من تحزب خان !!
بات من المؤكد بعد عديد الشواهد أن عطشنا
الشديد للديمقراطية أوقعنا في غلطة الارتماء دون تدرج واستعداد في نهرها العميق،
وبالتالي عبَّنا المفاجئ من كأسها المترع المتبرج الفتان.
ولقد أعربت في أكثر من مناسبة عن وجهة نظري تجاه
خطورة تسرعنا بإقامة أجسام حزبية كاملة، والقذف بها في الحلبة الديمقراطية الساخنة؛
حيث كنت أرى ضرورة وجود مرحلة إعداد وتثقيف حزبي، تكون سابقة لمرحلة العمل الحزبي
الكامل الذي يجهله سواد الليبيين، وذلك من أجل إفهامهم آلياته، وجعلهم يتقبلون بروح رياضية نتائجه
ومآلاته.
لم يحدث ذلك، وسارع الليبيون في نهم شديد إلى
خوض غمار المعترك الحزبي الخطير، وكان ما كان من تورط الأحزاب غضة العود في أول تجربة
ديمقراطية تخوضها ليبيا، وهي تشكيل أول برلمان ديمقراطي ليبي كانت الأحزاب المشكلة
على عجل أحد صروحه، وأيضا أحد معاول هدمه، وأبرز أسباب عدم تمكنه من حيازة رضا الشارع
الليبي عنه.
وبسرعة، حمَّل الشارع سلبيات المؤتمر والحكومة
على عاتق الأحزاب، بل جعلها هي السبب وراء إجهاض أول تجربة ديمقراطية ليبية، وذهب البعض
إلى ضرورة إلغاء النشاط الحزبي كله؛ ذلك النشاط الذي يشكل كل من حزب العدالة والبناء، وتحالف القوى الوطنية أغلب
مكونه.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل صرنا نسمع
أصواتا كثيرة تجاهر بالدعوة إلى عدم ترشيح ذوي الانتماءات الحزبية المختلفة، حيث تباشر
هذه الأصوات مهمتها الآن في صورة تنسيقيات
انتخابية تابعة للمجتمع المدني، متبنية وبدون مواربة خطاب الفرز الحزبي والأيديولوجي،
ونقل ذلك إلى العملية الانتخابية القائمة الآن؛ انتخابات المجالس البلدية.
حدثني أحد المنتمين حزبيا، والمرشح لعضوية أحد
المجالس البلدية الجاري الإعداد لها، والمرارة تكاد تسحقه، عن قيام هذه التنسيقيات
الانتخابية المذكورة بالدعوة الصريحة إلى عدم ترشيح المنتمين إلى حزب العدالة والبناء
أو التحالف، واضعة هذين الحزبين جنبا إلى جنب مع المنتمين السابقين لحركة اللجان الثورية
المعروفة!
"من تحزب خان"، هي إحدى مقولات الكتاب
الأخضر المشهورة، ذلك الكتاب الذي اتخذه القذافي دستورا لجماهيريته التي ثار عليها
الشعب الليبي؛ إلا أننا وبعد ثلاث سنين من الثورة على الكتاب الأخضر ومقولاته، ها هي
التنسيقيات المريبة تعود بنا إلى الوراء، وتتبنى هذه المقولة، وتدعو الناخبين إلى مقاطعة
المنتمين حزبيا، ولو كان هؤلاء المنتمين حزبيا من الأبناء الشرعيين لثورة الشعب الليبي
على الدكتاتورية البغيضة.
هذه التنسيقيات تمارس عملها الخطير المجهض للديمقراطية
في غياب أي رقابة أو توجيه من جانب المفوضية العليا للانتخابات، والتي يجب أن تراقب
هذه الأجسام غير المنضبطة، وتحدد مجال عملها، وتراقب توجهاتها، وإلا فإن هذه التنسيقيات
سوف تجهض التجربة الديمقراطية بأكملها، وستنتج لنا مجلسا بلديا، ولاحقا مجلسا برلمانيا
في منتهى السوء والضحالة وخاليا من أية نكهة من نكهات التغيير الديمقراطي الذي أحرزناه.
إن هذا العمل الذي تقوم به هذه التنسيقيات في
هذا الوقت الحرج لا يخدم العملية الانتخابية بحال، بل إنه يفرغها من محتواها من خلال
تزوير إرادة الناخب الذي سوف يجبر على ترك المرشح الأصلح، وذلك لا لشيء إلا لانتماء
هذا المرشح أو ذاك إلى جسم سياسي فرح به وانتمى إليه بحسبانه من ثمار ونواتج عملية
التغيير السياسي المشهود. ثم إن هذا العمل من جانب التنسيقيات سيزيد من حدة تأزم الشارع
واحتقانه، وذلك بدفعه إلى تكريس مناهضة أصحاب الانتماءات الأيديولوجية التي لا تقوم
العملية الديمقراطية إلا على بنائها الفسيفسائي البديع. وفي أجواء كهذه يجد الناخب
نفسه بعيدا عن مهمته الأساسية، وهي مهمة البحث عن المرشح البلدي الكفؤ، لينهمك هذا
الناخب في دوامة البحث عن الميول القلبية والوجدانية للمرشح، وهي ميول يجب أن لا تؤثر
إطلاقا في عملية اختيار شخص ما لأداء وظيفة عمومية معينة.
وإذا ما أرخي العنان لهذه التنسيقيات وأمثالها، فسوف تكبر وتتغول،
وتصبح خلية سرطانية تقوم بصنع أجسام بعيدة عن إيقاع المسار الديمقراطي للمجتمع، وستحتفظ
لنفسها بختم التصديق الوحيد على تنصيب أي مسؤول مستقبلا، بل إنها تصبح بحق صانعة قياصرة.
حقا إن عمل هذه التنسيقيات ليس خطوة إلى الأمام
؛ بل إنه خطوتان إلى الوراء!
محمد عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق