سنة أولى ديمقراطية"19"
يوم انتخابات المؤتمر الوطني
يوم درسٍ
وترشيحٍ وانتخاب
أم
يوم عُرسٍ
وتصعيدٍ وانتهاب؟
شقَّ هذا العنوان الطويل
الصادم طابور دروس سنة أولى ديمقراطية، وأخذ مكان أحد هذه الدروس المعنية بالإجابة
عن السؤال الكبير: "من نحن؟"، وذلك بسبب تزايد وتيرة إيقاع العرس
الديمقراطي الليبي القادم.
أجل، فما هي إلا
خمسة أشهر، يكون فيها الطقس قد مال إلى الدفء، وخفف عنا ثقيل ما نحمل من ثياب، وفي
ذلك الجو المنعش تحلو التجمعات واللقاءات في الهواء الطلق نهارا، وتحت ضوء القمر الشاعري
الخلاب ليلا. تحلو أيضا هذه التجمعات واللقاءات في أحضان (مرابيعنا) الرحبة
المهيأة بكل ما يليق بمجالس أبناء القبيلة الأشاوس وأعيانها المبرزين.
في عنفوان الحملة الانتخابية
يبلغ فصل الربيع نضجه ومداه، ويصل لحم الخروف والجدي الوطني الشهي قمة لذته بما حمل
في أنسجته من عصارة أعشاب ربيعية فواحة، كما أن دقيق الشعير الموسمي الجديد هو
الأخر يكون في قمة إغرائه لعشاق البازين بلحم الخراف اللذيذ السمين.
ترسم جلسة اللقاء على تناول أكلة البازين الشعبية
المعروفة بطقوس أكلها المميزة الباعثة على التحدي وإظهار القوة، خلفية معبرة جدا لملحمة
التصعيد، حيث يجتمع أفراد القبيلة الواحدة، ويتحلقون في دوائر معروفة العدد محكمة
النظم محددة الهدف كما لو أنها كتيبة فرسان أشداء مغاوير، حيث يقوم أفراد القبيلة
الكتيبة، وفي وقت واحد، بغمس أيديهم في
مرق واحد لا تفصل بينه حدود، وحيث يدني بعضهم إلى بعض اللحم الطازج اللذيذ، وذلك في
تأكيد واضح جلي لمبدأ الرابطة واللحمة العرقية القبلية المقدسة، وتكريسا لاختلاط
وتشابك وتضافر مصالح أبناء القبيلة الواحدة، وأولا وأخيرا تجسيدا لاختلاط دم كل
أبناء القبيلة اختلاط وامتزاج مرق البازين.
زهور وورود الربيع
هي أيضا سوف يملأ عبقها المكان محفزا هرمونات التستستيرون
المجنون على مضاعفة إفرازاته السيالة في أدمغة ذكور قبائلنا المغاوير، صانعا لهم
هذا الهرمون السحري من نسيج النشوة أجنحة من العنفوان الذكوري المعربد، شاحنا
إياهم بروح التحدي القبلي العارم الذي سيصد كل ابن أنثى ويدحره، إذا ما سوَّلت له
نفسه مجرد الاقتراب من خط القبيلة الأحمر، أو حدثته دخيلته بالاستحواذ على جزء من
نصيب العائلة وكرسي القبيلة في الكراسي المائتين للمؤتمر الوطني، أو سواها من
كراسي ومراكز يسترخص من أجلها كل غال، وذلك مهما بلغت كفاءة هذا الذكر، أو علت
أخلاقه، أو لامس في صلاح دينه ومخافته الله الجوزاء.
في ذلك الوقت تكون
أخبار قيام الدولة الليبية الجديدة قد وصلت إلى أسماع وأذهان كل رجال القبائل
الليبية في شتى أصقاع القطر الليبي الرحب، وتكون كراسي الحكم والمراكز الوظيفية
المرموقة في غاية تبرجها وكامل زينتها وإثارتها التي لا تقاوم، مما سيدفع بكل
فرسان القبائل الليبية إلى استنفار أنفسهم، وتجميع صفوفهم من أجل الاستحواذ على
حصة القبيلة في كعكة الدولة الوليدة.
في مايو القادم
تتشكل الخريطة القبلية الليبية الجديدة، آخذة في اعتبارها أحداث عام 2011 التي هزت
وبعنف شديد بنية الجسم الليبي السياسية والاجتماعية، كما هزت وبعنف أكبر وأشد البناء
القبلي الراسخ العتيد.
موسم التصعيد
القادم ليس كسابقه من التصعيدات الجماهيرية البائدة محدودة البراح، منزوعة السلاح،
بل هو تصعيد يملك كل طرف فيه من العتاد والرجال ما يكفي للذود عن حياض القبيلة
والأخذ بثأرها السياسي والاجتماعي المخدوش، أو التأكيد على انتصارها المشهود في
تلك المعركة التي ابتلي بها الوطن الليبي الجريح.
هذا ما تبدو عليه
صورة العرس التصعيدي القادم. أما ما تبدو عليه صورة العرس الانتخابي البكر، فهي
صورة أقل إثارة من سابقتها، ولكنها أعظم وأجل في قيمتها وخطورتها، والتي تبدو من
بعض زواياها كما يلي:
في موعد
الانتخابات القادمة يُفترض أن الربيع الديمقراطي الليبي طويل الشتاء باهظ الثمن
عظيم البلاء قد أينعت ثمراته وحان قطافها، وأن ألذ وأشهى هذه الثمار هي ثمرة لم
يسبق لأي ليبي أن رآها أو لمسها بيده، فضلا عن اقتنائها وتذوقها؛ إنها الانتخابات الديمقراطية
الحرة البكر، والتي سيختار الليبيون فيها من سوف يوقع نيابة عنهم على أخطر وأهم
وثيقة، ألا وهي وثيقة العقد الاجتماعي الليبي
الأول.
أجل إنها انتخابات
أعضاء المؤتمر الوطني، والتي تعتبر بمثابة حجر الأساس لصرح الدولة الليبية
الديمقراطية الأولى على مدى التاريخ، وإن أقل ما يشترط في انتخاب كهذا هو تراضي
الليبيين كلهم، واصطفافهم جميعا في صفوف متراصة منتظمة، وبيد كل واحد منهم لبنة
ذات رقم وتسلسل غير مكرر، ولها مكان ما بين أحجار أساس بناء ليبيا لا تملؤه لبنة
سواها.
الليبيون جميعهم سيأتون
وبإرادة حرة مكتملة وغير مجروحة بأي تهديد أو إغراء، أو تزوير أو تدليس، ويضعون ما
يحملونه من لبنات أساس دولتهم فوق (الجرد) الليبي الكبير المبسوط على مدى مساحة
الوطن، والذي يمسك كل مواطن ليبي بخيط من خيوط نسيجه المحكم، ثم يقوم الليبيون
جميعهم بحمله ووضع لبنات أساس بلادهم في مكانها الصحيح.
في يوم الانتخابات
المشهود، وفي أجوائه المفعمة بأنبل المشاعر وأصدقها، ينتخب الناخبون الليبيون الراشدون
أكفأ وأصدق وأوفى وأنبل مرشح لأعظم وأخطر مكان، وأي مكان أعظم وأشد خطرا من كرسي
الشخص المسئول على صناعة الدستور، أبو القوانين جميعها والمهيمن عليها.
في غروب شمس ذلك
اليوم المجيد، وبعد نجاح المهمة الانتخابية التاريخية، سيجتمع الليبيون كلهم في
مكان افتراضي واحد رغم تعدد أمكنة تواجدهم الفعلية، وسيتلون فاتحة الكتاب، وسينشدون
نشيد الوطن في ظل علمهم الوطني الخفاق.
إنه حقا عرسٌ كبيرٌ،
وزفةٌ مشهودة!
وإنها حقا لليلة سعيدة،
يبدأ مع طلوع صبحها البهيج التقويم الليبي الجديد، مؤذنا بانطلاق قطار تيبست
عجلاته العقود الطوال.
ولكن، وآهٍ من
لكن!
ولكن كيف نقرب بين
صورتي العرسين القادمين المتناقضتين، عرس التصعيد الشهي العبثي المربوعي البازيني
النفعي الانتهازي القبلي، وعرس الانتخاب الديمقراطي الجاد المتشبعة أجواؤه
بالمسئولية التاريخية المقدسة الكبيرة العظيمة قداسة وكبر وعظم وصية عشرات آلاف
الشهداء الذين قال جميعهم وبصوت واحد:
"عروسنا
ليبيا التي أبى مغتصبها تخليصها وتسليمها لنا إلا بعد أن سكر حتى الثمالة بدمنا،
هي حرام حرام حرام على أي عريس تأخر عن موكبنا إلا بحقها"
كيف نقرب بين عرس الانتهاب
القبلي الرخيص بخيس الثمن، وعرس الانتخاب الوطني الغالي باهض الكلفة؟
ليس لدينا مشكلة
مع عرس التصعيد والانتهاب القبلي، ذلك العرس الذي تعرفه كل القبائل الليبية، ويجيد
طقوسه الكثير من رجال تلك القبائل، وذلك بما تراكم لديهم من خبرة، وما أبدعوه من
فنون التصعيد، والمستمدة جميعها كما هو معروف من تقنيات سلطة الشعب، ذلك النظام
الجماهيري الفريد البديع، كما وصفه صاحبه الدكتاتور المريع!
التصعيد والانتهاب
القبلي تقليد مفضوح مقبوح، فقد كل حججه ومبرراته، وذلك لمسئوليته المباشرة عن
الفساد السياسي والإداري الذي رزحت تحت كلكله الدولة الليبية ردحا من الزمن. وهو
بهذا لن يصمد البتة أمام آلية انتخاب متحضرة شفافة رشيدة كثيرا ما استبد بنا حبها وهامت
بها قلوبنا، ونحن نراها في كامل فتنتها وإثارتها وهي تمسك بأناملها الرشيقة الذكية
الرقيقة بخطام أكبر الكيانات السياسية وأقواها في العالم، وفي مقدمتهم سيدة العالم،
أمريكا، وتسوق المليارات من سكان تلك الدول العملاقة في طوابير انسيابية منتظمة،
وبنعومة عجيبة فائقة نحو صناديق بلورية، يحمل كاهلها البلوري الهش أثقالا وأمانة سياسية
خطيرة تنوء بحملها سلاسل جبال الألب والإنديز مجتمعين!
لن يفضل ليبي واحد
عاقل رشيد الثرى على الثريا، والتصعيد القبلي الجهوي المتخلف البائس، على الانتخاب
الديمقراطي الحر، لا سيما بعد انكشاف المستور، وانفضاح أمر المقبور الذي اتخذ من التصعيد
وسعاره مطية مكره وخداعه، ووسيلة تمرير دسائسه ومكائده وترهاته.
ها قد انتهينا من
التصعيد ودفناه إلى الأبد مع بقايا نظام مستبد انتهازي فقد كل مبررات التعلق به،
أو الحنين إلى ملامحه، أو استحسان أي رائحة من روائحه.
مشكلتنا إذن مع العرس الانتخابي الديمقراطي الشاق الجاد والجديد جدا!
وأول ما تقذفنا به هذه المشكلة هو السؤال السهل البسيط:
هل استعد الناخبون
والمرشحون الليبيون للصعود إلى كوكب الانتخابات الديمقراطية المتحضرة الجدية؟
وكالعادة قطع سيف
الزمن البتار، حبل ما لدينا من أفكار، على أن نعاود السير في طريق سنة أولى
ديمقراطية المبين، في الدرس القادم العشرين.
محمد
الشيباني
Libyanspring.blogspot.com