتابـة ُ   وقـتـــكـمْ
وَلـَمـا اخْـترعْتمْ عقرَبَ  الساعاتِ
نبْضِي   ودَقاتِي     دَلِيلُ   حَـيَـاتِـكمْ
وبَليغُ مَـا فِي الْـكَون ِمـنْ أصْوَاتِ
قبْضٌ    وبَسْطٌ   أبْجـدية ُ   مَـنـطِـقي
وحروفُ  ما  دوَّنتُ  مِن  كلماتِ
ورَفعتُ صَوتِي كَـيْ أ ُبَـلــِّغَ  حُجَّتِـي
ويلامسَ الأسماعَ صوتُ عِظاتِي
حقاً ، أجَبْتُ  الـقَـلـبَ ، ثمَّ  سَـألــــتــُهُ
 عـنْ أوّل ِالـدَّقَاتِ ، وَالـنـَّـبـضاتِ
فَالنَّبْضَةُ ُ  الأولَى ، ورَهْبَة  وقْـعِـهَــا
قَـدْ ضَاعَ فِي الْمَألُوفِ  مِنْ دَقَّــاتِ
مَنْ ذاك  قدَّر  في  الوجودِ   وجودَها
لـتـكون َ   إيـذانا ً  ببعـثِ   حـياةِ ؟ِ
مـَنْ  ذَاكَ  حَدَّدَ   وَقْعَهَا   وَزَمَـانـهَــا
وَرَهِـيـبَ إيـقَـاع ٍ لـهَـا  وَسِـمَــاتِ؟
لا شَــكَّ  أنَّ   الْكَوْنَ   أصْغَى   كلـُّهُ
لجليل ِ  ما   للقلبِ  مِن   صلواتِ
فــحُـلـولُ رُوح ِ اللهِ  طِينَ  جُسُومِـنَـا
حَدَثٌ عَـظِـيـمُ  الـشّـأن ِ والغَـايَاتِ
خشعتْ   لمقدمها   القلوبُ   فأطلقتْ 
صوتا َ يلازمها   مدى   الأوقاتِ
وكأنها     للرو ح ِ    تعقـدُ    محفلا 
فقراته  إيقاع    ذي   الطلقات ِ
حتى    إذا     بلغ    الزمان    ختامَهُ
بنفاد ِ  ما   للعمر   من    ساعاتِ
صمتَ  الذي  عرس  الحياة ِ دبيبهُ
وسكوتهُ     أنشودة ُ   الأمواتِ
ما  كنتُ  أعلم ُ  أن َّ   وسط   قلوبنا
صفـَّان  مِن   متجاور   الحجرات 
مُلئتْ      دما ً   متدافعا       متدفقا ً
لـتـضخـَّهُ  ضـخّاً   إلى الـقـنواتِ
مَـنْ  ذَاكَ   جَهزَها    وألّـزَمَ  بَـابَهـَا
فـتـْحـاً  وغـلـْقـاً  سَائـِرَ الأوقـَاتِ ؟
مَـا كـُنْـتُ أعْــلَـمُ  أنَّ  وَسْـطَ  قـُلوبنَا
شبكاتُ  سِلكٍ  تصنعُ  النـَّبـضاتِ
يـسـْرِي  بِهـا الـتـّـيّـارُ وِفَـق  تـناوبٍ
وتـوازن ٍفِي الْـوقتِ  والشُّـحْـناتِ
حـتى  رأيـتُ  مُـجـسَّـماتِ  قـلـوبـِـنا
وبجوفها    مُتكَهْرَبُ   الشـَّبـكاتِ
مُـلئتْ  دمـا ً   مُـتـدافـعـا ً  مُـتـدفـقـا ً
لتـضخـَّهُ  ضـخـّا ً إلى  الـقـنواتِ
قـَـدْ عَـلـَّمـتـْنا  الْـكـهْـربـاءُ  بــأنـَّهــا
وَسَـطَ الـرُطوبـةِ تكـْثـِرُ الْـعثـَراتِ
بـَلْ  رُبَّما   انْقطـعتْ وضـلَّتْ  دربَها
فـتصادمتْ  و تحوَّلتْ   صعـقاتِ
لكنها     وسط     القلوبِ    تآلفـتْ
بأوامر ِ  القيوم ِ   ذي    القدراتِ
قـَــدْ  مَـسَّـني يـوْمــاً  تـَعَـثـّرُ  شحنة ٍ
لِـيـسـيـرِ أجـزاءٍ  منَ الـلـَّحـظاتِ
فـرأيْتُ  كُـلَّ  الْكـون ِ خَالـَفَ  سـَيرَهُ
ونـُجُـومَـهُ الْـغَــرّاءَ مـُنـكـد راتِ
وَرأيـْتُ غُـولَ  الْموتِ  نحوي  مقبلا
متسارعا      كتسارع     الدقات
فَـنـُصِحـْت ُ فـوْرا ً أنْ أرَكِّبَ حَارساً
ومُنظــِّـماً    لِوتِيـرةِ  الــنبضـاتِ
ومُـسيِّـلا ً  لِـدمي   كـذا   ومـُـنـشِّـطاً
لـمـسيـرةِ  الأدْمـاءِ   بالـقـَـنـواتِ
وجزعتُ  مِنْ  موتٍ  رأيتهُ  مدركي
ومُهدِّدي  في   يقـظتي  وسُـباتي
وبـِعـدِّ  أنـفـاسي   أحِـسُّ   وقــوعـَـهُ
وبـِعَــدِّ  مـا  للـقـلبِ  مِن نبضاتِ
وَهُـنا الـتـفتـّـتُ  إلى  الـوراء ِ أعُـدُّها
د قـَّاتُ   قـلب ٍ  كـُـن َّ  مُنْتـَظِمَـاتِ
وَ دَ مـا ً  بــهِ   مُتجانساً   مـُتـدفـِّـقــا ً
مَوّا رَ  طولَ   العـمْر ِ  والـسنواتِ
مـنْ كـَانَ يحرسُهُ  ويـضبط ُ  نـبـضهُ
طولَ  السنين ِ وسائـــرَ الأوقــاتِ؟
مَـنْ كـان  يُطـلِق ُ شـُحنة  ، ويشدُّهـا
في  هـائج ِ  التـيـّا رِ  والظـُّـلماتِ؟
مَنْ  كان  يحسِبُ   قـَدْرها ، وزمانها
ومسارها  في  أضيـق ِ الطرُقاتِ؟
مَـنْ  كان  يـضْبـط ُ للدِّمـاءِ  قـَوامَـها
ويُجـيرُها  مِـن  مأزق  الجلـْطاتِ؟
فعَجبْتُ مِنْ صَمْمي  وفاضح ِ غفلتي
عَـنْ  جوقةٍ  عزفتْ  نشيدَ  حياتي
وتنكري    دهراً      لباذخ ِ   نعمة ٍ
  لو أحصيتْ  بلغت حصاةَ   فلاة ِ
أمضيتُ  عمري   آمنا،  وأنا  الذي
أمشي عَلى  شُرُكٍ  مِنَ الشُّحْـناتِ
 وظللتُ    أمرحُ    ناسيا ً    غيلاتهِ
مَــوتٌ  يـَعُـدُّ  الـعـمــرَ باللحظاتِ
مـوتٌ  يـدافـعـنـا   تـجـاهَ   نـهـا يـة ٍ
تـأتي  على   قـَدَر   ودونَ  فـَواتِ


   







ليست هناك تعليقات: