قريبا ستسقط جثة القذافي، فكيف سنواريها؟
شغلنا وحيرنا وأخافنا معمر القذافي، وهو حاكم عسكري جلف قاس المشاعر غليظ الطباع، مغرم بالسلطة إلى درجة الجنون حتى أنه أشهر سلاحه في وجه كل من شك في ولائه لحركته الانقلابية، ولو كان من بين أولئك النفر الذين شاركوه عمله الإنقلابي المريب. كما أرهبنا وأرعبنا وهو يفرض أطروحات وأفكار ألبسها زورا وبهتانا ثوب ثورة انعتاق وحرية الشعوب ليخفي تحتها أحلام الإمبراطور المتسلط المستبد.
وأرهقنا وأضنانا أيضا، وهو يُركِضنا وراء أحلامه الفطرية المريضة المحلقة به في آفاق الوحدة مع كل من يرى في الإتحاد معه مكسبا يقرِّب له حلم سيطرته على العالم، وهو حلم لم يتردد في الإفصاح عنه من خلال نظريته العالمية التي تصور أنها نهاية المطاف لأشكال أنظمة الحكم، والتي سوف تقف البشرية عندها ولن تتجاوزها، وهو ما يعني ضمنا عدم تجاوز صاحب هذه النظرية، واعتباره خاتم الفاتحين والمنقذين والمخلصين، وربما قائدا للعالمين.
وفي ردة فعل بائسة لهزيمته النكراء على جبهة أحلامه الخارجية ومساره الوهمي العالمي الذي لم يتقدم فيه خطوة واحدة، عمد إلى حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أمسك بكل خيوطها، وأخذ يعبث بها ويقلبها دونما الرسو بنا على أي بر، أو إيصالنا إلى أي مرفأ، مستعينا بلجانه الثورية التي راعى في اختيارها مواهبها الخسيسة في السمع والطاعة والانصياع المذل له، ولو أمرها بعمل المستحيل وغير المقبول وغير المعقول.
مسارب صعبة ملتوية ودهاليز ومتاهات خطرة متشعبة أجبرنا الزعيم المريض على عبورها، واستغل ضعفنا وفساد طوية السفهاء منا، ليرمي بهم وبنا وقودا في محرقة العقود الأربعة، وليكتفي القائد المريض بالتفرج علينا ونحن ندفع الثمين من الأعمار والغزير من الدماء والباهظ من الأموال، نظير إشباع نهمه في القيادة إلى حيث لا هدف.
وعندما اكتشفنا، وبعد طول صبر أن قائدنا لم يكن سوى عدونا، وأن لجانه الثورية السفيهة ما هي إلا مفارز وكتائب تأتمر بأمر العقيد، لتفعل بنا ما يريده المَريد، ومكننا الله من إصابته في مقتل، ها هو يحيرنا ويخيفنا ويرعبنا، وهو مذبوحا ويرقص أمامنا رقصته الأخيرة على جماجم ضحاياه، غير آبه بفناء الجميع في مقابل بقائه، مغريا المغرر بهم من قرابين مجده الزائف، بأنه سوف يقوم بتأبينهم أحسن تأبين، وسوف يتصدق على أرواحهم، ويخلفهم في أهليهم، وأنه ليس مطلوبا منهم لينالوا رضاء القائد ومكرماته وعطاياه سوى منح أرواحهم فقط لا غير!.
ليس ثمة شك في أن الدكتاتور المذبوح في آخر رقصاته المأساوية، كما أنه مما لا شك فيه أننا نتأهب للولوج إلى المرحلة الأصعب، وهي مرحلة موت الدكتاتور وسقوط جثته الضخمة الثقيلة المخيفة أمامنا، وتدبير أمر مواراتها ودفنها في رماد جماهيريته اللعينة.
جثة الدكتاتور المُعمِّر ليست ككل الجثت، فهي كما يعلم الجميع ليست جثة إنسان عادي، وإنما هي جثة إنسان نصف إله، أحيا وأمات، ورزق وحرم، وأعز وأذل، وانسحقت أمامه نفوس حتى العبودية، وفتنت به قلوب حتى الذوبان.
جثة الدكتاتور معمر القذافي الذي حكم أكثر من أربعين عاما تحوي صناديق سوداء بعدد السنين الطوال السود التي اختطف فيها هذا القرصان بلادنا، ولابد أن هذه الصناديق السوداء اسما ومضمونا تحمل الكثير من الأسرار التي لا يمكن لنا أن نعبر إلى مرحلة ما بعد القذافي إلا بعد الوقوف على أسرارها العجيبة المريبة.
كيف لنا أن نعبر إلى مرحلة ما بعد القذافي دون تمكننا من فك طلاسم الخلطة السحرية التي صنعها القذافي، وأغرانا ببلعها، فنومتنا مغناطيسيا حتى نرى، ونحن نتقلب في غمارها، تلك المشاهد العجيبة والألعاب البهلوانية المحيرة الكثيرة، والتي منها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قدرته على افتكاك بلاد بأكملها في سويعات قليلة، وقيامه بمحاصرة أكبر قوتين عسكريتين عالميتين، تقيمان على قاعدتين بموجب اتفاق بينهما وبين الدولة الليبية، وتمكن من وضعهما في صناديق، وقذف بهما وأجلاهما خارج البلاد في زمن قصير جدا. وهو مشهد كان عند حدوثه في غاية الإثارة لنا، وهو ما جعلنا نخرج عن بكرة أبينا مصفقين للساحر مجلي الأمريكان والإنجليز، وكذلك الطليان.
كيف لنا أن نعبر إلى مرحلة ما بعد القذافي، ونحن لا نعلم ذلك المركب السحري الذي كان يتعاطاه القذافي فيمنحه القوة الخارقة للتجديف ضد التيار في أي بحر خاض لجته سواء كان ذلك على المستوى المحلي، وما مارسه من تكلف في تقديم كل شيء، بدءا من اسم جماهيريته الغريب ونظامها المريب العجيب، ومرورا بتلك الإجراءات المتكلفة المرهقة لتحقيق أهداف تلك الجماهيرية ذات الأشكال والأطوار الغريبة. والشيء نفسه ينطبق على مغامراته الخارجية التي أحرجت كل من وضع يده في يد هذا المخلوق العجيب.
كيف لنا أن نعبر إلى مرحلة ما بعد القذافي، ونحن في مأمن من وقوع بعضنا في مجال مغناطيسي مشابه لذلك المجال الذي وقع فيه بعضنا، فصاروا عبيدا، ورهن إشارة الحاكم المستبد بعد تغلغل طوق العبودية في أعماق أنفسهم، وصيرهم أدوات فتك وقتل لمواطنين مثلهم، لا لشيء إلا لإرضاء شبق المنوِّمُ المغناطيسي القائد المتسلط النهم الشاذ.
كيف لنا أن نعبر إلى مرحلة الدولة النابضة والتي ستسير بروح الفريق، وفي أنفس بعضنا ميراث كبر، وبقايا عصبية ألبسها القذافي أثواب الاعتزاز بالقبيلة ليفرق فيما بين قبيلة وأخرى، ليضمن بذلك وجود مخزون كاف من جمر العداوة المخبوء تحت شعارات القبيلة حتى يؤججه ساعة ما يريد، كما نراه يفعل الآن.
لا يمكن لنا ونحن نعبر إلى الدولة المتحضرة المتمدنة، وجثة معمر القذافي الكريهة النتنة تنبعث منها رائحة التعصب الأعمى للبداوة، وحرصه على توتير العلاقة بين منتسبي البادية ومنتسبي المدينة، وذلك بتصريحه الفج بمناسبة وبدون مناسبة بأنه بدوي ومن الخيمة. فعل ذلك في البيان الأول لانقلابه، كما لم ينس ذلك في خطابه الناري الأخير.
يحارب القذافي وعصابته المدينة كثقافة وسلوك، وذلك في محاولة منه لإبقاء الليبيين، رغم تمدن وتحضر الكثير منهم، متعصبين للبداوة ومنحازين لثقافتها، والتي تناقض ثقافة المدينة في صور كثيرة منها، ملتقطين بذلك ذلك الطعم السام الذي أدمنت طرحه في كل مكان شعارات القذافي وإرجافاته.
كيف لنا أن نعبر إلى الدولة المتحضرة ولم نقض على ذلك الشعور الكاذب الذي زرعه خبث القذافي في أنفس الكثير منا مستغلا الأصول البدوية لنا، ومرغما إيانا على التشبث بأدوات البداوة، ومعاداة الواجهات المتحضرة للحياة، وهو ما تجلى بوضوح في ذلك الشعار الذي يفخر فيه القذافي المتقلب في رفاه المدينة وبذخها، ببدويته وخيمته وعصاه التي يعترف أنه كسر بها تاج الحكومة الشرعية الرشيدة المنضبطة، وحطم بها قصر الدولة الراقية المتحضرة، وأقام على أنقاض ذلك كله خيمته الجماهيرية الفوضوية المتخلفة البغيضة.
كيف لنا أن نؤسس دولة القانون والنظام ونحن أمضينا السنين الطوال في دولة اللاقانون واللانظام حتى بات الكثير منا يتعثر في مشيته ويضطرب في حركته عندما يمشي في شوارع البلاد التي أنعم الله عليها بالقانون والنظام.
كيف لنا أن نعبر إلى دولة العدالة، ورائحة القتل بدون ذنب، والسجن بدون جريرة، والنفي بدون سبب، لا زالت تنبعث من جثة القذافي الناضحة قتلا، ومن بين أصابعه المصبوغة دما.
كيف يا ترانا سنعوِّد أعيننا على النظر في الجدران وهي خالية من صور الحاكم ومقولاته ونظرياته، ونقنع أعيننا بأن الحاكم مجرد مدير يأتي به قرار ويأخذه قرار، وبأن أي واحد منا له الحق في أن يكون ذلك المدير، والذي لا يحق له تعليق صوره إلا على جدران بيته.
كيف يا ترانا سنحافظ على مقدراتنا الاقتصادية، والكثير منا غرست فيه سياسة هدر المال العام التي كان ينهجها القذافي وأعوانه نزعة عدم الإكتراث بأموال الدولة وأصولها حتى باتت تلك الأصول والممتلكات نهبا لكل من هب ودب.
إن جثة القذافي الخبيثة مملوءة أوراما، ومكتنزة عللا وأسقاما، ولا يمكن لأحد أن يحيط بكل ما يجري في سراديبها الممتدة المظلمة، وهو ما يحتم علينا التعامل معها بأقصى درجات الاهتمام، حماية لنا من انتشار عدواها القاتلة الفتاكة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق