الثلاثاء، أكتوبر 04، 2011

وول ستريت الهيرة

 وول ستريت الهيرة، بها شركة استثمارات يتيمة ولكنها كبيرة!

"تكلم كي أعرفك"، عبارة يقولها كل من أراد استكناه مكنون شخص تعذر عليه فهمه، أما شركة في حجم الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، فإن مكانها هناك في بيداء الهيرة، هو أطول وأبلغ  الألسنة التي تنطق بها هذه الشركة، وتعبر عن حالها البائس الشاذ.

لو نطقت هذه الشركة لكتبت شكواها بالدماء والدموع، وذلك لما عانته من انفصام مخيف بين اسمها وشكلها الملوح بالاستثمار، ِوواقعها البعيد جدا عن كل جدوى واستثمار، وهو واقع مرٌّ مخز يبدأ من سوء اختيار مكان المقر، وربما لا ينتهي عند سوء إدارة موارد الرجال، وعقم استثمار موارد الأصول والأموال.   

على مسافة وجوب قصر صلاة مُصلي، وربما الترخيص بإفطار صائم، يسافر كل يوم ما يزيد على المائتين من الموظفين لممارسة عملهم في مجال الاستثمار المالي الخارجي الصرف، والمتمثل، كما هو معروف، في ملكية وإدارة الشركات، والاستثمار في الأصول الثابتة والمنقولة، والمضاربة في البورصة، وغير ذلك من أنشطة مالية كثيرة.

تزاول الشركة عملها المالي هذا في منطقة شبه صحراوية لا علاقة لها البتة، وعلى الإطلاق، بأسهم أو سندات، أو دولارات، أو يوروات، أو مصارف، أو بورصات، أو شركات، أو فنادق، أو عقارات.

وكما يسافر البشر كل يوم إلى ذلك المكان النائي المقطوع، قاطعين ما يقارب المائتي كيلو متر ذهابا وإيابا، تسافر الأوراق كما يسافرون، وتقطع المسافات التي يقطعون، حيث تـُشحن ورقة صغيرة نحيلة لا يتجاوز وزنها بضع جرامات على سيارة خصوصية بسائقها، وربما بمرافق له وآخر يحرسهما، وذلك من أجل أن تسلم هذه الورقة إلى دائرة حكومية، أو مصرف، أو غيره من الجهات التي يتواجد كلها في مدينة طرابلس البعيدة، وبتكلفة تقديرية لا تقل بحال عن الخمسين دينارا للورقة الواحدة، وذلك كما قدرتها بعض الدراسات المحافظة جدا.

إن شركة على هذا الحال من سوء الإدارة الفاضح، سوف يصعب كثيرا عليها إقناع المستثمرين الخارجيين الضالعين في فنون الإدارة وحسن استثمار الموارد، بان يعقدوا معها الصفقات، أو يتبادلوا المصالح معها، ويبرموا الاتفاقيات .
   
لابد أن الجميع طرق سمعه ذات مرة اسم هذه الشركة العتيدة، الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، والتي، وكما هو معروف، أوكل إليها منذ ما يقارب من الثلاثة عقود القيام باستثمار الفوائض المالية للدولة الليبية في مشاريع وشركات خارجية من أجل تحقيق الربح المادي، وكذا تحقيق بعض الأهداف المعنوية الأخرى من سياسية وغيرها.

في ظل درجة شفافية متدنية جدا كالتي كنا نعاني منها في زمن الطاغية القذافي، صعب على الكثير منا معرفة ما يهمه معرفته من شئون بلده، وطريقة إدارة أصولها، وخاصة تلك الأصول التي تدار بفلسفة هجين، سياسي اقتصادي. بل لم يتات للكثير منا مجرد الإلمام بهذه الاستثمارات، ومدى غلبة الشق المادي فيها على الشق السياسي، ذلك الشق الذي اتخذه الفاسدون السابقون مشجبا علقوا عليه أخطاءهم التي لا تحصى، وبوائقهم التي لا تعد.

كانت شركة الاستثمارات الخارجية، ولسنوات عديدة، هي الجهة المعنية بالاستثمار الخارجي، وتفرعت عنها شركة الاستثمارات الأفريقية، لتتخصص الأخيرة في المنطقة الجغرافية التي يُلوِّح بها اسمها، ثم ما لبث كل ذلك أن تحور هيكليا، واختلط نسيجيا، لتتشكل منه أجسام استثمارية عديدة، كان آخرها، وربما أكبرها، المؤسسة الليبية للاستثمار، اللاعب الاستثماري الأكبر، والمسئولة حاليا عن استثمار جزء لا بأس به من الفوائض المالية للدولة الليبية.

وعودة إلى الشركة الأم، الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، فإنه مما يضحك ويبكي في ذات الوقت، هو ذلك العمل الكبير الذي قامت به الشركة منذ عام أو أكثر قليلا  من أجل محاولة إعادة هيكلتها، مستعينة بشركات استشارية عالمية، وبتكاليف مليونية، وبضجة مهرجانية قادها مديرها السابق، واستنفر لها فريق من الموظفين المحليين، والمستشارين الخارجيين، ليعقدوا دورات ولقاءات دولية مكثفة ومكلفة، هدفها المعلن إعادة هيكلة الشركة، وتحديث أداءها المالي والإداري. 

تدارس المجتمعون، وعلى مدار الأسابيع، وتباحثوا في كل شيء يتعلق بالجدوى، بدءا من ضرورة سواد اللسان الانجليزي بين موظفي الشركة، وانتهاء بأتمتة أنظمة الشركة وعولمتها، غير أنهم لم يتطرقوا من قريب أو بعيد إلى أمر المقر غير المجدي على الإطلاق!

إن شركة لا تجيد اتخاذ قرار اختيار المكان الملائم لممارسة نشاطها، هي أضعف من أن تقوم بإعادة هيكلة بنائها الإداري والوظيفي، وإن كل إصلاح أو إعادة هيكلة تقوم بها وهي تتجاهل هذه الحقيقة الدامغة والمأساة الناطقة " المقر "، بل فلسفة مكان المقر، هو إصلاح مشوه، لا يؤدي إلا إلى مزيد من الازدواج، بل والاختلال في المنظومة الواعية التي تسيِّر الشركة، تلك المنظومة القائمة أساسا على الوعي الجمعي لمديري الشركة وموظفيها.  

أيُّ استثمار مجد نلوح به، وأيُّ جدوى نتغنى بها، ونحن لا زلنا مكبلين ومقيدين بمجرد عبارة لا تتعدى بضع كلمات، أقحمت سفها وبدون أي مبرر، في قانون تأسيس الشركة، وهي العبارة التي نصت على أن مقر الشركة هو مدينة صناعة الفخار غريان، ومن بعد ذلك وول ستريت الهيرة.

وإزاء هذا الوضع المتأزم المستوجب للعلاج الجريء، وهو إسكان الشركة مكانها الطبيعي الملائم لها، أجريت العديد من محاولات الرجوع، إلا أنها، ولأسباب لا يعرفها أحد، باءت جميعها بالفشل، واصطدمت بتلك العبارة البائسة التي تضمنها قانون الشركة الأساسي المعدل.

وفي محاولة يائسة لستر عورة متخذي القرار السفهاء الأغرار، من سياسيين وإداريين الذين ارتكبوا جريمة نقل مقر الشركة، تفتق ذهن أحدهم بفكرة ظاهرها فيه الجدوى، وباطنها طافح بالبلاهة والمكر والغباء، متخذا من المنطقة الحرجة جدا الواقعة بين الحلال والحرام مكانا لفكرته الصحراوية الجافة، والتي اتخذت من بيداء الهيرة مكانا لمواراة سوءة أولئك المدراء والسياسيين العابثين.

قضت تلك الفكرة الآثمة المشئومة بتشييد بناء كبير، وبتكلفة مليونية، وذلك على الأمتار الأخيرة لحمى مدينة غريان، هناك عند قدم الجبل في الهيرة، حيث درجة الحرارة الاستثنائية عالميا، وحيث لا حجر ولا شجر ولا كائن من بشر، وما من سبب وجيه وراء هذا الإجراء العقيم سوى الخجل العذري لأولئك المدراء الجفاة الشداد، وعجزهم على تغيير نص ظالم تضمنه قانون تأسيس الشركة !!!!

لم يتجرأ أي من المدراء العمالقة الذين تعاقبوا على إدارة الشركة على المبادرة ورفع أصواتهم بعدم جدوى مقر الشركة، واكتفوا بمجرد در الرماد في العيون، بتشكيلهم من حين لآخر لجنة رفع ملام، لا يتعدى دورها مجرد رفع توصية خجولة بضرورة نقل المقر، ولا شيء غير ذلك.


قانون تأسيس الشركة ليس كتابا سماويا حتى نحل بموجبه إهدار وقت الشركة الثمين، ووقت مائتي موظف، وكذا إتلاف سيارات الشركة وسيارات موظفيها، بل وتعدى الأمر إلى ما هو أبشع من ذلك، إلى تعريض أرواح هؤلاء الموظفين لحوادث المرور القاتلة التي فتكت بالكثير، في رحلة المائتي كيلو متر اليومية المستمرة طوال العام، وعلى مدى السنين.    

لابد لنا، ونحن نلج مرحلة جديدة من تاريخنا قوامها الحرية والشفافية، ونفتح قلوبنا وحدودنا للعالم الواسع، أن ننظر إلى أوضاع مؤسساتنا وشركاتنا، والتي هي وحدها من تحدِّث عنا وتقدمنا للعالم الخارجي الذي نحتاج إليه في إبرام صفقة، وعقد معاهدة، أو إقامة تحالف، أو إنشاء روابط التعاون التي تبرم في ردهات النادي الدولي الكبير، ذلك النادي الذي لا يمكن لنا أن نحصل على مؤهل إحراز عضويته، والظفر بمقعد بارز فيه بدون إصلاح مؤسساتنا وشركاتنا والنهوض بها.

لا يمكن لنا اقتحام تلك النوادي الدولية وإحراز عضويتها، ونحن نقف مترددين، وأيدينا مرتعشة أمام عبارة واهية، احتواها قانون تأسيس الشركة، وهي عبارة يوقن الجميع ببطلانها، وعدم تمشيها مع أبسط قواعد الجدوى، وفنون إدارة استثمار الأصول.


ترى هل تفلح المحاولات المشكورة التي يقوم بها موظفو الشركة هذه الأيام في إقناع الإدارة الحالية في تطبيق أبسط قواعد الجدوى، وقيامها صراحة بالاعتذار عن أخطاء السابقين من مدرائها، والإقلاع عن سياسة النفاق الإداري التي أدمنتها الإدارات السابقة، والمسارعة في إزالة وصمة العار التي اقترفتها تلك الإدارة المشئومة التي اقترفت ذات يوم من أيام الدكتاتورية السوداء، وبدون مبرر يذكر، جريمة ارتكاب نقل مقر الشركة، وذلك قبل خمسة عشر عاما مضى.

ولمن لا يعلم فإن شركة الاستثمارات الخارجية كانت تقتسم البرج رقم 2 بمجمع ذات العماد، مع المصرف الخارجي، والذي شمله نفس القرار الدكتاتوري القاضي بنقل مقرات الشركات من طرابلس، غير أن ثقل عقل من كان يدير المصرف الخارجي حال دون نقل المصرف، أما شركة الاستثمارات الخارجية فقد سابق مديرها الخفيف الزمن كي يطير بها إلى غريان إذعانا لأوامر أسياده السفهاء! 

محمد الشيباني







ليست هناك تعليقات: