الأحد، يناير 22، 2012

سنة أولى ديمقراطية 16


سنة أولى ديمقراطية " 16 "  
                      
                      ومرة سادسة من نحن؟

انتهى الدرس السابق بطرح هذين السؤالين الخطيرين الآتيين:

س1ــ هل عملية الثورة على  رمز الاستبداد وهزيمته لا تتم إلا بقيامنا بعملية إزالة رحم تكون المستبدين وحضانتهم، وبطريقة يستحيل معها تكون أي جنين استبدادي آخر في الجسم السياسي الليبي، وبالتالي انقطاع سلالة المستبدين من شجرة السياسة الليبية، وضمان كامل بعدم تكرر ولادة أي مستبد جديد يحمل جينات وصفات ذلك الدكتاتور السابق؟

س2ــ هل حادثة قيامنا بالثورة أحدثت في فيسيولوجيا أدمغتنا تأثيرات بنيوية وأسوارا وقائية صادة لأي نوع من أنواع فيروسات القابلية للاستبداد مهما تحورت واتخذت من أشكال؟

الجواب:
  
........ وقبل أن تطرح اللوحة الذكية إجابة مقترحة لهذا السؤال، نهض أحد الطلبة وأجاب متسرعاً:

ــ عملية الثورة التي خضناها، يا أستاذ، استأصلت الطاغية المستبد بكل التصاقاته التي زرعها في نسيجنا الليبي. والفضل في ذلك يرجع إلى عمق تغلغل مشرط الثورة وبطريقة تختلف عن توأميها الثورة التونسية والمصرية.

ــ لو دققت يا بني في السؤال بما يكفي، لما تبرعت بهذه الإجابة المتسرعة. قال المدرس مبتسماً!

ــ كيف. ما الذي فاتني فهمه في ثنايا السؤال يا أستاذ؟

ــ معقِد السؤال كما تبينه ألفاظه هو الرحم المضيف  للجنين الاستبدادي، وليس الجنين الاستبدادي نفسه. فليس ثمة جنين أيا كان يستطيع فرض نفسه على مكان استضافته والتغلغل فيه إذا كان هذا المكان رافضا له. وإذا ما تم رفض هذا الجنين، فإن موته ونهايته تضحى محتومة مؤكدة.

ــ لم أفهم يا أستاذ. هلا فصلت أكثر؟

ــ أقصد أن مشكلتنا تكمن في قابلية أرحامنا المفرطة في التقاط ما هب ودب من أجنة دون ترددها ولو قليلا،  حتى تتأكد من أصالة وصلاح الجنين. فمستبدون كثر، ربما ليس آخرهم دكتاتور ليبيا، جاءوا من أعماق المجهول فتلقفتهم أرحامنا وحضنتهم ليفعلوا ما فعلوا فيها.

ــ ما من مستبد يا أستاذ إلا ووراءه قوة معادية، خلَّقته في مختبراتها وفق الطريقة التي تريد، ثم أسكنته قسرا في أرحامنا. هذا ما قرأناه وتعلمناه.

ــ تلك هي نظرية المؤامرة التي قضينا أعمارنا نعلق على مشاجبها كل مصائبنا. فما من مستبد سامنا أصناف الهوان إلا  وألحقنا نسبه العرقي أو الفكري بأناس آخرين وقوى معادية بعيدة.

قيل الكثير من مثل هذا في مستبدين من بني جلدتنا حكمونا بالحديد والنار، ورغم امتداد السنين وتبدل الأحوال إلا أن الدلالة القطعية بارتباطهم بالاستعمار الذي كنا ننسبهم إليه لم تؤكد.
قيل عن صدام حسين أنه صناعة أجنبية، وأن حربه لإيران واحتلاله الكويت كان بقرار أمريكي. كما قيل عن القذافي ما قيل من أصوله اليهودية، وبأن الأمريكان والانجليز هم من جاءوا به إلى سدة الحكم. وقيل غير ذلك كثير.

ــ وهل عندك شك في هذا يا أستاذ؟

ــ لقد تعرض الاثنان؛ صدام والقذافي إلى بأس شديد من قِبل مِن كنا نظنهم شركاء لهما فيما ارتكباه من جرائم بحق شعبيهما ووصل هذا البأس حد إسقاطهما وتعمد قتلهما ومن حولهما، إلا أن أياً منهما، ورغم ما تعرض له من ضغوط شديدة من شريكه المفترض، وما واتته فيه من فرص لفضحه لم ينبس ببنت شفة، أو ينشر مستندا واحدا أو وثيقة يتيمة تدين شريكه الإمبريالي المفترض، وهو يعلم مدى الضرر الذي يمكن أن يلحق أي حكومة ديمقراطية غربية عندما يكتشف شعبها وإعلامها تورطها في عمل سياسي كبير مع ملازم صغير أو حتى جنرال كبير يعاني من بارونايا لا شفاء منها كالتي كان يعاني منها صدام والقذافي!

نظرية المؤامرة، في نظري، هي ذاتها نظرية مؤامرة كان المستبدون أنفسهم يصنعونها ويسوقونها لنا حتى التقطنا الطعم واقتنعنا بأن دولة عظمى وراء الصعلوك الذي حكمنا، ولدرجة حولت هذا الصعلوك في عيوننا وأفكارنا الى وكيل وحيد وحصري لكل قوى العالم، بل صار في تصورنا عملاقا لا يسقط إلا بحرب كونية.

ونظرا لما لمسه الحكام المستبدون من جدوى هذا العمل، نظرية المؤامرة، توسعوا فيه حتى أشاع بيننا آخرهم، القذافي، ارتباطه بقوى كبرى تتجاوز البشر وحكوماتهم الأرضية إلى الجن وممالكهم الكونية.

أما دليلي الآخر على ما أقول فهو، وبافتراض أن أطرافا خارجية عظمى وراء الإتيان بدكتاتور ليبيا السابق مثلا، فكيف استطاعت هذه القوى الخارجية أن تسوق الليبيين بالآلاف خلال الأسبوع الأول من الانقلاب، وليقيموا احتفالات جماعية احتفاء بولادة هذا الدكتاتور الذي لم يفصح حتى عن اسمه؟ 

هذا أمر يصعب تصديقه!

ــ تقصد يا أستاذ أن الشعوب بحضانتها الغبية لكل مغامر إنما تقوم بتحويل هذا المغامر الأخرق إلى زعيم وقائد وبطل؟

ــ أجل، فمعمر القذافي مثلا كان في سنوات حكمه الأولى يتسول الحضانة في كل مكان، ومن كل من هب ودب. كان يتردد علينا في الجامعة ويشاركنا شرب الشاي في الأقسام الداخلية، ويستدعي إلى مكتبه طلابا مغمورين نعرفهم، وذلك لا لشيء إلا لنسج شرنقته وإحكام بناء صدفته التي احتاجت منا إلى عشرات آلاف القتلى من أجل كسرها.

ــ تعني أن رحم الدكتاتور ليس فقط محل تخلقه الأولي، والذي يمكن أن يحدث في أي مكان على الأرض وفي أكثر الدول تحضرا، ولكنه يعني بشكل أساسي البيئة الحاضنة للدكتاتور بُعيدَ ولادته وخروجه المريب على الناس.

ــ أجل هذا ما أعنيه بالضبط. وحتى يمكننا فهم الموضوع بسهولة أكثر نعقد مقارنة بسيطة بين الجو التأييدي الاحتفالي الأسطوري الذي حظي به الملازم الانقلابي معمر القذافي عندما أمسك بالسلطة وظهر على الناس، وبين ما يعامل به رئيس المجلس الانتقالي أو رئيس الحكومة حاليا.

ــ أجل الفارق كبير بين الحالتين. ولكن هل هذا يعني أننا قمنا بإزالة كل عوامل وهواجس تشكل البيئة الحاضنة للدكتاتور.

ــ كلا. إن هذه الحالة كأي مرض اجتماعي آخر لا يثبت فيروسه دائما على هيئة معتادة واحدة، بل إنه كالكثير من فيروسات الأمراض الجسمية القاتلة التي كثيرا ما تعمد إلى تغيير أشكالها وملامحها من أجل التمويه على وسائل علاجها ومحاربتها، ومن تم المحافظة على بقائها وديمومتها.

ــ ما هذا يا أستاذ. كلامك هذا محبط لنا نحن الثوار كثيرا!

ــ كيف؟

ــ كأنك تريدنا أن نبقى في خنادقنا، ولا ننزع أصابعنا من على زناد بنادقنا، وذلك في انتظار الدكتاتور المقبل في الهيئة الجديدة المقبلة!

ــ إنك مرة أخرى تقع في سوء التدقيق!

ــ ماذا تعني يا أستاذ؟

ــ ألم أقل لك أن العدو الذي نعنيه يتحور ويتبدل، وبالتالي فإن السلاح الذي يجب أن نحاربه به هو الآخر يجب أن يتغير ويتبدل، وربما كل السلاح الذي تحملونه الآن، من بنادق ومدافع وغيرها، يفقد جدواه مع ظاهرة استبدادية أخرى تختلف كثيرا عن سابقاتها.

ــ ألغزت علينا الأمر يا أستاذ!

ــ كلا. ألم نتفق على أن البيئة الحاضنة لدكتاتورنا السابق هي التي مكنته منا. وأن هذه البيئة الحاضنة ما هي إلا نحن الليبيين بما كنا عليه من أمية حرف وفكر، وضيق أفق، وانحسار مدارك، ومشاعر عصبية وقبلية، وبراغماتية فردية ضيقة، وروح انهزامية، وكثير كثير غير ذلك من مسببات وحوافز مرض، وأيضا مثبطات علاج وعافية.

ــ هذه الإشارات السلبية الكثيرة يا أستاذ، وبرغم ما قمنا به من ثورة، إلا أنها لا زالت تلون وطننا، وتشكل ملامح حاضنة لدكتاتور ما يأتي من وراء الغمام. أليس كذلك؟

ــ بلى. هذا ما أراه أنا أيضا.

ــ ما الحل يا أستاذ. أعني الإجابة عن السؤالين عاليه؟

ــ أما وقد تأكدنا بأكثر من دليل بأن كل المستبدين الذين عرفناهم إنما ترعرعوا في حضن تخلفنا المقيت، وأن أول ثدي رضعوا منه لبن جبروتهم هو غفلتنا وقلة علمنا وانحسار مداركنا وما نحن عليه من انهزام وتشتت صف واختلاف رؤيا وتعصب قبلي وأمية فكرية وغير ذلك من أمراض معنوية. فما علينا والحال كذلك إلا تجريد أسلحتنا وإعلان الحرب على هؤلاء الأعداء مجتمعين.

وفجأة قام أحد الطلاب الثوار وقذف ببندقيته على الأرض قائلا:

كل العلل والأمراض التي ذكرت يا أستاذ لا يجدي معها نفعا هذا السلاح الناري البليد الذي أرهقني حمله.

حقا ما تقول. رد المدرس، ثم أضاف:

على كل منا، وقد أدرك مشكلة الوطن، أن يهب لإنقاذ الوطن بأمثل طرق الإنقاذ وأنجعها، وتحويل كتائب الثائرين إلى كتائب معلمين وناصحين وبنائين، وكذا تحويل أسلحتهم النارية إلى كمبيوترات وروبوتات سريعة جبارة نعوض بها قصورنا وتخلفنا ونحن نسير بسرعة السلحفاة التي أدمناها السنين الطوال.

استوعبت اللوحة الذكية فحوى الحوار الذي جرى بين الطلبة والأستاذ، وأعلنت كفاية ما ذكر للإجابة على السؤالين المطروحين في أول الدرس، والذي اختزلته في كلمتين جعلتهما عنوانا لدرس آخر مقبل، وهاتين الكلمتين هما: 
                          
                               "التنمية البشرية"


محمد الشيباني
Libyanspring.blogspot.com


 

ليست هناك تعليقات: