أمراضنا الاجتماعية العامة، وأمراضنا النفسية الخاصة. هل من علاقة. وماهو
العلاج؟
ـــ 28 ـــ
عنونتْ اللوحة
الذكية لفصل سنة أولى ديمقراطية الدرس الثامن والعشرين بالعنوان عاليه، وذلك
تواصلا مع ما تضمنه الدرس السابق من
محاولة تشخيص مرض توابع بنج الدكتاتورية، ونقيضه فياجرا الديمقراطية، واعتبار كليهما
حالة مرضية نفسية اجتماعية. كما أخذت اللوحة الذكية في الاعتبار ما ركز عليه
الحاضرون من ضرورة اقتراح علاج العلل، وليس مجرد الإسهاب في وصفها وتشخيصها. ذلك
أن العلاج أفضل بكثير من جلد الذات، والاكتفاء بالصراخ والنحيب فوق رأس المريض.
عرض الدرس السابق لعلتين
ليبيتين بامتياز؛ إحداهما توابع نوبة البنج القديمة العميقة التي سببها لهم فيروس
الدكتاتورية الشرس الذي سكن الجسم الليبي المبتلى، ولعقود طوال، وثانية هذه العلل جديدة
جدة حدوثها، والتي تمثلت في ردة فعل الليبيين بعد خروجهم بشكل مفاجئ من ظلمة
سراديب مغتصبهم المعتل نفسيا، إلى ألق ضحى الديمقراطية الخاطف للأبصار، وانطلاقهم
على الفور في مضمار الديمقراطية الطويل الشاق، وذلك دون المرور بمرحلة التهيئة والتسخين
الضروريتين لخوض مباراة لعبة الديمقراطية المجنحة الرشيقة، بعد التقوقع في كهوف الدكتاتورية
المخدرة المعيقة.
إن طلب العلاج من
قبل المستهدفين به يعني، في حد ذاته، توفر الحد المطلوب من كيمياء التواصل فيما
بينهم، كما يشير إلى توفر القبول بنتائج
التشخيص، وكذا مطاوعة المعالج، وتقبل علاجه، وكلها مؤشرات وعلامات إيجابية مشجعة.
"التشخيص نصف
العلاج"، هي عبارة جرت على ألسن الكثير من الناس، وذلك عند كلامهم عن أمراض
البدن. وإذا صح هذا، وأمكن تطبيقه على علل المجتمع، كمخلفات علة البنج الدكتاتوري،
ونوبات الهيجان الديمقراطي، فإن ذلك يضعنا في نصف الطريق الموصلة إلى البرء الكامل
من أهم أمراضنا الاجتماعية الراهنة الخطيرة.
بيد أننا سرعان ما
نصاب بالإحباط عندما يتكشف لنا الفرق بين دبيب المرض البدني المحدود، وعربدة
وهيجان المرض الاجتماعي الممدود. فمهما بلغت شراسة الأمراض البدنية، فإن إمكانية الأخذ بنواصي المرضى،
والإمساك بتلابيب مسببات أمراضهم من فيروسات وغيرها، ووضعهم جميعا على طاولة
المختبرات، وفي بؤرة مناظيرها الحادة، وإخضاعهم للتجارب المخبرية، قد سهل كثيرا
الخلاص من هذه الأدواء، وإنقاذ حامليها.
الأمراض الاجتماعية
التي تكتنف المجتمع الليبي الآن، والتي هي محل موضوعنا، تشبه إلى حد كبير الأمراض
النفسية الفردية المعروفة، وذلك لتشابه كليهما في صعوبة إقناع المريض بعلته، وعسير
جره إلى مشفاه، ومن تم مباشرة علاجه. هذا بالإضافة إلى أن الأمراض الاجتماعية أوسع
انتشارا وأكثر تعقيدا، حيث يتطلب علاجها التعامل مع جماهير الناس المتباينين
ثقافة، المختلفين عادات وتقاليد.
برغم ما يبدو على
هذه المقدمة من طول وركاكة، إلا أنها أفلحت في الوصول بنا إلى ما يلي:
1ــ منطقية الربط بين
العلل الاجتماعية العامة، والعلل النفسية الفردية.
2ــ الخطورة والأهمية
النسبية الفائقة للأمراض الاجتماعية العامة.
3 ــ طريقة العلاج
الوحيدة للعلل الاجتماعية، كما هو حال توأمها النفسية الفردية، تقتصر على ضرورة اقتناع
المريض بمرضه، واشتراط مطاوعته من أجل مداواته وعلاجه.
إن عملية إقناع المجتمع
بكامله، وعلى مختلف أصنافه وثقافاته وعاداته بوجود وحش مفترس في ثنايا تفكيره
وسراديب وعيه، هي الخطوة الأولى والمفتاح الرئيس الذي لا يمكن تجاوزه أو القفز
عليه. وهي عملية أكد التاريخ ضرورة البدء بها عند الشروع في إصلاح مفاسد الناس، ووضعهم
على سكة الصلاح والرشاد.
يتجلى ذلك واضحا
عند تصفحنا لسير الرسل والحكماء والمصلحين، وحرصهم، وهم يعالجون مجتمعاتهم، على
البدء بالصدمة الأولى المشحونة بتراكمات سوءات تلك المجتمعات، ووضع جبل سوءات
الناس في بؤرة أبصار الناس، ومركز بصائرهم،
ووسط أحاسيسهم ومشاعرهم.
يقرب لنا هذه
الفكرة أكثر، ذلك الذي يقوم بفعله طبيب البدن، وهو يجس بأصابعه، وأحيانا بمطرقته جسم
المريض، حيث يقوم وبطريقة شبه عشوائية بالضغط على أمكنة كثيرة مشبوهة في الجسم
الملقى أمامه، باحثا عن ضالته. وفي المكان الذي يصرخ فيه المريض من شدة ألم الضغطة،
نرى الطبيب يتنفس الصعداء فرحا بما صادته أنامله.
ما لم يحس المجتمع
بألم ضغط أصابع المصلح، ويئن من شدة صدمة مصارحته له بعلله، لا يمكن لهذا المجتمع المريض
أن يبدأ في ممارسة عملية علاجه، وإصلاح أمره.
وعندما يتأكد
المعالج بأن المجتمع تلقى صدمة مواجهته بعلله وعيوبه، وبأن المجتمع قد تنبه لما
يحيق به من خطر، يطلق المصلح إيعازه للمجتمع بالاصطفاف أمام صيدليات التوعية
الاجتماعية والقانونية والسياسية وغيرها، والتي وبمجرد ولوجها، وتناول ما تحويه من
بلاسم، يبدأ العد العكسي لانطلاق قطار تحضر المجتمع وخروجه من نفق المرض وسرداب
الموت.
في المقالة
السابقة، أوضحت أن المجتمع الليبي خضع لعملية تخدير طويلة الأمد عميقة المدى، ثم
كتب الله له النجاة من موت سريري ربما كان سيستغرق نفس المدى الزمني أو أطول.
ومؤخرا، وبفعل الثورة انخرط مجتمعنا في نوبة هيجان فياجري ديمقراطي لا زال قائما،
وهو وضع لا يقل خطورة عن سابقه، بنج الدكتاتورية القاتل الصامت!
العلل النفسية الفردية، والعلل الاجتماعية العامة. مقاربة من أجل العلاج.
افترضت فيما سبق وجود تشابه ما فيما بين العلل النفسية
الفردية، والعلل الاجتماعية العامة، وأعود وأتكئ على هذا الافتراض من أجل استخدامه
في الاقتراب من العملية المعقدة الصعبة، ألا وهي عملية إقناع المجتمع المريض بحقيقة
مرضه، حتى نتمكن من فتح فمه، وإلقامه كبسولة العلاج الضرورية.
الإحصائيات البريطانية تقول بوجود شخص واحد، من بين كل
أربعة أشخاص إنجليز، يعاني من مرض نفسي ما، وأن عليه القيام بمراجعة الطبيب النفسي
المختص.
غالب الظن أن المرض النفسي الذي عنوه الإنجليز ليس
اختلال وظائف المخ الفسيولوجية، وما تنتجه من أمراض عصبية بارزة، كالصرع أو الفصام،
بل ربما عنوا تلك الأمراض النفسية غير الظاهرة، والمتربصة في مكان ما من خبايا
أنفسنا، حتى إذا حان الظرف المواتي لظهورها، ظهرت بكامل هيئتها، وجعلت من صاحبها يظهر
كما لو أنه إنسان آخر، غير ذلك الإنسان الذي يعرفه الناس، بل ربما غير الإنسان
الذي يعرفه هو نفسه.
ينطبق هذا على القذافي نفسه، فمن عرف هذا الرجل وزامله في
الدراسة الثانوية، صوره لي عكس القذافي الذي عرفه الجميع بعد خروج غول نفسه،
وانطلاق شيطانه.
كما ينطبق هذا على بعض المتعاطين الآن وبإسراف حبات
فياجرا الديمقراطية السوداء، والذين كانوا، كما كنا وكان كل سوي في مثل هذه
الأوقات من عام مضى، يتضرعون إلى الله، خافضي رؤوسهم، رافعين أكفهم، واعدين إياه
بأنه لن يراهم بعد انتصارهم على عدوهم على هيئة تغضبه!
المخلف وعد ربه، هو مريض ومعتل نفسيا.
المتجاهل دماء الشهداء، هو معتل نفسيا.
المتكالب على الامتيازات المادية والمعنوية، هو معتل
نفسيا.
القبلي المتعصب، هو معتل نفسيا.
المحتفظ بالسلاح الخارج عن سيطرة الدولة، هو معتل نفسيا.
المعربد بالسلاح والسيارات والشعارات، هو معتل نفسيا.
المفرط الشك في نوايا من هم حوله الكثير التوجس من غيره،
هو معتل نفسيا.
المستغل فرصة غياب الدولة والمرتكب في ظل ذلك المخالفات
القانونية الجسيمة، هو معتل نفسيا.
أما المنافقون والرماديون والمتربصون، فمرضهم أعظم، وعلتهم
أشد وأخطر.
تُرى كم شخص من أربعة أشخاص من الليبيين، الخارجين للتو
من حظيرة الدكتاتور القذافي الموبوءة بأشرس وأخطر الفيروسات، والمتعاطين وللتو
أيضا جرعة الفياجرا الديمقراطية المفرطة، يعاني من مرض نفسي ما، قلب حاله من حال
التضرع والخشوع إلى حال العربدة واقتراف المنكرات؟
الجواب على هذا السؤال سهل، ولكنه محرج ومزعج!
إلا أن الأمر الأصعب فيتمثل في إقناع الكثير من الليبيين
المرضى بالتوجه إلى مستشفى الأمراض النفسية الحكومي العام، والانتظار في ممراته
المزدحمة في انتظار مقابلة الطبيب النفسي النادر، أو حتى الجلوس في صالة مريحة مكيفة من صالات انتظار العيادات
النفسية الخاصة، لمقابلة الطبيب النفسي، ومصارحته وكشف كل الجروح له!
من المؤكد أننا نعاني من رهاب مجرد التفكير في زيارة
الطبيب النفسي، وذلك برغم ما نعانيه من علل نفسية معقدة مزمنة.
ومن الأأكد أننا نعاني من حساسية شديدة جدا تجاه من يوجه
إلينا أي اتهام، أو ينسب إلينا أي عيب، أو يمد يده إلى رسغنا لجس نبض قلوبنا،
وقياس درجة حرارتنا الحضارية، وقياس كثافة المانع الحضاري المتراكب المتراكم فوق
وعينا، وكذا فحص مختلف المؤشرات المعنوية المعطلة الصدأة.
أريد أن أقول إن عملية القيام بإقناع المجتمع كله بما
يعانيه من علل، لابد أن تسبقها عملية إقناع الفرد نفسه بقبول حقيقة قابليته للمرض
النفسي الشخصي، رافد المرض الاجتماعي العام، وأن عليه الانصياع للطبيب ومباشرة العلاج،
وذلك سواء بسواء كقناعته بحقيقة تعرضه للمرض البدني، وعدم تحرجه من علاجه.
المؤكد أن شطرا لا بأس به من الليبيين غير سوي نفسيا،
دليل ذلك ما يبدو على ملامح الكثير منا من تجهم، وما يعتري سلوكهم من انحراف ظاهر
وباطن، وكل ذلك لم يأت من فراغ، وإنما هو وليد أوضاع عامة سيئة، وعلاقات اجتماعية
معقدة مختلة.
لن نبذل كثير عناء لتأكيد هذه الحقيقة المرة، حقيقة
اعتلالنا النفسي، فبمجرد حث ذاكرتنا على استدعاء صورة واحدة من الصور المرعبة الكثيرة
لوجه حاكمنا المزمن، الدكتاتور القذافي، والذي لم نره، ولو لمرة واحدة، خلال
العقود الأربعين إلا متجهما متشائما، وقد تطاير الشرر من عينيه، والحقد والانتقام
ألذ ما أهدت لنا يديه، والشك والريبة وصنع الانهزام أوقف كل عمره عليه. أقول بمجرد
مثول هذه الصورة الكريهة أمامنا نسترجع أثرها المدمر علينا، وندرك كيف أشبعت
أنفسنا ضربا حتى سحقتها، وكيف أمعنت في ذاتنا إذلالا حتى مسختها.
وعن نفسي، فإنني أعترف بأنني مسكون بمرض نفسي حاد جراء الإدمان
الإجباري للنظر في ملامح ذلك الأهوج الأعوج الأحمق الأخرق، وكذا ملامح بعض من كان حوله
من شواذ ممسوخين، وذلك على مدى السنين الأربعين.
كيف لا أصاب بمرض نفسي، وأنا أجبر للنظر في وجه مستبد
قوي قاتل، أرغمني على الإحساس بأن حياتي وحياة من حولي مرهونة باختلال بسيط في
هرموناته المنفلتة، والتي عادة ما يصاحب كل اختلال من اختلالاتها الكثيرة، قيام هذا
الدكتاتور بشطب أحلام السنين لضحاياه المساكين، بل وعمد في مناسبات عدة إلى إزهاق أرواحهم دونما اقترافهم ما يبرر ذلك.
لابد لمن أمضى سنينا طوالا على هذا الحال، أن يسكن الخوف
نفسه، ويستحوذ عليه الشك، ويفترسه الإحباط، ويطوقه الانهزام، وتعبث بخلاياه الراشدة
أنياب السفاهة والحماقة، ويلون وجهه البؤس، ويطمس ابتسامته الحزن، ويمحو أمله
اليأس، وينهش رجولته إذلال أشباه الرجال له، بل ربما شوه طول عمر الفاسقين
الفاسدين الظالمين، ما يحمله في نفسه من دين ويقين.
هل يمكن لذي عقل أن يتردد، إزاء وضع كهذا، في أن يضع خطا
احمر في صفحة الحالة النفسية للملف الطبي للمواطن الليبي.
أجل إن حالة كالتي وصفت تستوجب قيام الجهات المختصة بتقييم
الحالة النفسية للمجتمع الليبي كله، وتحديد لون خط الطوارئ الذي يجب اتباعه للشروع
في عملية إعادة تأهيل نفسي ربما تطال أناسا، يتربعون على كراسي الحكم الآن، أو
يترأسون كتائب مسلحة، أو أنهم، وهو الأخطر، قد يفوزون بكراسي المجلس الوطني بعد أقل
من ثلاثة أشهر!
وفي سبيل جسر الهوة بين الطبيب النفسي والمواطن الليبي،
يمكن أن تقوم الجهات المختصة بتضمين الملف الطبي لكل شخص، صفحة تخصص للحالة
النفسية لصاحب الملف، مع اشتراط شهادة الخلو من الأمراض النفسية، كلما كان ذلك
ممكنا وضروريا. هذا بالتوازي مع الترشيد التثقيفي من خلال العملية التعليمية، وكذا
الترشيد الإعلامي من خلال وسائل الإعلام المختلفة، مع الإكثار من مراكز العلاج
النفسي وجعل العلاج بها مجانيا لكافة أفراد المجتمع. كيف لا، والعلاج النفسي
يستهدف ضمن ما يستهدف جعل المواطن سويا راشدا!
حقا. إن جعل المواطن سويا راشدا هو هدف يتلاقى عنده
الطبيب النفسي للمواطن الفرد، والطبيب الاجتماعي للمجتمع بأكمله، وهو ذات الأمر
الذي حفزني إلى الربط بين المرض النفسي الفردي، والمرض الاجتماعي العام.
يمكنني الزعم بأن نجاحنا في إقناع الليبيين بأن نصفهم،
على أقل تقدير، وأنا في هذا النصف، هم مرضى نفسانيون، وأن عليهم المسارعة بفتح ملف
صحي نفسي، يخلعون أمام مراياه المصقولة كل أقنعتهم، ويتخلصون من كل ملابسهم
الثقيلة الفاصلة وبعمق مخيف فيما بين الواقع المعاش ودرجة حرارته، وباطن الجسم
البعيد جدا عن هذا الواقع والمتواري عنه.
وبمجرد تدشين علاقة طيبة بين المريض نفسيا أو اجتماعيا
وطبيبه، نكون قد قطعنا أكثر من نصف الطريق، ولم يبق أمام المعالج الاجتماعي سوى
إطلاقه إيعاز الاصطفاف والانتظام لجمهور مرضاه المتعافين، وحثهم على منح ثقتهم للبيئة
الاجتماعية من حولهم، والتي يجب أن تكون مكتملة البنية التحتية للعمران الاجتماعي،
والمتضمنة ضمن ما تتضمنه باقة من القيم الاجتماعية المتفق عليها، وحزمة من
القوانين المنطقية المنسجمة المتناسقة، تقوم على تنفيذها سلطة شرعية ديمقراطية
راشدة.