الاثنين، أغسطس 15، 2011

واضرب لهم مثلا رجلين


:

عبد الرحمن شلقم

و

البغدادي المحمودي


استعمل القذافي الرجلين، كما استعمل الكثيرين غيرهم، وذلك بعدما أخضعهما لاختبارات قاسية، تحصلا بموجبها على لقب سوبر أمين، وهو رتبة من الرتب الرفيعة المعدودة المحدودة. ذلك أن الأمناء، وخاصة السوبر منهم، في فقه سياسة الخيمة، ورغم أنهم يقومون بمهامهم المعروفة كوزراء ومدراء شركات وأجهزة  وهيئات ومثابات وغيرها، إلا أن مهمتهم الأولى هي قيامهم بمهام مجلس أمناء الخيمة، وهو المجلس المسئول مسئولية مباشرة على تأمين بقاء الجماهيرية وقائدها الرمز المقدس،  وإلى الأبد.

وفي سبيل قيام هذه النخبة بهذه المهمة الخطيرة، والمضادة لكل نواميس الكون وقوانينه، يتحتم على كل الأعراف والقوانين السائدة مهما علا قدرها أن تكون طيعة في أيدي رجال هذه النخبة، بحيث يشكلونها وفق ما تقتضيه مهمتهم كأمناء، ولو كانت هذه القوانين تتعلق بأشياء كبيرة الشأن عظيمة المنزلة شديدة الحرمة كحرمة الدم والعرض والمال.

وحتى يقضي رب الخيمة ووثنها، القذافي، على كل ما يعيق مجلس أمناء الخيمة من معوقات، فقد قام بتقدم صفوفهم في مراحل إعدادهم الأولى، وذلك لكسر كل حواجز الخوف والتردد الكامنة في النفس البشرية، واطمأن بنفسه على مدى قدرة هؤلاء الصفوة المختارة على عمل أي شيء مهما عظم خطره واشتد بأسه.

أجل تقدم القذافي سدنة معبده ومريديه الثوريين في ورش العمل وميادين العنف الثوري، والتي تستمد جميعها شرعية ما يرتكب فيها من موبقات من شرعية الثورة لا من سواها، كما حرص وبكل الوسائل على أن يخترق مشاعرهم ويسيطر على عقولهم، بل والذهاب بعيدا حيث الفطرة والجبلة المكنونة في أعماق الذات البشرية والمختوم عليها بشفرة سرية. ويعتبر كشف هذه الشفرة والعبث بها من قبل آخرين، بمثابة هدم آخر حصن من حصون النفس المسئولة المكلفة، والسيطرة على مقود إرادتها.

ولابد لإتمام مهمة خطيرة كمهمة انتهاك حرمة النفس واقتياد إرادتها والسيطرة عليها، عمد القذافي إلى استخدام وسائل التلبيس الإبليسية المعروفة، حيث دأب على تلبيس بوائقه، تارة بكونه أسطورة ثورية أنجبها رحم عالم الخوارق والمعجزات، وتارة أخرى باعتباره رسول تحرير البشرية وهاديها إلى الطريق الثالث والأخير في رحلتها الطويلة، وتارة ثالثة باعتباره مفكرا وحكيما يندر أن يجود الزمان بمثله، وغير ذلك من تلبيسات طاغوتية معروفة.

باستثناء بعض الانشقاقات القديمة في مجلس الانقلاب، لم يتعرض رب الخيمة، القذافي، إلى أية منغصات من شأنها أن تذهب نشوته الإبليسية التي يمنحها له كأس إغواء الناس والسيطرة على إرادتهم، ولدرجة جعلهم يرون الأسود أبيض، والظلم عدل، والقتل قربان، واستعباد الناس تخليصا لهم، وغير ذلك من المتناقضات العجيبة الغريبة التي لا يقع فيها إلا من وقع في براثن شيطان الجماهيرية العظمى وتلبيساته!     

قضى شلقم الكثير من وقت التأهيل، وخاض ما يكفي من الاختبارات، وتأكد لدى القذافي خلو شلقم من جميع الخلايا الحية الرشيدة المشاكسة، والتي قد تنتفض وبشكل مفاجئ، استجابة لمؤثر غير محسوب، وهو مؤثر يقوم وبمجرد حدوثه بانتشال صاحبه، وبطريقة درامية، من براثن المشعوذ ودهاليزه المظلمة القمئة، ويقذف به بعيدا جدا حيث ألق الحقيقة المجلي للبصر والبصيرة، والمنعش للعقل والذاكرة، والمطهر للذات والبدن.

وبهاتين الأداتين الفعالتين؛ أداة الإقتداء بالقائد الأسطورة في ورش وساحات العمل الثوري، وأداة تلبيسات القائد الشيطانية المتقنة في إغواء النفوس والعبث بشفرة مكنوناتها، تم تنفيذ أكبر عملية خطف واغتصاب لكائنات آدمية عاقلة سوية، وتحويلها إلى كائئات أخرى "بشرإبليسية" روبوتية، يتم التحكم فيها من غرفة التحكم  الرئيسية المخبوءة في زاوية بعيدة من دماغ الدكتاتور الشيطان.

ولأن الله صاحب الملك يغار على ملكه، ولا يتركه نهبا لكل من هب ودب، ولأن الإمهال المقدر للقذافي بلغ نهايته، أرسل الله رياح التغيير ذات الشحنتين؛ شحنة ساحقة ماحقة لقطع رؤوس الشياطين وأعوانهم، وشحنة أخرى منجية عاتقة، تأخذ برفق بيد الضحايا وتنتشلهم من براثن المسخ والاستعباد، وتضعهم على عروش المجد والتحرر والانعتاق.

ولعل من بعض أسباب وإرهاصات نجاة وتحرر شلقم من قيود الخيمة وأحابيل وثنها، هو مكوثه مدة لا بأس بها بعيدا عن الخيمة ومجال سيطرتها، وفي مكان  توفرت فيه شحنة كافية من ضوء بصر وبصيرة، أفلحت في إنعاش قلب وعين عضو مجلس أمناء الخيمة، شلقم.

كل ذلك كان يحدث في كف الغيب وحجبه لتهيئة المكان والزمان لذلك الحدث الأعجوبة، والذي تم في سويعاته القليلة نقض ودك حصون طاغية كرس عمره لتلافي حدث مثل هذا الحدث الكبير الشهير: فضيحة الطاغية على رؤوس الأشهاد.

وشهد شاهد من أهلها، لا بل صرخ فاضح من أهلها، حيث بؤرة إبصار وسمع أهل الأرض جميعهم، وظل يشرح على طاولة مجلس الأمن الدولي، وباستخدام مشرط الباب السابع الذي مزق حده القانوني الحاد جدا جثة الطاغية المفضوح وهشم عظامه وبعثر نخاعه، تماما كما يفعل هو بصدور مواطنيه العزل وبجماجمهم، فالجزاء من جنس العمل عدل وأي عدل.

تابع العالم كله ما حدث من أشياء عجيبة إبان وقوع المناطق المنتفضة من ليبيا بين فكي التمساح الجائع، القذافي، وكيف عزفت أصابع القدر بإبداع خارق على أوتار الأحداث، فأسمعت العالم أجمع لحنا إلهيا لأبدع سيمفونية إنقاذ إلهي لشعب يريد أن يحكم نفسه بنفسه، واجتثاث إلهي أيضا لحاكم متسلط يريد أن يحكم هذا الشعب أو يقتله.

كل ما يهمنا من هذا المشهد، ونحن نضرب مثلا لرجل من رجال هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها بلادنا، هو يقظة ضمير هذا الرجل، عبد الرحمن، وانتداب القدر له، ولنائبه الأستاذ ابراهيم الدباشي، وكذا السفير علي الأوجلي، وذلك من اجل القيام بأكبر عملية استنقاذ من نوعها عرفها العالم.

أما المشهد الثاني والذي بطله، البغدادي المحمودي، وكثيرون غيره، فهو يعبر عن الناتج الآخر لظاهرة مسخ واستلاب الذات، ولدرجة تظهر فيها هذه الذات المتميزة الحرة المنفردة، وكأنها يد إضافية لماسخ هذه الذات ومستلبها.

يوجه المشعوذ القذافي أمرا إلى البغدادي المنسحق الذات  مفاده قتل زميله شلقم، والذي بينهما كما قال البغدادي ماء وملح، ثم لا يتوانى أو يتريث الأخير إزاء هذا الأمر الجلل والخطيئة الكبرى، القتل، فيصدر أوامره بالتنفيذ، بل ويلح ويصر على ذلك.

ليس أمرا غريبا أن يخطئ الإنسان، ولكن الغرابة كل الغرابة أن يصبح الخطأ ديدن الإنسان ومنهجه. كما أنه ليس عجيبا أن يستعمل إنسان إنسانا، ولكن العجب كل العجب أن يتحول إنسان ما بكل كتلته المادية والمعنوية إلى مجرد سكين في يد ظالم قاتل.

شلقم والبغدادي كانا يأكلان على قصعة واحدة، وبينهما ماء وملح، ثم فجأة تنفجر هذه القصعة ويتحول، ماؤها وملحها إلى بحر هادر يدفع بشلقم بعيدا جدا عن زميله البغدادي، وربما إلى الأبد، وخاصة إذا قرر قابيل البغدادي المضي قدما في تهديده بقتل أخيه هابيل شلقم الطيب الوديع، الفنان على رأي سيف!

أجزم بأن قوابيل ليبيا جميعهم، هم ضحايا وساوس إبليس ليبيا، القذافي، والذي يقوم هذه الأيام يرصف طريق خروجه، هو وعائلته، بجماجم كل قابيل وهابيل، فكلهم عند القذافي سواء.   

 

ليست هناك تعليقات: