الأحد، يوليو 03، 2011

رسالة لم تصل، فحصل الذي حصل

إلى الثوريين الشيوخ   

الذي أعرفه أن وهدة الشيخوخة تبدأ دركاتها عند سن الخمسين، مهدهدة أصحابها على بقايا إيقاعات سن الشباب التي أدبرت إلى غير رجعة، وساحبة إياهم برفق مريب، وبمكر لا يخفى على أريب،  على مدى عشرة الخمسين السريعة، قاذفة بهم، أي الشيخوخة، نحو محطتي الفرز الأخير الستين والسبعين اللتين لا ينجو من شركهما إلا من قدِّر له أن يعمر ليُنكَّس في الخلق .
 
ليس فيما قلت من جديد سوى التذكير والتأكيد  على أن إرهاصات رحلة النفس والجسد نحو المصير المحتوم، " المغادرة"، تبدأ في سن الخمسين.

كما أنني أعرف أيضا أن إخوتنا الثوريين المعتلين كل المناصب الهامة في دولتنا الليبية جميعهم شيوخ، ومنحدرين مثلي صوب  تلك الوهدة، وهدة الشيخوخة البغيضة المؤدية مباشرة نحو بوابة المغادرة ذات الاتجاه الواحد.  

إن مجرد كلمة مغادرة، باستعمالها السائر البسيط، تلقي في نفسي، أنا الخمسيني مثلكم، معاشر الثوريين الشيوخ، مشاعر الخوف والحذر والترقب وتوقع الأسوأ. حفظ الله الجميع.

ما شرعت مرة في رحلة مغادرة، ولو من بيتي إلى مقر عملي القريب، إلا وتراءت أمامي أصناف التوقعات الملونة بكل ألوان الخوف مما تفاجئ به الدروب عابريها.

لست هنا بصدد إلقاء موعظة عن حالة المغادرة بصورها المتعددة المعروفة، والتي قد تكون كالرحلة القصيرة التي ذكرت، أو كتلك الرحلة الرهيبة البعيدة القريبة، والتي تجبر فيها الروح على النفاذ من أقطار السماوات، ويجبر الجسد على النفاذ مفتتا خلال أطباق الثرى.

أقول إنني لست بواعظ ومبين لأمر ظاهر كالشمس كأمر النهاية المحتومة، الموت، الذي يتهدد الجميع، ذلك لأنني مهما وعظت ووعظ غيري، فإن تلك المواعظ لن تكون أبلغ وأشد وقعا من غيبوبة سكر، أو ضغط دم، أو اضطراب دقات قلب، أو بوادر فشل كلوي، أو قصور رئوي أو كبدي. والذي لابد أن معظمكم وهو في هذه السن، سن الشيخوخة،  قد عانى من كل هذه الحالات أو بعضها،  والتي ما هي إلا بروفات سكرات الموت المعلنة عن حلول رحلة المغادرة الأخيرة المشهودة الكبرى.

جربت بعض بروفات الموت تلك، وتسآلت،  وأنا أعالجها بواهن وخافت أناتي وزفراتي، وهي تعالجني بأشد ما لها من نوبات، كيف لا يكون لبعض الشيوخ أمثالي، والحاكمون المسيطرون منهم على وجه الخصوص، والذين لا بد أن معظمهم قد عانى من الذي عانيت، كيف لا يكون لهم من وقفة أمام هذه البروفات لتلكم السكرات.      

إن الوقفة التي أعنيها وأنشدها، بل وأنصح بها كل من هم في هذه السن، سن الشيخوخة، وعلى الأخص الذين ابتلوا بأعباء وظيفة عامة حملوها السنين الطوال كتلك الوظائف الكبيرة الخطيرة التي نعرفها، والتي ليس هناك من شك في اقتصار معظمها على فئة الثوريين، إخواننا في الوطن والعرق والدين، هي كتلك الوقفة التي يقفها ذلك الملك الطاعن في السن، والعالق في قاع وهدة الشيخوخة،  وهو ينظر بشفقة وحسرة وألم إلى ابنه الوحيد المعاق الذي لا يستطيع بسبب إعاقته أن يستفيد من إرث أبيه، وأن يشغل مكانه إذا خلا.

أجل أنتم أيها الثوريون الشيوخ آباؤنا وملوكنا، ونحن أبناؤكم القصر المعاقون الضعفاء، وما ترونه علينا من إعاقة وقصور فكري وسياسي أنتم من سببتموه لنا، وذلك عندما حرمتمونا فرصة التدريب على إدارة شئون دولتنا وتسييرها، واحتفظتم بشفرة مفاتيحها لديكم.

أنتم الذين ، وبدافع حرصكم علينا، منعتمونا من مجرد بروفات بسيطة نجرب بها كيفية الجلوس على تلك الكراسي الباذخة، وإدارة، ولو على سبيل التجربة وإشباع الفضول الفطري البريء، مقود الحكم والسيطرة الذهبي العملاق الملتصق بأيديكم  بلحام وغراء قوي لا يزيله سوى ماء غسلكم الأخير، ورائحة حنوطكم، وأصوات النائحات عليكم.

 أنتم الذين أجبرتمونا على التفكير في اتجاه واحد وبطريقة واحدة سببت لنا شللا فكريا دائما وإعاقة سياسية قائمة.

نحن الذين لم نحظ منكم بجلسة رومانسية حالمة، نتمكن خلالها من رؤية جفونكم تتحرك بوتيرتها المطمئنة الوادعة المعتادة،  كاسرة بهذه الحركة وتيرة تلك التفنيصة البغيضة التي أدمنتم، واعدين إيانا وعد الرجال الثوريين الديمقراطيين الأوفياء باشتراكنا جميعا في حكم الوطن الذي حرمتمونا شرف وأجر حراسته والمرابطة عل ثغوره الحقيقية، كراسي السلطة وغرف السيطرة والتحكم والقيادة، لا حراسة المدارس، ومفترقات الطرق الخالية، وربما المقابر المهجورة.

نحن الذين سمرتمونا على تلكم الكراسي الخشنة الباردة في قاعات المؤتمرات الشعبية المجذبة، وقلتم لنا هذه هي كراسي الحكم وقاعات السيطرة وجنة الخلود الأرضي، فأجبنا الدعوة، وتجمهرنا، ودفع بعضنا بعضا، وسقط منا البعض تحت أقدام البعض، مرة بحجة التصعيد، ومرة أخرى بحجة الصراع السلمي على السلطة، وثالثة بحجة العنف الثوري. ومن بقي منا بقي متيبسا مستندا على كراسي الحكم المزيفة، لم يوقظه إلا دبيب دابة الأرض تأكل أرجل تلك الكراسي المتداعية، والتي نخرها سوس التسويف وصدأ الانتظار، فهوت وهوى من عليها، عضو المؤتمر الشعبي الأساسي البائس المسكين، وفي يده بطاقة عضويته التي لا تؤهله إلا للتجنيد الإلزامي ، أو الحصول على فتات الجمعيات الاستهلاكية، وبقيتم أنتم ملوكا متوجين على كراسي الحكم الذهبية الحقيقية، وبأيديكم البطاقات المصرفية متعددة الأصناف والألوان، منعمين في فردوسكم الأرضي الحقيقي الخالد. اللهم لا حسد.

أي معنى للديمقراطية مهما كان نوعها في بلد يبقى فيه الوزير وزيرا ما بقى الليل والنهار.

أي معنى للديمقراطية في ظل وصاية فكرية وسياسية ونظرة أحادية ترى في مخالفها الفكري عدو وجودها.

لا معنى لسلطة الشعب ولا مذاق لعسلها اللذيذ وهو يلقم بعنف وإكراه في أفواه من أجبروا على ابتلاعه ولو لم يستسيغوه.

ليس هناك أي دليل على وجود ديمقراطية ما ظل دليل الاستحواذ على الكرسي والمنصب قائما معربدا متجاهلا أبسط صيغ الديمقراطية، ألا وهي صيغة التعدد والتنوع وتداول السلطة بدون قيد أو شرط.   

أسوق لكم مثلا بسيطا على هذه الظاهرة الكبيرة الخطيرة، الاستحواذ. في مؤسستي الصغيرة التي أعمل بها، والتي قاربت على التقاعد منها، لم يظفر بالكرسي الأول فيها والكراسي المجاورة له، إلا أولئك الحاصلين على البراءة الثورية، في صيغتها الأصلية أو المزورة. وهي براءة لم تمكنني مواهبي من اقتناء نسختها الأصلية، كما لم يسمح لي ضميري بسرقة نسختها المزورة تلك، وادعاء ما ليس لي. فلم أتمكن تبعا لذلك من الحصول على أي وظيفة قيادية بهذه المؤسسة طول عمري الوظيفي في هذه المؤسسة التي أعمل بها، والتي هي الصورة المصغرة لمؤسستنا الكبرى ، ليبيا التي تقودها قلة وتملكها شلة.

دعونا الآن من تلاوم الشيوخ، ولنعمل جميعنا، نحن الشيوخ، والثوريين الملوك منهم على وجه الخصوص، والذين لابد إنهم يسمعون مثلي جرس نداء المغادرة يصلصل في أسماعهم. لنبدأ جميعا عمل ما هو أهم، ألا وهو كتابة وصيتنا الواجبة شرعا كما تعلمون، والتي لابد أن تتضمن، بعد إثبات ما لنا وما علينا طرف الآخرين، النصيحة لأولئك النشء المقتدين بنا، الناظرين إلينا، المصغين لنا، معلمين إياهم فيها بما يجب عليهم فعله من بعدنا. وأي شيء يا ترى يمكن أن نوصيهم بفعله من  بعد مغادرتنا  الوشيكة هذه أهم وأخطر من كيفية حكم بلدهم؟.

لابد أنكم ستوصونهم بنظام حكم سلطة الشعب الذي لا سلطة لسواه. أوافقكم على ذلك، ولكن بشرط واحد وهو: أن تصدقوا مع سلطة الشعب، ولو في  هذه المرة الأخيرة. اصدقوا مع مضمون وصيتكم، وتخلوا عن السلطة المتشبثون بها والمستحوذون عليها، وسلموها مع وثيقة الوصية المذكورة للشعب .

لا أستبعد قبول الكثير منكم  كل أو بعض ما قلت، كما لا أستبعد بأن معظمكم يسمع صدى صوتي هذا مترددا في ساحة الوطن ستة ملايين مرة بعدد ضمير كل حي، ولا أستبعد كذلك أن ما يمنعكم من إبرام هذه الوصية والتخلي عن مناصبكم وكراسيكم العتيقة إلا الصيغة الإجرائية لاستقالة جماعية مزلزلة كهذه، وما يمكن أن تحدثه من ضرر على الدولة وعلى النظام.

أقدر فيكم هذا الشعور النبيل، ولكنني أريد أن أذكركم بما تعلمون. أذكركم بحدث يتكرر كل أربع سنوات هناك لدى أعظم دول العالم، أمريكا، وذلك عندما يأمر الشعب الأمريكي كامل الحكومة بالمغادرة وإخلاء أماكن الحكم وكراسيه فيسمع حكام الأرض، الوزراء الأمريكان، النداء ويطيعون وجميعهم يغادرون، وتبقى أمريكا الدولة، ويبقى النظام. وكذلك تفعل جارتنا مالطا الصخرة العالقة في بحرنا الكبير الذي نتكئ على ذراعه الطويل مطمئنين !!!.

لا تخافون عليكم منا، فنحن بتخليكم عن كراسيكم سوف نكون أكثر قربا منكم، وأوفر ثقة بكم، وأعظم حبا لكم. أجل إن استقلتم سنكبر فيكم ذلك التصرف الثوري  الحقيقي  الشهم النبيل،  وسنحبكم أكثر.

لا تخافون على النظام، فالنظام حيويته في حركته، وموته في ركوده وتكلسه. أجل سينتعش النظام بإزالة الجلطات الراكدة في عروقه  التي سببها تسمركم  في مكان واحد من تلك العروق مانعين سريان أي دماء جديدة بها.

لا تخافون على الدولة، والتي لم تعد دولة، وذلك لما آل إليه حالها بتسبب تشبثكم بكراسيكم. سوف تكون الدولة بألف خير عندما تحمل على عواتق الكثرة الكاثرة بدل  حملها على عواتق القلة الخائرة.

وأخيرا أريد أن أطمئنكم، أيها الثوريون الحاكمون الشيوخ، وأعلمكم وأقسم لكم بأغلظ الأيمان بأنه ليس لي، ولا  للكثيرين أمثالي الداعين بمثل دعوتي هذه، أي  طمع في كرسي أحدكم الذي سيتخلى عنه، وإنما طمعي هذا لا يتعدى أن تتيح لي دعوة كهذه مجرد  جرعة من عزة نفس، وأمن سرب، ينزعان من ذاكرتي ذل السنين، ووحشة الوطن وغربته، وكل ذلك لا يتأتى إلا عندما أرى الحكام مجرد مدراء يديرون شأن الوطن بالدستور والقوانين، وأرى النظام الحاكم مجرد شركة تشغيل سياسي للدولة تؤدي مهمتها وفق عقد بينها وبين صاحب العمل الذي له الخيار الكامل في تجديد هذا العقد أو إلغائه.

لم لا فليس ذلك على الله ببعيد.


محمد عبد الله الشيباني

ليست هناك تعليقات: