أنا، واولادي، واحفادي، وبس.
في بداية الثمانينات، بلغ أبناء القائد سن الصبا، وبدأت صور العائلة السامية تأخذ طريقها إلى وسائل الإعلام، التلفزيون أهمها، تدشينا فيما يبدو للألبوم الذهبي للعائلة الامبراطورية الصاعدة.
وفي ذات ليلة من ليالي الثمانينات الكئيبة، وأنا أتناول وجبتي الإعلامية القسرية، عبر تلفزيون الجماهيرية، ظهرت صورة القائد الدكتاتور الشاب، وهو يحتضن صبيته الأمراء، متعمدا إظهار حنانه الأبوي الدافق تجاه عائلته الصغيرة، وذلك كما يفعل نظراؤه من رؤساء الدول الديمقراطية، والذين يحاولون دائما أن يظهروا لناخبيهم مدى رومانسيتهم، وصفاء ورقة قلوبهم، وانسجامهم الاجتماعي، ووئامهم العائلي، وذلك كسبا لثقة أولئك الناخبين.
"إحنى عيلة وهذا بونا". كم كانت هذه الأغنية متوافقة ومنسجمة مع المشهد الذي ذكرت، مشهد عش القائد وعائلته، وإني لأجزم حصول القائد على كل أصوات الليبيين، لو قام مدير حملته الانتخابية بجعل هذا الكليب البديع في مقدمة البرنامج الإعلامي للرئيس الشاب، لولا أن القائد وجد البرنامج الدكتاتوري الجماهيري البديع، أجدى بكثير من البرنامج الانتخابي المرهق العسير.
حقيقة الأمر أن الحالة التي كنت عليها تلك الليلة من ليالي الليبيين السوداء في بداية الثمانينات كانت مخالفة تماما لما تلقيه صورة القائد وعائلته من أنس وود وانسجام، حتى وإن قام المخرج باستدعاء تلك الأغنية التي ذكرت من حجب الغيب، وجعلها خلفية لتلك الصورة المؤنسة.
في تلك الأيام الثمانينية المشئومة، كانت أخبار تجنيد الصبية والشباب، وهم في مراحل تعليمهم الإعدادي والثانوي والجامعي قسرا، والزج بهم في معسكرات تقذف بهم، في أحيان كثيرة، ومباشرة إلى جبهة حرب حقيقية، تشاد مثلا، أخبارا متواترة جدا. كما كانت حكايات اعتقال الصبية والشباب، صبية وشباب الليبيين العاديين، والتحقيق المرعب معهم في دهاليز أجهزة الخوف، ومن تم اختفاء الكثير منهم، حتى يصدم أهليهم ومعارفهم ذلك الكليب التثقيفي التحذيري المرعب الذي يتضمن مشاهد جثت أبنائهم، وهي تتأرجح على خشبة مشنقة، في عرس ثوري بهيج، أقامه مريدو القائد له، لعلمهم أن القائد يحب ذلك المشهد ويعشقه ويعشق إظهاره للشعب الذي يحكم، تماما كما يعشق تلك الجلسة الرومانسية الحالمة مع أفراد عائلته الملكية، ويعشق إظهارها لبني شعبه.
خطر عليَّ استدعاء هاتين الصورتين، بعد ما سمعت كما سمع الكثيرون عن أخبار قبول القائد بالخروج معززا مكرما، وهو يصطحب معه زوجته وأنجاله وأحفاده، و.......؟. لا. وبس.
أجل. أنا وأولادي، وأحفادي، وبس.
غير أن هذا الخبر مجرد خبر إعلامي، لا يمكن الوثوق به، إلا بدليل.
ليس لدي دليل، سوى الصورتين اللتين عرضت، برغم ما يوجد عليهما من آثار الزمن.
تُرى هل يعلم أولئك الصبية والشباب، الذين يرددون الشعار العار، معمر وبس، أن معمر هذا لا يعدو كونه دكتاتور متسلط لأكثر من أربعة عقود، وأن أرشيفه المخزي يحوي، ضمن ما يحوي من صور مرعبة كثيرة، الصورتين اللتين ذكرت.
وهل يا تُرى يعلم أولئك الكهول، وربما الشيوخ الذين لا زالوا بجوار القائد القاتل، بأن مجرد وقوفهم هناك بجوار قائدهم، هو بمثابة طُعم الموت لأولئك الصبية والشباب الغافلين، والذين لم يشاهدوا، كما شاهد الكبار، صور الثمانينات والتسعينات، بو سليم مثلا، والمعبرة أصدق تعبير عن التاريخ الإجرامي للقائد السفاح.
العجيب في الأمر أن القائد لا يخفي حقيقته المرعبة.
كيف؟
بكل جرأة قال لمن حوله، في خطابه الأخير، أنه لا يعنيه انشقاق من ينشق، فعنده في الحظيرة بدل السفير ألف، وبدل الوزير ألف!!!
أجل. هكذا وبدون مواربة.
تُرى كم يتكدس في حظائر العقيد الكثيرة، من أولئك الصبية والشباب المساكين، وكم يا تُرى يمكنه أن يستبدل المفقود منهم بغيره.
لو أجاب العقيد لأتى بعدد أكبر من الأول، الواحد بعشرة آلاف مثلا.
مساكين أولئك الصبية والشباب المغرر بهم، والذين ولكثرة ترديدهم لكلمتي معمر وبس، فإنهم قد يموتون في جبهات الشوارع، أو جبهات الحرب ، وهم يرددون هذه الشهادة الآثمة، معمر وبس، بدل ترديدهم شهادة الإسلام.
أنا، وأولادي، وأحفادي، وبس.
أجزم أن معمر الذي أعرفه يقولها ويعنيها.
فهل من مدكر؟
محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق