من اللانظام سابقا، إلى اللانظام المركب حاليا، أو نبوءة أوباما!
أثناء مرحلة مخاض
ولادة نظام ما بعد الدكتاتور القذافي، ونحن في غمرة أفراح استقبال المولود الذي
طال انتظاره، والذي استغرقت مرحلته
الجنينية العقود الطوال، رابني كثيرا، بل وأفزعني ذلك التصريح الذي أطلقه أوباما
آنئذ، والذي قال فيه بلسان الواثق من توقعاته، بأن الليبيين تنتظرهم أوقات صعبة!
رابني وأفزعني تصريح أوباما هذا، وذلك لأنني كمعظم
الليبيين كنت من المتفائلين كثيرا بنتائج التغيير مهما كانت وعلى أي وجه تقلبت، هذا
من ناحية، ومن ناحية أخرى صدور هذا التصريح من قبل رئيس دولة عظمى تتزعم بلاده الحملة
ضد الدكتاتور القذافي الذي أثار العالم كله واستفزه بسبب إعلان هذا الدكتاتور الحرب
على شعبه.
كان أقرب تفسير لهذه التصريحات هو بقاء القذافي وأتباعه
محتفظين بموطأ قدم في ساحة الحرب المحلية، وانقسام الليبيين إلى قبائل وفئات
متنازعة متناحرة.
بفضل الله لم يصدق هذا التفسير، ولكن مدخلات عملية
التغيير ومعادلات عملية اجتثاث طاغية مزمن جثم على الليبيين البسطاء ردحا طويلا من
الزمن، فعلت فعلها في مخرجات هذه العملية الخطيرة، وتمكنت من إلحاق عيب خلقي جسيم
في جنين الثورة الذي أرهقه المخاض العسير الطويل، وكذا ولادته الشاقة المرهقة.
الخروج من سرداب الدكتاتورية واللانظام الضيق المظلم إلى
رحابة الحرية وألق شمس الديمقراطية ليس بالأمر الهين، وليس بالحالة العادية.
أجل إن الحالة الليبية الفريدة تلك، وتحول حال الليبيين
الدرامي المفاجئ السريع من أجواء حظيرة القطيع إلى آفاق انعتاق الإرادة، وربما
الانفلات الكامل من كل قيد، لهو بحق عمل حري به أن ينال الصدارة في سجلات الأرقام
القياسية العالمية، بل ربما احتل المركز الأول الذي ليس له ثان.
الذي يهمنا في درامية هذا الحدث وخطورته هو انتقال
الليبيين من حالة اللانظام المزمنة، قوام النظام الجماهيري، إلى حالة اللانظام
المركب الطارئة، والتي نعيشها هذه الأيام بكل تفاصيلها، والتي ربما كانت هي
التفسير المعقول والمقبول لنبوءة أوباما.
وأيا كان تفسير هذه الحالة، إلا أن حالة كهذه جدير بوصفها
بأنها حالة مرضية خطيرة لابد للمصابين بها من أن يمروا بمرحلة حجر سياسي واجتماعي
وربما نفسي، مع تطبيق أشد إجراءات ذلك الحجر الصارمة على هذا الجسم المعتل.
في عتبة حظيرة الحجر المذكورة يتوجب تعرضنا لصعقة قوية
تعمل على إخراج الكثير من الليبيين من غيبوبة المبالغة في الشعور بالنصر على
الدكتاتور، وضرورة شعور كل منا بأننا لم نهزم القذافي في حربه الناعمة على مدى
العقود الأربعة، وكذا في حربه الخشنة على مدى الشهور التسعة، بل إن القذافي هو
الذي هزمنا، وذلك بما ألحقه بنا من تخلف حضاري، وبما كبدنا إياه من خسائر حربه
علينا.
إن دليل تقبلنا لهذه الصعقة، هو قيامنا بردة الفعل
الإيجابي تجاهها، وذلك بقيام كل منا بخلع ما أثقل به صدره من نياشين مزورة،
والتخلص من كل ما غنمه من غنائم معنوية ومادية زقوم.
المؤكد أن كل من يتأثر بهذه الصعقة، وفي يده سلاح خارج
عن سيطرة الدولة، سوف لن يحتفظ بهذا السلاح، وسيقوم برميه على الفور، وذلك لأن
مزيد الاحتفاظ بهذا السلاح هو إمعان في تكريس حالة اللانظام المركب، وتأكيد على
تشربنا روح التسلط المعششة في ثنايا لعلعة الرصاص، وبالتالي تأكيد هزيمتنا في ساحة
الحرب ضد الدكتاتورية.
هذه الصعقة وبما تحويه من كهرباء إيجابية مقومة مرشدة، لابد
أن تعمل أيضا على شل كل يد تقوم بإدخال عصي التسلط والدكتاتورية في دواليب عجلة
القطار الديمقراطي من أجل إبطاء حركته، وربما إخراجه من على سكته.
وبمجرد تجاوزنا لعتبة حظيرة الحجر المذكورة، وتلقينا تلك
الصدمة الإيجابية، ونجاحنا في التعامل معها، نجد أنفسنا أمام حقيقة دامغة واستحقاق
أخلاقي ثقيل تفرضه علينا واقعة اصطفاف الكون كله إلى جانبنا وقيامه بمساعدتنا على
الانفلات من أنياب وحش، التهم في وجبته الأولى من الجسم الليبي الضعيف عشرات آلاف
الأنفس، على أن يقوم في وجبته الرئيسية التي شحذ لها كل سكاكينه بالتهام أضعاف ما
التهمه في وجبة التسخين الأولى.
لا زالت مرايا العالم وعدساته وذاكرة أناسه تستعيد من
حين لآخر وثبة الشعب الليبي على ظالمه، وإنه لمن المخجل حقا أن تستعيد ذاكرة
العالم محتويات تلك المرايا والعدسات وما حفظته لنا من مواقف مشرفة إبان حربنا على
الطاغوت، ثم نفاجئ هذا العالم بالصور الفاضحة من صور اللانظام المركب المخزي التي
نعيشها الآن.
صدقنا الله وعده، وسخر لنا جنده، ولكننا سرعان ما نسينا
ذلك، فغلظت قلوبنا بعد رقة، وامتدت أيدينا بالبطش بعد طول امتدادها بالدعاء، وحل
بيننا شديد البأس بعدما كان بيننا من ود وأنس، وحل محل ذكر الله وتكبيره تهويننا
لجنابه سبحانه وقليل تقديره، ولم يكن كل ذلك ليحصل لولا حالة اللانظام المركب التي
حطم فأسها كل المثل، وأتى معولها على كل القيم.
إن حالة اللانظام المركب التي نعيشها، والتي هي السبب
الوحيد فيما نكابده من أذى وضرر ليست حالة اشتباه وظن، وإنما هي حالة نعيشها بكل تفاصيلها
ودقائقها، وبكل ما تحمله من معنى، وليس أدل على إصابتنا القطعية بها من حادثة تجرؤ
بعض المتظاهرين الشباب على اقتحام صالة انعقاد المؤتمر الوطني، ذؤابة السلطة
الديمقراطية الوليدة وتهديد وتوبيخ أعضائه المنتخبين. كما أن حالة اللانظام هذه
يؤكدها أيضا تسيب هذا المؤتمر نفسه وترك العشرات من أعضائه خنادقهم، وسفرهم في
مهام خارجية نافلة إلى أماكن بعيدة، وذلك في وقت يحتم على كل عضو جعل مقر المؤتمر
بيته الدائم ومحل منامه ويقظته.
النظام أساس العمل.
اللانظام سوس
العمل.
اللانظام المركب
هو السوء الكامل للعمل.
وإذا ساء العمل انقطع الأمل.
محمد عبد
الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق