صعلوك جهنم أزحناه، ولكننا لن ننتصر عليه ، حتى نقتلع ما غرسه، ونهزم من والاه.
صعلوك جهنم، القذافي، شيطان وأحمق، ذلك أنه يضع إحدى رجليه في أقصى مدى المكر والخديعة، ويضع رجله الأخرى في قريته البدوية البسيطة، قرية جهنم، حيث يمارس ذكاءه الفطري الموغل في البساطة والسذاجة.
وعلى امتداد المسافة بين ذكائه الفطري وخبثه، وبغلاف زمني زاد عن أربعة عقود، وغلاف نقدي ربما لامس تريليون دولار، أركض القذافي الليبيين حتى أرهقهم وأعياهم، وتأكد لديه، وبما لا يدعو مجالا لأي شك، بأن الليبيين المرهقين سوف لن يقدروا على فعل أي شيء يرهق العقيد العميد، صاحب البأس الشديد، والمجد التليد.
الأقدار نوتة سيمفونية الأحداث، وكل ما في الكون من موجودات ما هي إلا أوتار تهتز وترن، و حناجر تئز وتئن، وذلك في سباق محموم من أجل تحويل أحرف نوتة الأقدار من مجرد حروف مسطورة مستورة، إلى أحداث قائمة بارزة منظورة.
في مقال سابق عنوانه "الخروج على النص" حاولت أن أرصد، وبذهول بالغ، تسلل أصابع القدر من وراء حجب الغيب، لتحدث تغييرات جسيمة في الألفاظ والجمل الموسيقية المستقرة مدى الدهور في قلب نوتة الأقدار النمطية المعروفة، وهو ما أدي إلى تغيير خطير في نتائج الأحداث، تزلزلت بفعله الحصون الشديدة، والممالك العتيدة.
نجم عن ذلك حقيقتان مؤكدتان؛ أولاهما أنه ليس بشطارتنا ولا شطارة الآخرين، بروز ذلك الانبعاث المفاجئ لاخضرار الربيع العربي، من وسط كتل اصفرار الموت الذي غشانا به خريفنا الدائم المقيم. وكأنما الأقدار تريد أن تعلمنا درسا بليغا، من نادر ما تقدمه من دروس، ألا وهو الظهور السافر لمعاولها العملاقة، وقيامها، وبوتيرة سريعة جدا، بدك قلاع طواغيت العرب الثلاثة؛ مبارك والقذافي وبن علي.
تلك حقيقة يجب أن نتوقف عندها ونعيشها، ولو تسببت في حرماننا من بعض نشوتنا بالشعور بالانتصار.
أما الحقيقة الثانية التي سوف تذهب ببقية نشوتنا، بل ربما جرعتنا بدل النشوة المرارة، فهي تلك الحقيقة الصادمة، حقيقة انتصار القذافي علينا!
أجل. إنني أريد أن آخذكم، بعد إذنكم، من مكان الاحتفال ونشوة الانتصار، إلى حيث ساحة المعركة التي فرضها علينا هذا الأحمق دونما سبب وجيه يذكر، وذلك للنظر إلى هذه الساحة بعد انقشاع ما غشاها من غبار.
لماذا أفعل ذلك؟
أفعل ذلك من أجل مواجهة أنفسنا، والوقوف على حقيقة خسائرنا، ومن تم رفع الدعوى القانونية اللازمة لضمان استرداد ما يمكن استرداده من حق معنوي ومادي.
أبرز ما شد انتباهي ومزق قلبي في ساحة المعركة حيث يتواجد حطامنا، هو شواهد أكثر من ستين ألف ليبي بين قتيل ومفقود، تقتسم البيوت الليبية كلها، وبدون استثناء، مرارة الموتة الشنيعة لمن قتل، والغصة الدائمة لمن فقد. وهي مرارات وغصص لم يسبق لنا أن تجرعنا مثلها منذ احتلال إيطاليا لبلدنا ليبيا. أما عن الخسائر المادية، فإن حربا ضروسا كالتي خضنا، لابد أن تنجم عنها جبال من الخسائر، تزيد خاطرنا انكسارا، وفرحنا تواريا وانحسارا.
ذلك الذي ذكرت هو فقط ما يمكن عده وإحصاؤه من خسائر، أما الخسائر التي لا يمكن عدها ولا تقييمها، فهي تلك الخسائر الجسيمة الناجمة عن احتراب إخوان الوطن والدين، وما تتركه من شروخ وندوب في الأفئدة والوجدانات، قد تفوق بكثير كل ما ذكرنا من تبعات وذيول للحرب التي فرضها علينا الطاغية وكتائبه الأثيمة.
لا يمكن أن يعدل مجرد سقوط القذافي وإزاحته كل تلك الخسارات، ماديها ومعنويها، وإن مجرد اكتفائنا بسقوط القذافي، هو خسارة أخرى، تضاف إلى سلسلة الخسائر التي أحصينا.
إن التعويض الذي يجبر كسرنا، يجب أن يتضمن على الأقل ما يلي:
1ــ قطع واستئصال كل ما غرسه القذافي في أذهان الكثير منا من ترهات. ولا يتأتى ذلك إلا باستيعابنا جميعا لفداحة وعدم شرعية كل ما فعله القذافي، بدءا من انقلابه المشئوم، ومرورا باختطافه لنا لأزيد من أربعة عقود، وانتهاء بذبح عشرات الألوف منا دونما ذنب يذكر.
2ــ استئصال التصاقات الورم القذافي المادية باستخدام مشرط الفرز الإيجابي. وكذا استئصال الالتصاقات المعنوية، وهي أشد خطرا، بمشرط المواجهة الصريحة لكل من ركن إلى القذافي وروج له ولأفكاره، وتحصل في مقابل ذلك على امتيازات ومنافع مادية أو معنوية، وإجباره على التكفير عن خطاياه بالتنازل عن زقوم كل مكسب جناه من مناصرة الطغيان. وفي جميع الأحوال يتولى القضاء العادل محاسبة كل من قام عليه الدليل في سفك دم، أو هتك عرض، أو تقييد حرية، أو ممارسة تعذيب.
3ــ وكما صنعنا من أعمارنا ومقدراتنا فرعون استخف بنا فأطعناه، وجعلنا مجرد بيادق تحركنا خيوط تهويماته وأطياف هواه، يجب علينا، بعد أن تخلصنا منه، أن نصنع الشخصية المخالفة تماما لشخصية ذلك الطاغية المستبد، والتي سوف لن تكون إلا شخصية قيادية فذة، تتخذ من علوم المتحضرين، وتجارب الناجحين منهجا وطريقا لإنقاذنا السريع من وهدة تخلفنا المريع.
إن عِظم ظلم القذافي، وطول فترة إمهاله، هو ومن حوله، أذهبا كل شك في تأصل الإجرام والعدوانية في نفسية القذافي، كما أذهبا اي ملمح من ملامح البراءة في نفوس مناصريه. وأيد ذلك وأكده طول فترة الإنذار الأخير، والتي بلغت ستة أشهر من المواجهة المباشرة بين دكتاتور وشعبه، وهو ما أزال كل عذر لكل من وقف خلال هذه الفترة، متمنيا هزيمة الشعب، وانتصار الدكتاتور.
إن القابلية للاستعباد، بمقابل وبدونه، هي أشد ما أصابنا من علل خلال عصر القذافي، وهي علل نشأت بسببين؛ أولهما العوز الثقافي لبسطائنا، وثانيهما العوز الحركي في ثقافة مثقفينا. ولا يمكن البرء من علة القابلية للاستبداد بمجرد زوال السبب الرئيس، وهو القذافي وسياسته، وإنما يتحقق البرء الكامل عندما يتحمل كل فرد منا نصيبه من المسئولية، ويستلم حقه دونما جميل أو تفضل من أحد.
تحمل المسئولية بثقة، واستلام الحق بكرامة، يعنيان، وبكل بساطة، إلغاء وشطب ذلك الكادر المتورم من الأزلام وذوي الحظوة والمريدين، وكذا قوافل أولئك المستعبدين بدون مقابل، وما أكثرهم!
قبل أن يتولى مهاتير محمد مهمته التاريخية في بعث ماليزيا، ذات الغالبية المالاوية، صعق أذهان بني جنسه المالاويين بوصفه لهم بأنهم كسالى، فعوقب في بادئ الأمر على جرأته وربما وقاحته، ثم ما لبثت أن تحولت تلك الجرأة إلى بلسم، سكبه الجراح المبدع، مهاتير، في أعماق الجرح الماليزي، والذي وبمجرد التئامه تعافى النمر الأسيوي من علله كلها، ودخل مضمار أقرانه، النمور الأسيوية العملاقة.
كانت محتويات هذا البلسم مجموعة من الخطوات قام بها هذا الطبيب الماليزي البارع على الجسم الماليزي المطاوع والمستجيب لكل أمر ونصيحة، أطلقها طبيبه الذي وثق به فأخرجه خلال عقدين من الزمان من فقر وتخلف القرون.
أعود وأطالب بضرورة تكثيف الجهود في سبيل البحث عن مهاتير ليبيا، الذي يعوضنا نيله عن خسارات وويلات فترة جثوم الدكتاتور على صدورنا، كما يصنع هذا المهاتير من أحلام الثوار المنتصرين حقائق واقعة، وإنجازات ملموسة، تجعل من دخولهم ساحة معركة البناء امتدادا مباشرا للمعركة التي قادوها باقتدار في ساحة تحرير الوطن، تلك الساحة التي سوف يعز عليهم فراقها إلا إلى ساحة أحسن وأمتع منها، وليس هناك ألذ وأمتع من ساحة بناء الوطن بعد استرداده من خاطفيه.
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق