الثلاثاء، سبتمبر 06، 2011

إلى كل الليبيين



صنعنا أعظم دكتاتور، فهل نستطيع صنع ولو مجرد "مُهَيتير"؟


لمن لا يريد قراءة كل المقال، تكفيه النقاط المختصرة التالية:

ــ الدكتاتور الذي صنعناه، نعرفه جميعنا.

ــ مُهيتير تصغير اسم مهاتير محمد، صانع ماليزيا الحديثة المعروف. وتعمدت تصغير هذا الاسم الأسطورة، من باب التيسير وتهوين المهمة.
ــ أدعو إلى تكوين جسم سياسي صلب لدولتنا المرجوة، بحيث يحضن ويحفظ أجسام الدولة الأصغر، والتي يأتي في مقدمتها الجسم الاقتصادي.
ــ أدعو إلى فتح باب التنافس في صنع مهاتير، أو حتى مُهيتير ليبيا.
ــ لا حرج في أن يتقدم إلى هذا المنصب كل من يرى نفسه أهلا لذلك، وذلك توسيعا لمساحة المفاضلة والاختيار.
ــ يعزز المتقدم لشغل هذا المنصب طلب ترشحه بمقترح يتضمن خطة إنقاذ ليبيا وتعويضها عن فترة الاختطاف الطويلة، على أن يكون جانب التطوير الاقتصادي هو محور هذه الخطة.

ــ تطرح مجموعة المقترحات المقدمة على الاستفتاء الحر الرشيد، ويُعمَّد المقترح الفائز بخواطرنا المكسورة وأحلامنا الموءودة وآمالنا المستخف بها السنين الطوال، وأخيرا بدمنا المراق في كل مكان.    
ــ يمنح صاحب المشروع الفائز الوقت الذي يريد، على أن يقسم مدى المشروع إلى مراحل، في نهاية كل منها محطة للمراجعة والترشيد.
ــ يسمى المشروع الفائز بمشروع بناء ليبيا، كما يلقب صاحب هذا المشروع بخادم ليبيا، ويكون على استعداد لتقديم استقالته من منصبه عند تمام مهمته، تماما كما فعل مهاتير ماليزيا، حيث تقاعد عندما أتم مهمته.
ــ من الممكن قيام وتضامن أكثر من شخص على إعداد وتبني هذا المشروع.
ــ نظرا لأهمية هذا العمل وخطورته، فقد يكون من المجدي تغليفه بغطاء دستوري يؤصل له ويدعمه.                                                                                                 
                                 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تلك هي الومضات التي قدحت زناد فكري، وأسالت مداد قلمي فأطنبت. ولمن يروق له الإطناب، وتفصيل الخطاب، فليتفضل مشكورا، وليتبعني حتى نهاية هذا السرداب:


الشعوب تصنع جلاديها، ونحن من صنع الجلاد القذافي. ولمن لا يعلم من النشء صغير السن، فقد خرج الكثير من الليبيين في الأيام الأولى من شهر سبتمبر 69 خروجا جماعيا مخجلا، تأييدا لرجل مجهول الهوية، استولى على الإذاعة، وأطلق منها بيانا بدون توقيع، سرق به الجمل وما حمل.

في سويعات معدودة، وبضربة واحدة كما قال بيان الملازم النكرة، تم اختطاف بلد بكامله، وحول مسار القافلة كلها جمل أجرب شارد، وقلب نشيد الجموع صوت واحد مبحوح نشاز.


أسباب كثيرة كانت وراء استلاب العقل الجمعي لليبيين، ودفع جموعهم إلى حيث أشار أصبع القرصان، في تلك الأيام السوداء وما تلاها من أيام، ، ولكن أهم هذه الأسباب ما كان منها كامنا في العقل الليبي نفسه، ومنطلقا منه.


قبل أربعين عاما كانت الأمية بأنواعها المختلفة معششة في أذهان الليبيين، وحتى من حاول منهم، وهم قلة، ملء فراغ مستوعباته الفكرية الخاوية، لم يجد أمامه من غذاء فكري، سوى وجبات فقيرة العناصر، فاقدة الصلاحية، ومهربة من وراء الحدود، بل إن بعض هذه الوجبات كان سما دُسَّ في عسل.


لم تغرب شمس اليوم الأول للانقلاب حتى فوجئ الملازم القذافي بأن سبابته تحرك آلاف البشر، واكتشف أن لعبته الساذجة وحيلته الرخيصة، قد انطلت على الكثيرين، ووجدت في أدغال العقول الليبية الخاوية بيئتها المثلى، فاستقرت فيها وسيطرت عليها.


لم يدفع صعلوك جهنم مقابل إغراء الجماهير والاستحواذ عليهم شيئا يذكر، ولذلك لم يجد نفسه ملزما، وهو يمارس أبشع أنواع السخرة عليهم، ببذل أي مجهود، أو الالتزام والإيفاء بأي وعود، بل لم يكن لكل تلك الجموع إرادة تحسب، أو صوتا يرهب.


أدرك القرصان منذ اليوم الأول أنه انتصر على خصمه بالضربة الفنية القاضية، لا لجدارة لديه، ولكن لضعف وهوان وغفلة مفرطة لدى مواطنيه، وتأكد من ذلك بعديد التجارب التي أجراها، والتي أكدت جميعها ليونة ومطاوعة كل شيء حوله، فأخذ يعبث بنا كما يشاء، مما أدى إلى انخراط القرصان في نشوة عارمة امتدت أربعة عقود وزيادة.


سكرة ونشوة القرصان العميقة هذه، هي التي تفسر ردة فعله الشرسة عندما أفزعه واقتلعه من سكرته ذلك الصوت المزلزل لعطسة رجوع الروح للعملاق النائم، تلك الروح التي أيقظتها من مرقدها الطويل حرارة شرارة ثورة فبراير المباركة.


أجل. ها قد استيقظ المارد الليبي وانتزع بجدارة كأس الانتصار بالضربات الفنية القاتلة، وعلى كل الجبهات؛ سياسيها، واجتماعيها، وعسكريها، وحتى فكريها، وأدبيها، وإعلاميها. وسقطت جثة القرصان المثخنة بضربات قبضات أيدي الشباب الغاضبين، والذين هبوا للثأر ممن جعل موروث الأبناء من آبائهم، ثأرا وغضبا متأججاـ انصب على من غرر بالآباء واستخف بالأبناء.


أيها الشباب: إن آباءكم قد ساهموا، وهم في غفلة من أمرهم، في صناعة الطاغية الذي كلفكم إسقاطه دماءكم، وهو ثمن عجز آباؤكم، لسبب أو لآخر عن دفعه، وإنكم بهذا الثمن الغالي استحققتم شرف إسقاط أشرس وأبشع دكتاتور، وهو شرف رفيع ومكانة سامية تؤهلكم للحصول على الجائزة.


إن أثمن جائزة تليق بعملكم الجبار هذا، هو قدرتكم مجتمعين على صناعة المفتاح الذهبي الذي به تفتحون أبواب دولة ليبيا الحديثة، وهو مفتاح مصنوع من سبيكة متميزة قوامها التخطيط الاستراتيجي المحكم.  


الزعيم الماليزي المعروف مهاتير محمد قضى في الحكم نصف المدة التي قضاها طاغية ليبيا القذافي، فجعل من طوابير فقراء ماليزيا نمورا تسابق الأسود، ثم أحيل للمعاش براتب تقاعدي. قائدنا، صعلوك جهنم، وبعد أربعين عاما من حكمنا أوقف ثروة ليبيا عليه وعلى أولاده، وجعل من نفسه ملكا للملوك، وسحق إرادتنا حتى مسخنا جرذانا، وأمر كلابه بملاحقتنا والفتك بنا، بل وأصدر أوامره بمحونا من الخريطة الحيوانية لكوكب الأرض.    


إنكم بانتصاركم على هذا الدكتاتور البشع أثبتم له ولغيره أنكم نمور، وتستحقون الخروج من حظيرة الراعي وخيمته المتخلفة بكل ملامحها البشعة التي صبغ بها مرحلة زمنية من تاريخ ليبيا ليست بالقصيرة.


إذا كان تشخيص المرض نصف العلاج، كما يقولون، فها قد شخصنا علتنا، وتأكدنا من أن مصيبتنا كانت في حاكم مستبد أخرق سفيه نحن صنعناه، ونحن اقتلعناه. وسوف لن نبرأ من دائنا المزمن الذي عانينا منه طويلا إلا باختيار ذلك الدواء القادر على استئصال علة الاستبداد والتسلط والسفه من جذورها، وقيامنا باختيار من يدبر شئون دولتنا، ويضمن لنا ليس مجرد البرء من دائنا، بل يقوم بتعويضنا عن فترة سقمنا الطويلة المرهقة.


أجل إن المؤسسات الديمقراطية هي أول ما تقع عليه العين من أدوية في رفوف صيدلية مضادات التسلط والاستبداد، بيد أن هذه المؤسسات ما لم يربط لبناتها ذلك الرباط القوي من سياسات ذكية محكمة، قوامها العلم والتجربة، ورعاتها وعرابوها أصحاب القدح المعلى في مجال التطوير والتخطيط الاستراتيجي، وما أكثرهم في بلدنا ليبيا.


لو لم تظن بي الظنون، لأشرت إلى أكثر من خبير تخطيط استراتيجي دولي كبير، رأيناهم طوال السنين الماضية يتحرقون شوقا إلى ذلك اليوم الذي تطلق فيه أيديهم، ويتمكنون من إبداع خطط تنمية وتطوير، بل وسمعناهم يقسمون بأغلظ الأيمان على قدرة هذه الخطط على وضع عجلات القطار الليبي الغائصة في أوحال التخلف وسوء الإدارة على سكة الصعود والانطلاق والتألق. إنهم، وكما يزعمون، يملكون المفتاح الذهبي الذي عنه نبحث.


وبغض النظر عن هذا أو ذاك، فإنني أريد أن أقول، إننا يجب أن نبحث عن مهاتير ليبيا الذي ضاع من ليبيا خلال مرحلة طفولتها وصباها، وأن نقوم باختيار العريس اللائق لدولتنا الشابة المتألقة الجميلة والتي صنعناها بأيدينا، ونحن الأوصياء عليها وولاة أمرها، ونحن من يملك حق زفها لمن هو كفؤ لها.


أرى أن يكون مهر هذه العروس الحسناء خطة تنمية وتطوير عشرينية، محكمة البناء، مضمونة النتائج، مستجيبة في كل محطاتها المرحلية، وبأولويات ذكية، لكل تطلعات هذا الشعب الذي سفه أحلامه وتطلعاته ذلك القرصان المغتصب.


لا نريد لهذا العريس هوى غير هوى ليبيا، ولا نريد له قلبا يتوزعه حب دستة من الأبناء المترفين الأغرار، أو يسكنه ذلك العشق الأحمق للقبيلة المتخلفة، أو تلعب برأسه خمر العصبية وحب الذات المنكرة التي كانت تنز نزا من هبل ليبيا الهالك.


نريد من يقود هذه المرحلة أن يكون راهبا متعبدا في محراب أمنا ليبيا، كما نريد أن يكون محرابه زجاجي الجدران والحوائط، مفتوح السقف والأبواب، خال من كل طقوس الدروشة والدجل والشعوذة وأصناف الوصاية المقيتة.


مهاتير محمد من أسرة مالاوية فقيرة، ودفعه الفقر إلى أن يكون بائعا جوالا يبيع الموز. درس الطب وامتهن الجراحة، وكان يقدم خدمته للمحتاجين بدون مقابل.


ألف مهاتير محمد كتابا بعنوان مستقبل ماليزيا الاقتصادي، كما ألف كتابا آخر أسماه معضلة الملايو، اتهم فيه شعبه شعب الملايو بالكسل، مما ألب عليه الكثير، وتم منع الكتاب من النشر، إلا أنه أعيد نشر الكتاب عندما تولى مهاتير رئاسة الوزراء في عام 1981.


حول مهاتير محمد  دولة ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية، مثل القصدير والمطاط، إلي دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي،
 
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% إلي 5% فقط، كما ارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من أكثر من ألف دولار بقليل في بداية السبعينيات، إلي ما يقارب التسعة آلاف دولار عندما تقاعد صانع النمر الماليزي  في عام 2002 ، كما انخفضت نسبة البطالة إلي 3%، وقد كادت ذات يوم أن تشل أيدي نصف سكان ماليزيا.


لم يصل مهاتير، ومن وراءه بلده ماليزيا، إلى هذا المكان المرموق، إلا بعد أن نجح الماليزيون في مواجهة أنفسهم، وأقدموا بكل شجاعة على تقييم أخطائهم، والتي اقتلعوها وبكل قوة، وغرسوا مكانها قيما مجربة مثلى، استعاروها وبكل تواضع من جيرانهم الناجحين، والذين تأتي في مقدمتهم دولة اليابان. وكذا فعلت الصين العظمى، عندما تواضعت، واستعارت تجربة دولة قزما كدولة سنغافورة.

كل تلك الانجازات وقع عليها بائع موز جوال، اسمه مهاتير، وليس ملك ملوك وصانع جماهيريات كاذب محتال، ولشعبه قامعٌ قتّال.

محمد عبد الله الشيباني

Aa10zz100@yahoo.com          

ليست هناك تعليقات: