سنة أولى ديمقراطية"17"
ومرة سابعة. من نحن؟
سألت
اللوحة الذكية، ثم أجابت:
**نحن
نعاني من فرط الذكاء الفطري، والتذاكي القهري**
تباينت درجة فهم
الطلبة للعنوان عاليه، إلا أنه، العنوان، أفلح في جعل جميعهم يلتزمون الصمت
والترقب خوفا من التسرع في ردة الفعل السريعة غير المحسوبة، لاسيما وأن العنوان
يطرق زاوية هامة وحساسة، أهمية وحساسية العقل الذي عليه مناط الأمر كله، وبه وحده تعلق
الإنسان فنقله من أعماق وظلمات الحيوانية غير الذكية إلى آفاق وأنوار الإنسانية
العاقلة الراشدة.
قدرت اللوحة
الذكية وضع الطلبة وموقفهم الحرج، فألحقت العنوان بالتعريف المبسط التالي:
الذكاء الفطري هو
فهم الأشياء والتعامل معها بقدر كبير من السطحية. أما التذاكي فهو التكلف في إدعاء
الذكاء.
تراجع الطلبة إلى
الوراء في قعدتهم، وعمهم صمت مريب، يبين عنه شعورهم المختلط بجديد ما عرفوا عن
الذكاء الفطري والتذاكي القهري، وحرج ما يحمله كثيرهم من هذه الصفة غير المحبوبة.
نهض أكثر الطلبة
جرأة، وقال:
ــ ما هذا يا
أستاذ. نحن في هذا الفصل، سنة أولى ديمقراطية، نتعاطى الشأن السياسي العام ودروس
الديمقراطية، ولا شأن لنا بدروس الطب وعلوم النفس!
ــ الديمقراطية يا
بني نظام حكم وإدارة الدول، تلك الدول التي قوامها جماهير الناس، والذين لولا عقولهم
وما تحتويه من ذكاء، وأنفسهم وما تعتمل فيها من مشاعر وأحاسيس، ما كانت لتقوم
الدول ولا الحكومات.
ــ كأنك تعني أنه
بقدر ما يتميز به الناس من ذكاء، تتميز قدرتهم على سياسة أمور بلدهم وفق لعبة
الديمقراطية المعقدة الخطيرة.
ــ أجل. قال
المدرس ثم أردف قائلا:
هذه العلة، علة
الذكاء الفطري والتذاكي القهري، تبدو بسيطة وغير خطيرة، حال كون الشخص المتصف بها يقوم
بملإ مربعات الكلمات المتقاطعة، أو مربعات جدول السودوكو، أو أنه يقوم بتحريك
بيادق لوحة الشطرنج، أو غيرها من ألعاب ذكاء معروفة.
إلا أن هذه العلة
تصبح أم العلل عندما يمسك المتصف بها بزمام الأمر، ويقبض على مقود قيادة العائلة
أو المدرسة أو البلدية أو الشركة، بل وأحيانا نجده يقود بلادا واسعة ممتدة.
عجبا! قال أحد
الطلبة، وهو يزم شفتيه، ثم ألحق تعجبه بسؤاله الاستنكاري: هل سجل التاريخ قط اسم حاكم
بلد مصاب بهذه العلة الخطيرة يا أستاذ؟
أجل إنهم كثيرون،
وآخرهم ذلك الرجل الذي حكمنا أربعين عاما، وهو معتل أشد ما يكون الاعتلال بذلك
المرض العضال، مرض الذكاء الفطري والتذاكي القهري.
سَرَت في الفصل
كله همهمة مصحوبة بأصوات وحركات تعجب واستنكار، فطأطأ المدرس رأسه، والتزم الصمت برهة
تقديرا منه لشعور الطلبة، وطلبا لإعطائه الفرصة في الاسترسال في الحديث حتى يقوم
بشرح إدعائه الذي صدم به الحاضرين.
قال المدرس:
إن تفسير الأمور
والتعامل معها بسطحية مفرطة، وكذا التكلف في إدعاء الذكاء حالة مرضية تولدها،
بالإضافة إلى علل فسيولوجيا الدماغ المعروفة، حادثة أو مجموعة حوادث من ضربات الحظ
غير المألوفة، والتي تضع صاحبها في غرفة تحكم أسطورية، مملوءة بأزرار يستطيع بمجرد
لمس إحداها تحريك بلاد بأكملها.
لابد أنكم تعرفون
الطريقة السهلة المريبة العجيبة التي حاز بها القذافي ورقة يانصيب حكم ليبيا، والشبيهة
كثيرا بفوز شحاذ جائع متشرد ذات ليلة شتوية باردة بورقة يانصيب مليونية.
إن الاستيلاء السهل
والرخيص والناعم جدا على مقاليد بلد بحجم ليبيا، ومن قِبل شخص بسيط صغير كمعمر
القذافي، لابد وأن يترك أثرا ما في نفسية
وعقل من قام به، فيجعله يرى الأشياء أقرب مكانا وأصغر حجما مما هي عليه في حقيقتها.
كما أنه من المحتم أن تكون لهذا العمل المثير في نفس صاحبه توابع وإسقاطات على
أعمال أخرى، لاسيما وأن صاحب العمل لديه ما يكفي من استعداد فطري وظروف تنشئة
مواتية.
مدحرجات ناعمة
كثيرة تدحرج عليها القذافي وبنعومة منقطعة النظير، أولها، بعد نجاح انقلابه، قيامه
بطرد القوات الأجنبية وبقايا الطليان عن ليبيا، وبعدها نجاحه فيما يعرف بالثورة
الشعبية وإعلان سلطة الشعب، وتجييش الشعب ووضعه في معسكرات بكل فئاته، وكذا ما
يعرف بثورة المنتجين وقيامه بتأميم ومصادرة الممتلكات الخاصة، وغير ذلك من أحداث
جسام مارسها القذافي بذكاء فطري وتذاكي بلغت فاتورته ما مقداره تكلفة موت شعب بكامله
إكلينيكيا، وجموده أربعين عاما زمنيا، وتخلفه أربعمائة عام حضاريا.
هذه المدحرجات
الناعمة دحرجت ثم أرجحت القذافي حتى أنسته لياقته وأفقدته وقاره كرئيس لبلد، حيث
يحسب عليه كل ما يقوله من كلام، ويسجل عليه كل ما يقوم به من حركات، وكذا ما
يرتديه من لباس.
بذكاء فطري سمج
كان يتكلم القذافي، فيقول مقنعا من هم حوله بشتى طرق الإقناع بأن شكسبير اسمه
الحقيقي الشيخ زبير، وأوباما اسمه الحقيقي بو عمامة، وبأن الديمقراطية هي تمسمر
الناس على الكراسي البلاستيكية في قاعات المؤتمرات الشعبية الباردة القمئة، وغير
ذلك كثير.
أما أشنع ما مارسه
القذافي من ذكاء فطري مفضوح، فهو لعبه على حبال الوحدة العربية والوحدة الإقليمية،
وذلك لا بنية الوحدة كما هو معلن، ولكن بنية الالتفاف على من يتحد معهم من بلدان لضمها
إلى ملكه. وهو في كل مرة يمارس فيها هذا العمل يقوم باستخدام تقنيته المجربة
والقائمة دائما على ذكائه الفطري وتذاكيه القهري.
أفلح المدرس في
إقناع الطلبة بأن حاكمهم المعمر السابق هو أحد مرضى علة الذكاء الفطري والتذاكي
القهري، وهي مهمة لم تكن صعبة، وذلك لما يحمله الطلبة الثوار في نفوسهم من شعور
غير ودي تجاه دكتاتورهم السابق.
بيد أن السؤال
المهم الذي يتوقع المدرس صدوره من الطلاب في أية لحظة هو:
ما أحقية إسقاط
هذه الحالة، حالة الذكاء الفطري، والتذاكي القهري، على بعض أفراد الشعب الليبي،
وجعلها أحد إجابات السؤال الخطير المتكرر: من نحن؟
سؤال وجيه جدا، وقد
يطرح في أية لحظة، ولكن كالعادة نغص حاسوب اللوحة الذكية على الحاضرين انسجامهم،
وقطع بسكين الوقت حبل أفكارهم، فأنهى الدرس على أن يستأنف تداول موضوعه في حصة
الدرس الثامن عشر القادمة بعون الله.
محمد
الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق