الاثنين، يناير 30، 2012

سنة أولى ديمقراطية 18


سنة أولى ديمقراطية"18"
              
                للمرة الثامنة لا زلنا ندندن حول السؤال الكبير:
                                    "من نحن؟"

الدرس السابق، السابع عشر، انتهى بما ملخصه:

التيقن الكامل بمرض الدكتاتور القذافي بعلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، والذي، وبكل أسف، حكم به الليبيين جميعا أزيد من أربعين عاما. ومن المؤسف أيضا قبول الدول الخارجية كبيرها وصغيرها له وتعاطيها معه، وهي تدرك ما عليه من مرض يفقده أخلاقيا وربما قانونيا الأهلية اللازمة لذلك.  

وكما هو معلوم قصر وقت الدرس الفائت عن الإجابة عن السؤال الأهم، وهو:

هل انتشرت عدوى مرض الدكتاتور بين أفراد رعيته المحجور عليهم سياسيا وفكريا وثقافيا، ولمدة من الزمن زادت عن أربعة عقود؟

علماء النفس والاجتماع يؤكدون حقيقة عدوى الأمراض النفسية والسلوكية بين أفراد الجماعة، وبصورة أشد عندما تكون بؤرة هذا المرض ومصدره في مكان الرأس من جسم هذه الجماعة.

لم يكتف القذافي، مصدر المرض وبؤرته، ومهجنه ومطوره ومسوقه،  بمجرد الوقوف عند رأس الجسم الليبي، وممارسة دوره كرئيس أو ملك أو حتى إمبراطور، بل رأيناه يتخلل الجسم الليبي تخلل الدم الأجساد، ويتدخل بواسطة أجهزته وأعوانه في كل صغيرة وكبيرة. كيف لا وهو لديه من الشيطنة النصيب الوفير!

القذافي يتكلم على مدى ساعات اليوم عبر وسائط إعلامه، ويخترق صوته البيوت والمدارس والجامعات وحتى دور الرعاية والمستشفيات. والأمر ذاته يتكرر مع صورة القذافي وشعاراته التي تصدم العيون، وبدون استئذان، أينما يمم المواطن الليبي المطارد في وطنه وجهه.

الطلاب في مدارسهم، الصغار منهم والكبار، لابد لهم من وجبة إفطار صباحية قسرية قوامها تمجيد الدكتاتور وترتيل تسابيحه. وإذا مروا إلى فصولهم زاحمتهم في ممرات المدرسة وردهاتها صور القائد ومقولاته، وإذا فتحوا كتبهم وتداولوا دروسهم وجدوا نفس الصور ونفس المقولات فيما يقتنون من كتب وما يقرءونه من دروس.

الأمر ذاته ينطبق على الموظف والشرطي والعسكري والطبيب، بل وحتى عابر السبيل الذي، ولكثرة ما يصادف من صور الدكتاتور ومقولاته الكثيرة المتنوعة المتسمرة في واجهة كل شارع وزقاق، تراه مجبرا لا مختارا بأن يجعل تلك الصور المتزاحمة دليلا ومرشدا له، يميز به شوارع وأزقة مغفلة الاسم والعلامة إلا من صورة للقذافي أو شعار جماهيري متكرر ممجوج.

مضى على الليبيين زمن ليس بالقصير، ملك فيه الدكتاتور كل الأثير، فلا موجة راديو متدنية التردد أو فائقته، ولا موجة تلفزيون على أي نظام بث كانت، إلا واقتصر ما تصدره من أصوات، وما تقذف به من صور، على مجرد تأدية الوظيفة الأساسية للإعلام الجماهيري، ألا وهي الحجر على عقول الناس وإلقامهم ما يتقيؤه الدكتاتور.

كل الفرص كانت مهيأة جدا لانتشار عدوى كل أمراض الحاكم المريض، وفي مقدمتها داؤه العضال: الذكاء الفطري، والتذاكي القهري.

طريقة أخرى خبيثة تدعم احتكار عقول الناس ووعيهم وتوجيههم حيث يريد مغتصبوهم، وهي طريقة تجفيف منابع القدوة ومصادر النصيحة والرأي الآخر، وهي طريقة استخدمها القذافي وبشكل ممنهج، ومن خلال أجهزة أمنية وإعلامية ذات سطوة عملت بكل ما تملك من قدرة على حصر قدوة الليبيين في شخصية القائد الرمز وما يصدر عنه من فعل أو قول، بل وحتى طريقة تفكير.

ولا أظنه من المبالغة القول بأن بأس القذافي ومكره بلغ من الشدة والانتشار حد تمثله لبعضنا في صور إبليسية وسواسية، ذلك أن الكثيرين منا كان يشكو من شعوره المرضي الدائم بأن القذافي يلازمه أين ما رحل وحيثما حل.

ــ حسنا. ها أنت يا أستاذ أكدت لنا وجود المرض، الذكاء الفطري والتذاكي القهري، ومكان تواجده وتركزه، كما أبنت لنا طريقة انتشار عدواه من الحاكم إلى المحكوم، ولكنك لم توضح لنا بعد مظاهر هذا المرض على تفكير الناس وسلوكهم. استفهم أحد الطلبة.

أطرق المدرس قليلا، ثم أجاب قائلا:

ــ إن مظاهر هذا المرض في سلوكنا اليومي منتشرة شائعة، ومن أهم الأدلة عليها ما يلون تصرفاتنا من إيقاع متعجل سريع في كل شيء؛ فإذا مررت بجماعة من الناس وسألتهم، مثلا، عن عنوان مكان أضعته، رأيتهم جميعا يتزاحمون، وفي مرة واحدة، ويقذفونك بالإجابات المتباينة، والتي لكثرتها وتزاحمها فإنك تجد صعوبة بالغة في فهمها والاستفادة منها.

وإذا تجاذبت الحديث مع أحد المصابين بعلة الذكاء الفطري والتذاكي، تراه يصدمك وبشكل متكرر بالكلمة الشائعة كثيرا بيننا، ألا وهي كلمة "بالعكس"، أو إحدى مرادفاتها التي تشير بوضوح إلى سطحية المكثر منها، وضيق هامش الحديث معه، وكذا دنو سقف تفكيره ومداه.   

ظاهرة أخرى لهذا المرض نجدها فيما يزخر به حديث الكثير منا من  تلاعب ساذج بالألفاظ والكلمات السوقية وذات المضمون الرخيص وربما البذيء، حيث تلاحظ التسابق الساذج نحو صنع شراك كلامية لبعضهم البعض، وفي غالب الأحوال ذات نكهة جنسية، فيما يعرف (بالغشة)، حتى غدت تلك الشراك التافهة مكونا ثقافيا يتناقله جيل عن جيل.

من مظاهر ذكائنا الفطري وتذاكينا إعراضنا عن قراءة كاتالوجات ما نقتنيه من أجهزة وآلات، وقيامنا برمي هذه الكاتالوجات في سلة المهملات كما لو أنها بعض من مغلفات تلك الآلة، بل وربما اعتبرها بعضنا أشياء زائدة لا قيمة ولا أهمية لها.

من صور فرط ذكاءنا الفطري وتذاكينا إهمالنا للكتاب أيا كانت صورته وتفضيل الكثيرين ،وخاصة الشباب، في تحصيل ما يريدون من معلومات على وسائل أخرى غير الكتاب، كالمحاكاة أو الأسئلة الشفوية القصيرة السريعة.

الذكاء الفطري والتذاكي القهري صورة من صور الجهل المركب، ورافد من روافد القصور المعرفي المزمن، حيث تجد المصاب بهذه العلة يأنف من كل صاحب علم؛ فيعتبر من تكلم بالعربية الفصحى متقعرا، ومن استدل بآية أو حديث متفقها، ومن نزع إلى الحكمة ومال إلى التأمل والتحليل متفلسفا، وهكذا.

كذلك شكل الذكاء الفطري رافدا مهما من روافد الإشاعة غير ذات المضمون الخالية من الحقيقة، والتي تنتسب بشكل واضح إلى ذلك الجيش من الناس ذوي التفكير السطحي، والذين يسارعون بتصديق كل ما يقال ونشره في اللحظة والحال.
الذكي فطريا والمتذاكي قهريا يلح في تسول انتباه الآخرين، مما يوقعه في حرج شديد، وخاصة عندما يفرط في إلحاحه. وكثيرا ما يكثر الذكي فطريا من عبارة"فهمتني؟" أو "غير افهمني" أو "لا.لا. إنت ما زال ما فهمتنيش"، وغيرها. ألم يصف القذافي جميع الليبيين بأنهم دون مستوى تفكيره، وبأنهم قاصرون عن فهم نظريته الكونية الثالثة!

هذا على مستوى المنتوج اللفظي لعلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، أما منتوج هذه العلة على مستوى الأفعال فهو سيء الأثر باهظ التكاليف.

من هذه المنتجات ما يعرف بسوء الفهم، ولدرجة أصبح فيها سوء الفهم هذا شائعا وسائدا بيننا، بل ويستخدمه بعضنا لصالحه عندما يبرر أخطاء جسيمة ارتكبها.

كم مرة اشتعلت المعارك الدامية والخصومات العميقة بين اثنين أو أكثر، ثم إذا بحثت عن سبب ذلك فلا تكاد تجد له سببا يذكر سوى ذلك المخزون الهائل لدى المتخاصمين من خصلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري، ذلك المعين الذي لا ينضب لظاهرة سوء الفهم القاتلة.

وإذا حاولنا البحث أكثر في تداعيات هذه العلة وعلاقتها فيما يعرف بسوء الإدارة، ذلك السرطان الذي هتك جسم الدولة الليبية، نجد أن  سوء الإدارة هذا ينهل كثيرا من مورد الذكاء الفطري والتذاكي القهري. ذلك أن جل من أفرزتهم الحقبة السابقة من مدراء نافذين هم من أولئك الثوريين الذين قدموا أول ما قدموا من ثمن لقاء اعتلائهم المناصب المرموقة هو تعطيل الخلايا الراشدة في عقولهم، وتطويع هذه العقول وإجبارها على الركوع حتى تتمكن من الدخول إلى الخيمة الجماهيرية التي لم يدخلها كائنا من كان إلا وهو راكعا ودائسا على ما منحه خالقه من جوهرة عقل وضياء فكر ومسحة وقار ولياقة.


أخطاء إدارية مضحكة مبكية لا يكاد يخلو منها مكان، ولا يكاد يلمحها ذو جنان، حتى يلاحظ وبوضوح الكمية الهائلة من الغباء وسوء التقدير التي تكتنف هذا العمل أو ذاك، وما أكثر ما يردد الواحد منا عبارة" لعب فروخ" كلما صدمته هذه المشاهد والأعمال التي يقوم بها أناس مسئولون ولكنهم فطريو الذكاء مفرطو التذاكي.

إن ما نتصف به من جلافة وغلظة مشاعر وغياب تبسم ووجه طلق،  يتصل اتصالا مباشرا بما يعتمل في عقولنا من شكوك وسوء ظن بمن حولنا. وهي شكوك في الغالب الأعم تنهل من ذلك المعين الآسن والمورد النتن، الذكاء الفطري والتذاكي القهري.

مريض الذكاء الفطري والتذاكي القهري لابد أن يكون سريعا في ردة فعله، وهي صفة عندنا منها الكثير، حتى أننا وفي تعاملنا مع أناس متحضرين من دول بعيدة عنا، يخرج البعض منا بانطباع مفاده بساطة وبطء ذكاء أولئك الناس، بل ويأخذنا هذا الشعور إلى أبعد من ذلك، فنظن نفسنا قوما موهوبين وعلى درجة من الذكاء تفوق كثيرا ما يتمتع به الأوربيون والأمريكان، وربما اليابانيون، وذلك لا لشيء إلا لسرعة ردود أفعالنا مقارنة بهم.

قصور الذكاء وفطريته علة لها من بيئتها نصيب، حيث يمتد ذكاء الإنسان ويعلو بامتداد المدى والأفق الذي يتحرك فيه عقله وفكره. والعكس بالعكس. وعلى ذلك يمكن تشبيه علة قصور الفكر وتكاسله وفطريته وبساطته بعلة قصور النظر التي يتصف بها سكان المناطق الضيقة المحصورة، وذلك بعكس سكان المناطق المفتوحة ذوي الإبصار الحاد الممدود.

وبذا يمكن رد علة تفشي ظاهرة الذكاء الفطري والتذاكي القهري بيننا نحن الليبيين إلى إدمان ضرب الدف الذي كان يمارسه حاكمنا السابق على إيقاع ذكائه الفطري وتذاكيه المؤكد، وإرغام من هم دونه على الرقص على هذا الإيقاع المخجل. وكذلك علة الحجر على الفكر والذهن وتكبيله داخل الحظيرة الجماهيرية الضيقة القمئة، وهوعمل تمت ممارسته بشكل متعمد ممنهج.

ــ ولكننا ثرنا، يا أستاذ، على كل ذلك، وحطمنا الحظيرة الجماهيرية، وأزحنا مصدر هذه العلة ودفناه إلى الأبد، وبذا منعنا تسرب عدوى هذا المرض الخطير. قال أحد الطلبة.

هذا صحيح. رد المدرس، ثم استطرد قائلا:

ــ تعلم يا بني أن أمراض النفس والعقل، الموروث منها والمكتسب، هي من الأمراض السريعة العدوى الطويلة الاستقرار في الجسم، وهي بهذا بطيئة المداواة والاضمحلال. وإن الكثير مما نعانيه الآن بعد نجاح الثورة من سوء تصرفات الكثير منا وعدم انضباط ردات أفعالهم وسوء تقديرهم، بل وممارسة الأعمال العدوانية المخالفة لكل قانون وشرع، وكذا التقاتل المحموم على ما يسميه البعض غنائم معنوية كانت أم مادية. كل ذلك ما هو إلا بقايا آثار ذلك الاعتلال المتراكم عبر الزمن، والذي اتخذ من عقولنا مأوى له،  فأصابنا بعلة الذكاء الفطري والتذاكي القهري.
   
أخطر ما في علة الذكاء الفطري والتذاكي القهري يكمن في اعتقاد صاحبها أنه موهوب الذكاء فائق الحصافة والتفكير، فتتراكم أخطاؤه حتى تحجب عنه ضياء المعرفة وأنوار الحقيقة. بل ربما ساهم الذكاء الفطري والتذاكي القهري فيما يعانيه كثيرنا من خواء ثقافي وتصحر معرفي رهيب.

الذكاء الفطري والتذاكي القهري مرض خطير وخطير جدا، ويكاد يشتبه بوجوده وراء كل قول أو فعل قاصر وضار، وهو بهذا أخطر من الجهل نفسه، ذلك أن الجاهل كثيرا ما يكون مترددا قبل ارتكابه الفعل الخطأ، ويعتريه الندم بعده. أما الذكي ذكاء فطريا والمتذاكي، فعادة ما يكون ممتلأ بالجرأة مشحونا بالاندفاع، كما أنه لا يعتريه الندم بعد ارتكاب حماقته.

ــ ولكن ما علاقة كل هذا يا أستاذ بالشأن الديمقراطي الذي نكب على دراسته؟ سأل أحد الطلبة.

ــ لا يمكن للذكي فطريا والمتذاكي قهريا أن يكون شخصا ديمقراطيا على الإطلاق، وذلك لما يتصف به من عيوب ذهنية وسلوكية جسيمة.

ــ ما العمل يا أستاذ؟

ــ  السعيد من اتعظ بغيره، لا من وُعِظ  به.
وعلى هذه العبارة ختمت اللوحة الذكية الدرس الثامن عشر.  


محمد الشيباني
Libyanspring.blogspot.com



ليست هناك تعليقات: