العنف الليبي؛ وليد العوز الثقافي وشح الثقة بالنفس، وكلاهما حصاد الاستبداد
يصنف علماء النفس العنف ضمن قائمة الأمراض النفسية. ولمرض العنف، كغيره من الأمراض، درجات ورتب، يتدرج فيها من كونه مجرد علة بيولوجية تستوجب العلاج الدوائي وأحيانا التدخل الجراحي، إلى علة ثقافية، وهي الأكثر شيوعا وخطرا، والتي لا يمكن علاجها إلا عن طريق إعادة تأهيل المريض ثقافيا، ونزع إبرة انفجار اللغم المتربص داخله.
الشكر لكاميرا النقال التي استطاعت أن تنقل لنا، وبدون أي رتوش، حالات انفجار الألغام الثقافية التي يخبئها الكثير من الليبيين بين تلافيف أدمغتهم، والتي انفجر الكثير منها في الحرب الأخيرة بين الإخوة الأعداء، وبقوة تدميرية أكثر مما كنا نحسب ونتصور.
لم أتابع الكثير من حالات انفجار ألغام العنف الليبي في ساحة الحرب الأخيرة، ولكن ما شاهدته وشاهده الكثيرون غيري من حالة تعذيب الأسرى وقتلهم من أمثال؛ أحمد الغرياني، وجهاد عسكر، وغيرهما كثير، عليهم رحمة الله. وكذا ما رأيناه من جثت محترقة، وقتل الناس صبراً، وما تواتر ذكره عن حالات الاغتصاب، وغير ذلك كثير. كل ذلك وغيره جعلني أقف لأسترجع أشياء كثيرة في ذاكرتي عن العنف الليبي وألغامه التي كنت أشم دخانها، وأرى بعض انفجاراتها هنا وهناك في شوارعنا ومياديننا، ونحن نعيش حالة السلم لا الحرب.
يكاد يجمع الكثير على أن المواطن الليبي العادي به شحنة من العدوانية والعنف، تفوق مثيلاتها لدى المواطنين العاديين من شعوب أخرى. وعند محاولة إيجاد تفسير لفرط هذه الشحنة، تنجذب أذهاننا بسرعة نحو ظاهرة العوز الثقافي.
هل تضاؤل الثقة بالنفس، هي حالة عوز ثقافي، وأحد بواعث العنف؟
نعم.
كيف؟
سأجيبك، ولكنك ستصبر علي قليلا. ما رأيك؟
أصبر.
دفعني ذات مرة فضولي المتهور إلى الاقتراب من فوهة بركان أحد الغاضبين، بهدف الوصول إلى أقصى مدى يمكن الوصول إليه في أعماق بركان غضب بعض الناس، وكم كانت دهشتي عظيمة لما رأيته من فوارق بين غضب مواطني الليبيين، وغضبة الآخرين، كالمصريين مثلا.
هل جربت ذلك؟
نعم.
أثرت فضولي أخبرني.
ذات يوم صيفي، وفي شوارع القاهرة المزدحمة، جاورت سيارة الأجرة التي كنت أستقلها، سيارة نصف نقل يقودها رجل مصري ينفث بركان غضبه حمما من كلمات، وشرارات من نظرات، وكل ما احتواه صوت منبه سيارته المفزع من أصوات مرعبات. كان إلى جانبه راكبان هما الهدف الظاهر لقذائف غضبه، ولكن غضب الرجل كان عارما، حتى أنه جاوز كابينة السيارة التي يقودها، ليغطي الشارع الواسع وما حواه.
قررت أن أمارس فضولي الخطير، وربما القاتل، وكان أبرز ما شد انتباهي في وجه الرجل الغاضب عيناه الخضراوان اللتان كاد الغضب أن يقتلعهما من قوقعتيهما ، وقلت في نفسي سأبدأ منهما، وليكن ما يكون.
انتهزت فرصة اقترابي من الرجل إلى أدنى مسافة ممكنة، وقلت له"عِينيك حلوة"، وباللهجة المصرية التي لا أتقنها.
أدرك الرجل الغاضب أن مخاطبه ليس من أهل البلد، كما أنه رجل بسيط يركب سيارة أجرة بسيطة، وهو بذلك ليس ممن تقبل هفواتهم لطول هاماتهم وعظم درجاتهم، الأمر الذي وفر له الغطاء الكافي للرد على ما أبديت من سماجة. غير أن الرجل، وعلى غير المتوقع، انشرحت أساريره، وانقلب غيظه غبطة وسرورا، وكأنني قذفته بكيس من نقود، أو باقة من ورود، وقال والبشر والرضا ينيران وجهه المغبر: "إنت أحلى"، ثم خمد ذلك البركان، وضحك كل من كان في المكان، ولدرجة أشعرتني بالفخر، بل وحسبت نفسي حينها ممن لهم مستقبل في فن صناعة النكث، وتجارة الكوميديا وبيع الضحك.
التفت إلي مواطني الليبي الذي كان معي في السيارة، قائلا: لو قلتها لابن عمك الليبي، وهو على درجة الغضب التي عليها هذا المصري، لكان حالك غير هذا، يا هذا!
أخرجني صاحبي، بهذا الإنذار المرعب، من نشوة الشعور بالنصر والفخر، إلى حالة الشعور بالإحباط والتذمر والقهر، وقلت له: هل يفعل بي سائق نصف النقل الليبي الغاضب شيئا غير هذا؟
فردَّ صاحبي بكل ثقة: إن ألطف ما يمكن أن تخرج به من موقف كهذا، هو نعتك بالشذوذ الجنسي!
يا الله! سيكون ذلك مفزعا، بل ومدعاة لردة فعل معاكسة مني، قد تتطور وتتحول من مشادة كلامية بسيطة إلى شجار بالأيدي، وربما بالعصي والسكاكين، وحتى بالكلاشن التي حلت الآن محل الهراوات المصاحبة لكل سائق سيارة ليبي.
ليس هناك مجالا بأن تتغزل في عيني ليبي لا تعرفه.
لماذا؟
لأن الثقة بالنفس لديه بلغت من القصور حدا، جعله لا يفسر إعجاب الناس بعينيه، سوى رغبتهم السيئة وطمعهم الدنيء فيه.
هل الاستبداد والتسلط الذي عانى منه الليبيون العقود الطوال وراء انعدام الثقة في نفوسهم المفضي إلى ردات الفعل العنيفة؟
أجل.
كيف؟
عاش الفرد الليبي خلال العقود الأربعة المنصرمة ضمن دوائر الاستبداد والتسلط التي حرص المستبدون على طلائها بألوان زاهية، من مثل؛ التدريب العسكري، والحكم الشعبي، والتنظيم الاقتصادي، والانضباط الأمني، وهي جميعها ليست سوى قيود وأغلال وكوابيس، تلاحق المواطن الليبي في كل مكان، وتنتزع منه أمنه الشخصي والاجتماعي، وأخيرا ثقته بنفسه، بل وثقته في كل شيء حوله.
لم يطرق باب بيتي أحد، إلا واعترتني الشكوك فيه، وفي دوافع زيارته. وبرغم قلة عدد الثواني التي تفصل بين صعقة الجرس، ومعرفة اسم الطارق، إلا أنها كانت بطول السنين وثقلها، وكانت تصعد بدقات قلبي إلى الضعف، وبسببها تضطرب مؤشراتي الحيوية جميعها، وذلك لما تراكم في ذاكرتي من قصص مفزعة، يبدأ فصلها الأول بنغمة جرس، وينسدل ستارها المعتم الكثيف على ظلمة رمس!
إنني أعذر نفسي، وأعذر كل من احتواه سجن الدكتاتور القذافي الكبير، حتى قضى فيه كل عمره أو جله، عن كل توجس يبديه تجاه نظرات الغرباء وكلماتهم وحركاتهم، ذلك أن الليبي المسكين كان يعيش في وطنه غريبا ومتهما ومطاردا، وهو ما يهبط بالثقة في النفس إلى درجة الصفر أو أدنى.
أفلا يحق لهذا أن يكون عنيفا؟!
أفلا يحق لهذا أن يكون عنيفا؟!
محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com