السبت، يناير 12، 2013

البرلمان الاجتماعي


                            البرلمان الاجتماعي                       
إلى السيدين: رئيس المؤتمر الوطني، ورئيس الحكومة المحترمين.

الموضوع: مقترح بتأسيس "البرلمان الاجتماعي"، رديف البرلمان السياسي.

بساطتي وأميتي الفكرية والسياسية ، وربما تفاؤلي  المفرط، جنحوا بي ، كما جنحوا بالكثيرين أمثالي، وجعلتنا ونحن في ذروة تجرع مرارة جنون الدكتاتور المجروح وردة فعله الهوجاء على مطالبة الشعب له بالتنحي، ننتشي بنغم الديمقراطية الشجي، ونتنفس عبقها من وراء أدخنة البارود المتفجر، رغم ما في هذه الأدخنة من كريه رائحة، وما صاحبها من مرعب صوت.

وفي هذه الأجواء الاستثنائية ولد، وعلى عجل، المجلس الوطني الانتقالي، فما كان له إلا أن يتهجى ألفباء دروس الديمقراطية الغريبة عن ديارنا وأسماعنا وأفهامنا.

ألف هذه الأبجدية هو إعلان تحرر الشعب من غاصبي حريته وكسر قيود استعباده، أما ياؤها فهو انطلاق قاطرة الديمقراطية بما تحمل من برلمان تتجسد فيه إرادة الشعب، وحكومة شرعية ذات سلطة تساوي مسئوليتها، ورئيس منتخب.

أجل فليس أمام المجلس الانتقالي الطري العود إلا أن يصدر إعلانا دستوريا يختزل فيه أبجدية الديمقراطية من ألفها حتى يائها؛ بدءا من الدستور، حتى المجلس التأسيسي، إلى مجلس البرلمان،  وانتهاء بانتخاب رئيس البلاد!

وبانتخاب المؤتمر الوطني، وتشكيل ما أطلق عليه أول حكومة ديمقراطية، تجاوزنا شكلا، وحفظنا تلقينا كل أحرف أبجدية الديمقراطية، وربما استوعبنا بنجاح الدرس التشبيهي لكيفية التحليق الديمقراطي الأول.

في قيادة السيارة وكذلك الطيارة لا يمكن لمن نجح في الامتحان التشبيهي الأول أن يعهد إليه بسياقة حافلة تحمل خمسين شخصا، أو أن يحلق بطائرة تحمل مئات الأشخاص.

بعد زوال قشرة السكرة واستيضاح عمق الفكرة، فوجئنا بأن كل ما فعلناه خلال العام المدمي الأول ولاحقه العام المضني الثاني، قد ترك في النفس بعض الحسرة، وبأنه لا يعدو عن كونه مجرد درس ديمقراطي تشبيهي، وتأكدنا بأنه ليس لدينا من مؤهلات الالتحاق بالنادي الديمقراطي الحديث سوى الأمنيات وحار الدعوات.

كطول هذه المقدمة المزعجة المملة، بل وأطول بكثير، هي المسافة بيننا وبين ما حسبناه نصرا ديمقراطيا حققناه، وإنجازا سياسيا حضاريا أنجزناه. ذلك أن الورقة الانتخابية التي أذهلنا بريقها لا تعني شهادة الكفاءة السياسية للمواطن الذي يحملها، كما أن عدد الأصوات التي أحرزها أعضاء المؤتمر الوطني لا تساوي بالضبط أعداد أثقال وحدات الإرادة لأصحاب هذه الأصوات، وهو أمر يقود مباشرة إلى نتيجة مؤلمة مفادها بأن أعضاء المؤتمر المنتخبين ديمقراطيا لا تسكن أجسامهم الضخمة المتثاقلة روح الديمقراطية، والتي بخلو أي جسم منها فإنه يتحول إلى مجرد دمية عرض بلاستيكية لا تساوي قيمتها معشار قيمة ما تحمل من ثياب.

إن برلمان يقتحمه مسلحون في وضح النهار ويهينون من فيه ويرهبونهم حتى يلتمس هؤلاء النواب المحترمون مخارج جانبية للنجاة بأنفسهم من بطش الذين اقتحموا قاعة البرلمان ومجلس ممثلي الشعب؛ إن برلمان كهذا ما هو إلا منتج ديمقراطي مغشوش فاقد لكل المواصفات المعيارية التي عليها نظيره المنتج الديمقراطي السليم الصحيح.

بيد أن نتيجة امتحان سنة أولى ديمقراطية المفزعة رغم إيلامها الشديد، ليست بأشد إيلاما ولا أكثر وجعا من نتيجة سنة اثنين وأربعين دكتاتورية، كما أن المؤتمر الوطني رغم عيوبه الجسيمة هو أفضل ألف مرة من مؤتمر الشعب العام الذي كان يمارس فيه الدكتاتور لهوه وعبثه  المقززين.

أعلم أن هذه التعزية لن تسلينا، ولا تخلصنا مما نحن فيه من كوابيس اللعبة الديمقراطية الخطيرة، وهي لعبة تتضاعف خطورتها بعدد الأهداف التي يستقبلها مرماها، والتي عند بلوغها الحجم الحرج سوف تتحطم فجأة عوارض المرمى، ويسقط سقف البرلمان على من فيه، لتسقط بعد ذلك البلد كلها لا سمح الله.

اللعبة الديمقراطية الخطيرة انطلقت، ولا يمكن إيقافها، إذ أن إيقافها يعني الانسحاب وإخلاء الميدان للمتربصين الكثيرين بها.

من قراءة التقرير الأخير لحالة جسمنا الديمقراطي المعتل، يمكننا إدراك سبب اعتلال هذا الجسم، ذلك الاعتلال الذي ليس له من سبب سوى ما عليه المؤتمر الوطني، والحكومة من ضعف وهوان إرادة.

وما دام بناؤنا الاجتماعي في صيغته القبلية مما يعول عليه في جمع الصفوف وتجميع القوى وتوجيهها، ألا يكون من المجدي رفد المجلس الوطني المنتخب بمجلس يتشكل أعضاؤه من رؤساء القبائل ووجوهها، ويمكن أن يطلق على هذا المجلس اسم "البرلمان الاجتماعي" تمييزا له عن البرلمان السياسي القائم.

أهل القبيلة أدرى بمن فيها، وأعلم بأحوالهم، وأقدر على توجيههم وإصلاح من فسد منهم، وتعزيز من صلح منهم وتأييده. كما أن تجزئة المشكلة الكبيرة التي يتعامل معها المؤتمر الوطني الحالي، أو البرلمان مستقبلا، أو الحكومة، وجعلها على هيئة مشكلات صغيرة بحجم كل قبيلة من شأنه أن يسهل التعامل مع هذه المشكلة ويسارع في حلها.

أحد أهم أعراض مرض جسمنا السياسي الحالي هو عدم توفر مركب هرمون الثقة في مفاصل هذا الجسم وعضلاته، وهو مركب يعمل عمل المايسترو لتوجيه الوظائف الكثيرة الخطيرة لجسم الدولة الضخم المترهل.

هرمون الثقة هذا سوف يتوفر وبكثرة عندما يجمع القبيلة ورئيسها لقاء محلي قبلي حميمي، تطرح فيه القبيلة كل مشاكلها، ويقوم فيه رئيسها بوضع الحقيقة كاملة أمام أعضاء هذه القبيلة الذين ليس لهم سوى القبول والإذعان.

قرارات المؤتمر الوطني والحكومة تكون أكثر قبولا لدى عموم الناس وأيسر للتنفيذ عند قيام أعضاء البرلمان الاجتماعي كل في المجال القبلي القادم منه بالعمل على تهيئة الناس لها ومنع عنصر المفاجأة من تأثيره السلبي، لا سيما إذا كانت هذه القرارات بها ما لا يروق.

أعضاء البرلمان الاجتماعي القادمون من الإجماع التقليدي التراثي العفوي للقبيلة، وبما يحملون من ثقة أعضاء قبيلتهم، هم الأقدر تعبيرا عن ذات القبيلة ووجدانياتها. وهو حال من شأنه أن يكمل النقص الذي يكتنف عضو المؤتمر أو البرلمان السياسي، والذي تأتي به، كما هو معروف، عمليات الحساب الجامدة لنتائج صناديق الانتخاب.

رب قائل يقول إن هذا البرلمان الاجتماعي الذي تتكلم عنه إن هو إلا نسخة من مؤتمر الشعب العام الذي كان يتكون بآلية التصعيد المتخلفة، وتقذف بأعضائه حمى الصراع القبلي البغيض.

وأقول: إن الفارق بين هذا وذاك جوهري، وذلك بسبب الاختلاف الشاسع بين البيئة الدكتاتورية التي صنعت مؤتمر الشعب العام السابق وحضنته، والبيئة الديمقراطية الحالية. ومن ناحية أخرى فإن البرلمان الاجتماعي المقترح هو حل ملح ومؤقت لمشكلة ضعف إرادة المؤتمر الحالي، ورديف للبرلمان السياسي الذي تشترطه قوانين ومعايير المضمار الديمقراطي، وذلك ريثما يقف برلماننا الديمقراطي الوليد على رجليه ويشتد عوده.

إن تشكيل هذا البرلمان الاجتماعي لن يأخذ كثير وقت، ولن يكلف باهظ أموال، إذ يكفي توجيه الدعوة لكل شيخ قبيلة من قبائل ليبيا، وتحميلهم جميعا مسئولية أمانة ومسئولية المشاركة في دفع قاطرة الديمقراطية، والتي لن تنطلق إلا بعد سيطرة الشيوخ على الصبيان، وغلق الحكماء أفواه السفهاء.

حسنة هذه الفكرة في كونها تبقي على المسار الديمقراطي وفق الخطة الموضوعة، والتي، وبسبب الحالة الطارئة المعروفة التي نعيشها، لا يمكن تنفيذها بدون وضع كبراء القبائل وشيوخها أمام مسئولياتهم تجاه قبائلهم وساكنيها.

الله الموفق.

 محمد عبد الله الشيباني


ليست هناك تعليقات: