الأربعاء، يوليو 20، 2011

مرة أخرى. لماذا لم يسقط القذافي؟


كرة الطغيان القذافي .. قشرة مستفيدة ظاهرة، وكثرة محشوة خاسرة

حاولت في مقالة سابقة تجدونها بهذه المدونة، بعنوان: لماذا لم يسقط القذافي بعد؟ أن أورد أكثر من مائة عورة من عورات القائد المفضوح، وهي عورات تكفي واحدة منها فقط لإسقاط رئيس ديمقراطي لأي من الدول الثماني الكبار، إذا ما صادف وارتكبها هذا الرئيس.

هناك يسقط الرئيس، إذا لمح أيٌّ من الناس سوأة فيه، تماثل إحدى  السوءات الكثيرة التي نعرفها كلنا عن القذافي، والتي بلغت من التواتر درجة اليقين.

القذافي يرتكب الموبقات المهلكات، ولكنه لم يسقط. تُرى ما هو السبب؟

هذا السؤال يحتمل ثلاث إجابات هي:

ــ  قدرة القذافي الخارقة على تغطية عوراته، رغم عظمها وكثرتها.
ــ وجود القذافي في مجال خارج المدى الحضاري الذي تعمل فيه النواميس الحضارية، والقوانين والمعادلات الاجتماعية والسياسية المعروفة.  
ــ توفر قطع الخرق الرخيصة التي يتستر بها القذافي، ويواري بها عوراته وفضائحه.   

ولنبدأ بما هو طريف، وهو أن يكون للقذافي قدرة خارقة، السحر مثلا.
هذا وارد، وقد أكدته بعض الشواهد التي أثبتت تعامل القائد مع السحر والسحرة. بيد أن السحر، وكما هو معروف، ليس بتلك القوة التي تجعل الأسود أبيض أو العكس، وفي وضح النهار. ولو كان الأمر بهذه السهولة، لاستعمل رؤساء الدول المتقدمة تقنية السحر الخارقة هذه لاتقاء كشف عوراتهم، ولتحاشوا بذلك فضائح كثيرة، يقعون فيها من حين لآخر، والتي يعاقبون عنها سياسيا حتى الاستقالة، وجنائيا حتى السجن المؤبد أو الموت.

أما من حيث وجود القذافي في مجال بعيد عن مجالات الدنيا والناس في جزيرته المنفصلة، ليبيا، فهو حقيقة، وهو أمر دأب القذافي على تأكيده، والتصريح به حتى وهو يغرغر في أيامه الأخيرة هذه، طالبا من الآخرين عدم التدخل، وكأن ليبيا إقطاعية أهداها له أجداده الفاتحون، كما هو يخطط الآن لتوريث أبنائه الذين ينتشرون بكتائبهم في أرجاء ليبيا لتأكيد أحقبتهم في أرض الأجداد.

وربما كانت الإجابة الثالثة، وهي قدرة القذافي على تغطية عوراته، هي الإجابة المعبرة عن الحقيقة المؤسفة. ذلك أن الخِرَق التي يغطي بها القذافي سوأته إنما اقتطعها اللئيم، ترغيبا وترهيبا،  من الكيان المعنوي المقدس لمواطنيه، كرامتهم وشرفهم، وأداته في هذا مكر الليل والنهار الذي دأب عليه القذافي وأتقنه، هو ومن حوله الذين بايعوه على جنة ليبيا، وجهنم الآخرة.

ولكن مهلا. ها أنا ذا المواطن البسيط لم يثنني مكر القذافي الليلي والنهاري ولؤمه عن رؤية عوراته، والتي ظهرت لي واضحة منذ سنوات طويلة مضت، وحدثت بها من هم حولي، فوجدت الكثير منهم، رأى الذي رأيت من عورات ظاهرات، وحدَّث بالذي رأى كما حدثت، ولكن بدل أن يسقط القائد، حدث العكس، وأخذ القائد يتشامخ ويتعالى ويخلع على نفسه الأسماء والألقاب العظيمة التي تعني المعنى المعاكس تماما لما هو عليه من صور حقيقية نراه بها.

وبرغم انغمار القائد حتى أنفه في مستنقع الفضائح والعورات والسوءات العقود الطوال، غير أنه لم يعاقب من قبل المتضرر الأول، وهو شعبه، قبل انتفاضة فبراير، لا سياسيا ولا جنائيا. وحتى بعد هذه الانتفاضة المتأخرة، لا زال القائد يتعرى ويعرض سواءاته وعوراته الفاضحة على الملأ دون اكثرات.

لم يعد هناك شيء، في العالم الذي نشاهد، يمنع القذافي من السقوط، سوى ما يتكأ عليه القذافي المتهاوي في مستنقعه من أدران وطحالب، والذين في مجملهم ممن يستملحون القبيح، بمقابل وبدون مقابل.

حقا. إنها جريمة كبرى أن يستحسن المرء ما يُجمع الآخرون على استنكاره. غير أن الجريمة الأكبر منها، هو أن ينتهز حاكم ما براءة وبساطة وحاجة من يحكم؛ فيغريهم، أو يجبرهم، ولدرجة تجعلهم  يستملحون السيئ القبيح، ويستقبحون الحسن المليح. وهي جريمة وقعت بالفعل في ليبيا، ودليل وقوعها هو وجود ضحاياها المتناثرة أشلاؤهم تحت أقدام ولي أمرهم السفيه.

وحيث أن أكثر المتهمين شبهة بارتكاب جريمة ما، هو أكثرهم استفادة من وقوعها، فليس هناك من شك في أن القذافي هو المستفيد الأكبر من تجهيل الليبيين والتغرير بهم، وهو عمل خبيث قديم يطوره القذافي ويقوم باستثماره في هذه المحنة التي يمر بها الليبيون. وهذه بحق أكبرعورات القذافي، بل هي أم عوراته. ذلك أن تسخير كل إمكانيات الدولة لإغواء الناس، وشراء ذممهم، ترغيبا أو ترهيبا، ولدرجة تجعلهم يرون الأسود أبيض، والخير شرا، والقذافي الأخرق السفيه، ولي أمر رشيد، لا يحق الخروج عليه ورده عن غيه، لهي حقا جريمة العصر.   

ولكن هل حقا فعل القذافي هذه الجريمة الشنعاء، وحاول استمالة الناس، وترغيبهم وترهيبهم لمقاتلة بعضهم بعضا؟

أجل. بل إن هذا العمل الخبيث كان ديدن القذافي منذ اغتصابه السلطة، وكنا لبعض سذاجتنا نري بساطة القذافي في سنوات حكمه الأولى، وزيارته للطلبة، مثلا، في كلياتهم، وحتى في أمكنة إقامتهم، تواضعا منه، وتقربا إلى رعيته، ووقع هذا في قلوب بعضنا موقعا حسنا.

طلبة بسطاء جدا، أعرفهم بالاسم، في السنوات الأولى من الجامعة، في أوائل السبعينات، تفاجئوا بطلب القذافي شخصيا للاجتماع به، حيث سألهم أسئلة تعجبوا منها في حينه، من مثل ماذا تعرف عن فلان وعلان من زملائهم الآخرين. وبهذه الطريقة تمكن القذافي مبكرا من استمالة بعض الطلبة حتى أصبحوا من خلصائه. ثم دأب على هذا النحو في جمع المؤيدين له، مع إجراء ما يلزم من تطويرات على أساليبه وفق ما تقتضيه ظروف كل مرحلة من مراحل حكمه الطويلة، والتي ربما آخرها هذه المرحلة، والتي، ورغم امتداد الدهر وشيخوخة القائد، لم ينس القذافي خلالها قديم وخبيث عاداته في جمع المؤيدين المغفلين، وإن استبدل التقنية القديمة بأخرى جديدة، من مثل الانتماء القبلي، والصمود في وجه الصليب، والتعفف عن خيانة الحاكم، وغير ذلك.

خلاصة القول أن ما فعله القذافي من إغواء للناس، هو الذي ساعده فيما مضى، ويساعده الآن على إخفاء عوراته الكثيرة القبيحة.

ولعله من المضحك المبكي أن القليل جدا من تلك الكثرة المؤيدة هم من دفع لهم القذافي مقابل موقفهم، وهم الذين يحملون الآن رتبة قواد مضلل، ونرى عينة منهم في أجهزة إعلام القذافي، بينما الكثرة الكاثرة هم مجرد ضحايا عدوى تفشي مرض الموالاة الغبية، وبدون مقابل، رغم ما يدفعونه من عزيز كرامتهم، وثمين أوقاتهم، وأحيانا يخسرون دينهم وأرواحهم.

إن هذه القلة المتورطة هي قشرة كرة الطغيان القذافي، هم أنفسهم الذين لم يتورعوا يوما عن فعل أقبح القبائح وأكبر الكبائر، قتل النفس البريئة مثلا، وهم الذين لا يمكن إزالة الورم القذافي دون كشطهم معه.     

أما حشو هذه الكرة، فهم شريحة الإمعات الأكثر عددا والأكثر خسارة، وهي نفسها تلك الطائفة التي كانت تتسابق طيلة السنوات الماضية في الخروج في مسيرات دأب على تنظيمها القذافي، كما أنها هي نفسها التي كانت تواظب، وبدون إلزام ملحوظ، على حضور المؤتمرات الشعبية الهزلية. وهي نفسها التي تتملق الثوريين وأزلام النظام، وبدون تحرج، برغم ما يعرفون عنهم من أعمال مشينة وسمعة سيئة. وهي طائفة من طوائف المجتمع تفرزها الحالة الثقافية وتحدد درجتها.

  محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com



ليست هناك تعليقات: