الاثنين، أغسطس 29، 2011

رسالة إرفاق



                       رسالة إرفاق قرار تعيين وزير

إلى من يهمه الأمر

الموضوع: مقترح رسالة إرفاق قرار تعيين لوظيفة عامة.

تمثَّلتُ حالة استلام أحدهم قرار تعيينه وزيرا في حكومة ثورة فبراير، وتقمصت شخصيته، وما إن فرغت من قراءة ديباجة القرار، وتأكدت من أنني قد أصبحت وزيرا في حكومة الجمهورية الليبية، حتى زاغ بصري، وثقل رأسي، وبدت الصحيفة التي في يدي على هيئة سجل عملاق بمساحة الوطن، انتصب في وسطه عداد زمني يسجل ويراكم الأيام الطوال، والأحداث الجسام لرحلة الاثنين وأربعين عاما الشداد العجاف، حتى إذا كان مساء يوم منتصف فبراير، تحامل ذلك الركام وصار إعصارا، وأخذ يقذف بأفواج الغاضبين إلى الشوارع والميادين، والتي ما لبثت أن تحولت، وفي لمح البصر، إلى ساحات رماية، أحاط بها سياج من سلاح فتاك، في أيدي جنود عتاة أجلاف، اتخذوا من الرؤوس الهشة، والقلوب والأكباد الرطبة هدفا مشتركا لحمم مدافعهم. وما إن أطلق راعي الرعية أمره بقتل رعيته، حتى انقسم الوطن الواحد إلى معسكرين متحاربين، معسكر يحارب من أجل أن يتحكم فرد، ومعسكر آخر يحارب من أجل أن يتحرر شعب. وما هي إلا لحظات حتى احمرَّ الإسفلت رغم اسوداده، واغبرَّ الأفق رغم صفائه وجلائه، وشقَّ الصراخ والدعاء عنان السماء.

أفقت من إغماءتي لأجد الورقة التي بين يدي، وقد تحول لونها الأبيض إلى لون أحمر قان، ما لبث أن سرى إلى كل أصابعي، وخضب كامل كفي. وإذا برائحة الدم والبارود تملأ المكان، وتتحول تلك الورقة النحيلة الخفيفة إلى جلمود صخر ثقيل بثقل دماء المغدورين، وصرخات المظلومين، وأنات المجروحين، ودموع اليتامى والثكالى الملوعين.


بحثت في الجوار عن بلسم أزيل به عن يدي أثر لهيب الدم، وأسكت به صدى الصرخات والأنات، فما وجدت غير مداد قلمي الذي تحولت قطراته المرتعشة المضطربة إلى كلمات متهالكة متلعثمة، صغت منها على عجل ووجل مقترح رسالة الإرفاق التالية. 

إلى كل من ابتلاه الله فولاه

سلام وبعد

ردَّدنا خلال العقود الأربعة الماضية، وبإفراط، مقولة الوظيفة تكليف وليست تشريف، غير أننا وجدنا أولئك المكلفين قد التصقوا بتلك الوظائف التصاقا حميميا بلغ حدَّ الشذوذ، وما سمعنا أحدا منهم أطلق أنَّة أو آهة أو أبدى تململا أو إعياء من تكاليف الوظيفة وأعبائها، بل وجدناهم كلهم قد هاموا في الوظيفة حتى الجنون!

لا شيء يبرر الهيام حتى الجنون، سوى غرق أمناء ورؤساء ومدراء ذلك العهد في بحار المتعة والسعادة والرضاء، وهو ما أفقد ذلك الشعار صلاحيته ومصداقيته، مما قلب مدلولات ألفاظه، فصارت كلمة التكليف، تعني نيل الحظوة والتشريف، وأصبحت الوظيفة العامة مغنما لا يناله إلا أحمق سفيه سخيف، وإذا النفاق  بعد أن طبع القلوب والنيات، تسرب إلى الألفاظ والكلمات!

تلك أمة قد خلت، وزمن قد ولى. وهو زمن سيطر فيه شخص سفيه، فولى أمور البلاد والعباد أزلامه ومريديه، وجعل سواهم خداما وعبيدا له ولبنيه.

إن الوظيفة التي كان يتكرم بها القذافي على من يركع له ويقبِّل قدمه، لم تكلف القذافي شيئا، وما كان يرجو منها القذافي سوى توطيد حكمه والدعاية له، وهو ما يفسر اقتصاره في إسناد تلك الوظائف على ذلك الصنف من الناس القادرين على تلبية شبقه وشذوذه، والذي يبدأ بتقبيل يد القائد الأسطورة، وينتهي بالذوبان الكامل في كفه المسحورة، ليشكل من المسوخ البشرية ما شاء له أن يشكل من أدوات إمتاع تسليه، ودروع حماية تحافظ على ملكه وتبقيه.

ها قد تغير الحال، وأتى بجديد المثال، وطرح أمامنا للمقارنة والاعتبار قراران؛ قرار يحمل تاريخ ما قبل فبراير، والذي كما قلنا لم يكلف القذافي شيئا، وقرار آخر يحمل تاريخ ما بعد فبراير، والذي كان ثمنه، كما نعلم، عشرات الآلاف من الليبيين ما بين موتى وجرحى وذوي عاهات، وكذا عشرات الآلاف بل مئاتها من أقارب وذوي أولئك الموتى والجرحى وأصحاب العاهات المسكونون بالأحزان والحسرات. وفي أسفل فاتورة المآسي يصدمنا ذلك الرقم المرعب المخيف لتلك الخسائر المادية الجسيمة جدا.

إن مئات آلاف الضحايا المذكورين هم الذين صاغوا بمداد المأساة هذا القرار الذي بين أيديكم، محملين إياكم أمانة ما أحرزوا من نصر على الظلم والظالمين والفساد والفاسدين، ومحذرينكم من أن أي زلل ترتكبونه بموجب قوة هذا القرار، إنما هو خذلان وخيانة لدماء زكية على الأرصفة سالت، واستخفاف بأرواح طاهرة نقية  في ساحة الوغى فاضت، واحتقار لأجسام احترقت وانطمست معالمها وزالت.

إن ضحايانا قد ضحوا من أجل العدل، فلا تظلموا. وضحوا من أجل الإصلاح فلا تفسدوا. وضحوا من أجل الديمقراطية فلا تستبدوا.

اذكروهم كلما حققتم بهذا القرار إنجازا، كان يوما من بعض أحلام الشهداء. وما كان هذا الإنجاز ليتحقق لو لم يتقدم أولئك الشهداء الأبرار، ويجعلوا من دمائهم حجر أساس ذلك الإنجاز، وكذا لما سواه من إنجازات.
اذكروهم كلما قرَّت أعينكم بمشهد من مشاهد ليبيا الجديدة التي طالما تمنى شهداؤنا أن يروها. وما تكرار خروجهم السلمي في أيام انتفاضتهم الأولى إلا محاولة بريئة منهم لتأويل أحلامهم ومناماتهم اللذيذة، والتي سرعان ما تدخل الكابوس وأوَّل كل تلك الأحلام على إيقاع لعلعة الرصاص وغرغرات المحتضرين وأنات المجروحين.

اذكروهم كلما تنسمتم عبير الحرية، وشربتم أنخابها العذبة، تلك الأنخاب التي امتدت إليها أصابع شبابنا الطرية النحيلة، فقذف بها السفاح بين أنياب مقصلته، ولم يسمح لهم ذلك الطاغية حتى بتحسس ملمس أيقونة الحرية، والتلذذ بمجرد النظر إليها عن قرب .

اذكروهم كلما مرَّ ركبكم الباذخ في شارع أو ميدان ارتوى أديمه بدماء الشهداء الأبرار، ذلك الأديم الذي ما لبث، بعدما تشرب بالدم الطاهر، إلا أن اهتز وأخرج شجرة الحرية السامقة التي ننعم الآن بظلالها الوارفة.

اذكروهم كلما قمتم بإعلاء صوتكم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، دون اضطراركم إلى التلفت يمنة أو يسرة مخافة أن يصفعكم دكتاتور، أو يبطش بكم أحد حراسه.

اذكروهم كلما وردتم موارد المعرفة، فلم تجدوا أبوابها موصدة، وقد وقف عليها السفهاء الأغرار، وهم يمارسون وصايتهم على عقولنا، ويستخفّون بتطلعاتنا المشروعة إلى الاغتراف بأيدينا من معين العلم والثقافة، والنهل منه حتى الارتواء. ولمّا لم نطاوعهم  قاموا بقطع كل يد تمتد لكتاب، وبإخراس كل لسان يتهجى ألف باء التعبير الحر.           

اذكروهم كلما جُلتم بأبصاركم في رحاب الوطن، فلم تصدمكم وتفقأ أعينكم صورة وترهات ذلك الطاغوت التي أجبرنا السنين الطوال على وضعها بين أجفاننا والمقل.

اذكروهم كلما أصختم بأسماعكم إلى إيقاعات ما خلق الله من حناجر وأوتار، ووجدتم هذه الإيقاعات قد صفت وخلت من ضجيج أبشع صوت لامس سمع إنسان، صوت القذافي الآثم الكذاب.

إذا ذكرتم كل ذلك، وغيره كثير كثير، فسوف تفكرون ألف مرة قبل أن توقعوا بما يفيد استلام قرار التعيين، والذي هو بحق قرار ينضح آلاما، ويقطر أدماء.  

إذا تجرأتم، وتسلمتم هذا القرار، وقبلتموه، فرجاء احذروه.

وإن وجدتم أنفسكم لا تقدرون عليه، فخير لكم أن تتركوه.

وفقكم الله.

محمد الشيباني


ليست هناك تعليقات: