سنة أولى ديمقراطية"25"
على مسافة تسمح لي بممارسة هوايتي المفضلة في تأمل ما
يجري حولي من عجيب ما زخرت به هذه الحياة، وقفت أرصد وأقارن وأحلل وأستنتج ما ألقت
به تلك الصورة المبهجة الأخاذة لاحتفالات الليبيين الأسطورية بذكرى انتصارهم الباهر
المثير على دكتاتورهم القاتل، معمر القذافي.
من أبرز عيوبي وأنا أمارس هواية التأمل هذه، هو تعجلي المفرط
في محاولة كتابة عنوان يختصر ما تلقي به إلي تأملاتي من انطباعات، وتراني أفرح
غاية الفرح عندما أتمكن من اختراع عنوان مبهرج الحروف مكتنز المعاني لتأملاتي تلك.
وحبذا لو كان هذا العنوان مسجوع الكلمات، عذب الإيقاعات.
الثورة قد تشعلها مجرد فورة، ولكن الدولة لا تبنيها إلا الحكمة والفكرة!
لم يكن هذا العنوان على الهيئة التي أرغب من حيث سجعه
وإيقاعه، ولكنني قبلته وجعلته عنوانا لتأملاتي عشية يوم 17 فبراير 2012، وذلك لما اكتنز
به معناه من أفكار وخواطر وهواجس ورؤى وتوقعات ومحاذير، وغير ذلك كثير كثير!
العنوان المدون أعلاه هو الذي ألقت به إلي تأملاتي
وخواطري المدونة أدناه:
قبل أيام من حلول الذكرى الأولى لانتفاضة الشعب الليبي
ضد الاستبداد وشريعة السفاهة والطغيان، انتشرت شائعات كثيرة بوجود تهديد للثورة
الوليدة في عيدها الأول، وهي شائعات منحتها الأجواء والظروف المحيطة دعما يبرر
الخوف منها والتحسب لها، لا سيما وأن عددا ليس بالقليل من أنصار النظام السابق لم
يصدقوا بعد أن أعمار الأنظمة كأعمار الناس لها يوم مولد وبداية، ويوم وفاة ونهاية.
كما لم يصدقوا أن الطاغية القذافي هلك استحقاقا وتنفيذا لحكم محكمة بنت أحكامها
على سنن الحياة ونواميس الكون وعدالة السماء، وهي سنن ونواميس وعدالة يجب أن يذعن
لها كل عاقل، ولا يرفضها إلا سفيه وأحمق وجاهل.
في يوم إيقاد الشمعة الثانية لثورة فبراير حدث استفتاء شعبي
تلقائي يستحق أن يأخذ مكانه في سجلات الأحداث السياسية التاريخية. كما يجب أن
يتربع في مكان يليق به في سجل جينز للأحداث والأعمال الاستثنائية.
المظهر الاستثنائي المميز لهذا الاستفتاء التلقائي العملاق
المشبع بعبق الفرح بسقوط الطاغية، هو ما اختص به هذا الحدث من تماثل وتطابق فيما بينه
وبين ذلك الاحتشاد والتجمهر التلقائي لليبيين عندما ثاروا على الطاغية منذ عام مضى.
وبذلك برهن هذا التقابل والتناظر بين المشهدين على شرعية ومنطقية وحجية كل منهما.
فكما اجتمع الليبيون بقضهم وقضيضهم، وبصورة تلقائية عفوية ليسقطوا نظاما جائرا باغيا، جاءوا بعد هدوء
فورتهم وفراغهم من مهمتهم لجرد حصيلة ثورتهم، وتأكيد حجية وشرعية انتفاضتهم. وأي
حجة وأي شرعية أقوى وأوضح من التنادي والاحتشاد التلقائي الأسطوري لجموع الليبيين رجالا
ونساء شيبا وشبابا عجائز وأطفالا، موقعين جميعهم على وثيقة الرضا بكل ما فعلوا،
والاستعداد لتحقيق كل الذي به حلموا وأملوا.
نتيجة هذا الاستفتاء بلغت من الإيجابية والنجاح حدا قصرت
عن استيعابه حتى النسبة الإيجابية المطلقة لكل الاستفتاءات المعروفة، والمحددة
بالنسبة 100%. ذلك لأن هذه النسبة، ورغم بلوغها النهاية القصوى حسابيا، إلا أنها
تقصر أيما قصور عن تصوير ذاك الاغتباط والرضا الوجداني الغامر الذي عم الليبيين
وهم يستدعون من ذاكرة المكان والزمان خطوات خطوها، وهتافات لهجوا بها منذ عام مضى،
ثم انخرطوا يقارنون، وهم في قمة النشوة والانسجام، بين ذلك الوضع المرعب الذي
وضعهم فيه الطاغية وهو يمارس هواية الذبح التي لم يتقن غيرها طيلة مدة بقائه جاثما
على صدور الليبيين، وبين ما هم فيه من نشوة الأخذ بالثأر من ذلك المجرم القاتل
السفاح وعصابته.
في نفس هذه الشوارع والميادين، وفي مثل هذه الأيام من
عام مضى خرج الليبيون بعدما نفذ صبرهم، طالبين دينا تأخر استحقاقه أربعة عقود ونيف،
ولكن الطاغية المماطل أنكر عليهم حقهم، بل واعتبر أن فترة الإمهال والسماح الطويلة
التي تحصل عليها هي دليل جدارة واستحقاق، وليست دليلا صارخا على قيامه بأكبر عملية
سرقة ونصب واحتيال عرفها التاريخ!
النسبة المطلقة بلغة العقل والحساب، لا يمكن أن تساوي
النسبة المطلقة بلغة العواطف والوجدان، وذلك للاختلاف الشاسع الكبير بين الأرقام
المحددة المقيدة، والعواطف والأحلام المنطلقة المجنحة.
حقا إن العواطف المكبوتة عندما تحررت، والأحلام المقيدة
المسجونة عندما انعتقت، نتج عنهما فورة صنعت ثورة، والدليل على ذلك هذه الانفجارات
المتتابعة لبركان ثورات الربيع العربي، ذلك البركان الذي خلت صهارته من أية رائحة من
روائح الاستراتيجيات السياسية، أو الأطروحات والنظريات الفلسفية.
بيد أن مبدأ نجاح العواطف والأحلام في تحقيق الثورة، لا
يمكن الاعتماد عليه وإسقاطه كما هو على مشروع إنشاء الدولة وبنائها، فذلك تعسف لا
تقبله الطبيعة الرومانسية غير الحسابية لتلك الأحلام والعواطف الوجدانية.
إن الأفكار بمنطقها الصلب الصريح، والعقول بحساباتها
وأرقامها الحادة القاسية، هي الأداة الفعالة الوحيدة لبناء الدول، وإن أي تأخر أو
تلكؤ في استدعاء هذه الأداة واستعمالها، وبدون أي تحفظ، لهو بحق إجهاض لحلم قيام
الدولة، وتسفيه لتلك العواطف النبيلة التي دفعت بشهدائنا للتضحية بأرواحهم. ذلك أن
شهداءنا لم يكونوا ليضحوا بأرواحهم الغالية لولا أنهم رأوا من خلف حمرة نيران
الثورة، خضرة جنان الدولة.
إن كل يوم، بعد نجاح الثورة، نظل فيه ممسكين بأسلحة
ثورتنا، وغاضين الطرف عن معاول بناء دولتنا، لهو بحق خذلان لكل من ضحى من اجل قيام
الدولة، وهو إشارة سلبية تتراكم بتراكم الأيام، لتنغص علينا أجواء لذة الانتصار،
وتملؤنا بخيبة الأمل ومرارة الانكسار.
بمجرد نجاح الثورة هرع الكثير لحمل شعاراتها وارتداء
ملابس الثوار وحمل أسلحتهم، وذلك رغم سماعهم صوت صفارة نهاية الثورة الصادح. الآن ورغم
أن صفارات بداية بناء الدولة تصم الآذان مأيهة بكل ثائر وشبه ثائر بضرورة نزع لباس
الحرب وسلاحها، والإسراع إلى معول بناء الدولة وإقامة نظامها، إلا أن الاستجابة
لصفوف البنائين وحمل شعاراتهم وارتداء ملابسهم أضعف بكثير من تلك الاستجابة التي
رأيناها لعرس نجاح الثورة والتزاحم الكبير المريب على كعكتها منذ عدة شهور مضت!
بكل خجل وحياء تدعو الحكومة القائمة جماهير الثوار
لاستبدال السلاح بالمعاول، والانخراط في جيش بناء الدولة، وبكل تكاسل وتلكؤ يجيب
الكثير من الثوار وأشباه الثوار نداء الحكومة!
أكبر وأشد مثبطات استجابة الثوار القليلين وأشباه الثوار
الكثيرين لتلبية نداء الحكومة هو مثبط البراجماتية الفردية المقيت، والذي يتركب من
مخلوط يحتوي عناصر سامة كثيرة أهمها التعصب القبلي وعدم الثقة في الآخر، شريك
الثورة بالأمس، والشريك الوحيد والإجباري
لبناء الدولة اليوم.
ما أحوجنا ونحن نعيش زمان بناء الدولة الخالي من روائح الخوف
والموت أن نتبادل نفس الثقة التي كنا نتبادلها ونحن نعيش أجواء الحرب والرعب
والموت.
لم نكن (نتشطر) كثيرا ونحن نخوض الحرب ونضحي بأنفسنا في
ساحتها، ولكننا الآن نتطرف ونشتط كثيرا من أجل مغنم مادي بسيط، فنعرقل بذلك بناء الدولة التي كلفت أرواحا لم يجف بعد مداد
معاهدتنا لأصحابها ببناء الدولة التي ماتوا من أجلها.
لابد من إعطاء إجازة إجبارية للعواطف والرغبات والعصبيات
الضيقة وكبحها إلى أقصى حد، وإطلاق العنان للجدوى ومرادفاتها، تلك الجدوى التي
تعتمد على الأفكار والأرقام، ولا تلقي بالا البتة لأي عاطفة أو أضغاث أحلام.
نسيت أن أنبهكم إلى أننا لازلنا في فصل سنة أولى
ديمقراطية، ولم يوقظني من غفلتي هذه سوى صوت أحد الطلاب متسائلا:
ــ هذا كلام عام يعرفه الكثير يا أستاذ. نحن نحتاج إلى
برامج عمل، وتوجيهات محددة، وسلطة منسقة ضابطة!
ــ إن برامج وخطط العمل، والتوجيهات والأوامر الملزمة
المحددة، والسلطة المنسقة الضابطة هي حواس الدولة وجوارحها، تلك الدولة التي لم
تخرج بعد من غرفة الإنعاش. رد المدرس.
أجل إن دولتنا الليبية في غرفة الإنعاش، وتحت أنظار
ملائكة السماء، وأمام عيون سكان الأرض. وحول غرفة الإنعاش يتجمع فريقان؛ فريق جاء
ليقدم التهنئة بولادة الدولة الليبية وخروجها معافاة من غرفة الإنعاش، وفريق آخر
قوامه تجار الأزمات جماعات ودولات، والذين ينتظرون بفارغ الصبر خروج الدولة وهي في
حالة بين الحياة والموت، حيث سيسارعون بإطلاق رصاصة الرحمة عليها، واقتسام لحمها
فيما بينهم!
يا أيها الليبيون:
هديتكم إلى دولتكم ليبيا، نزيلة غرفة الانعاش، لا تعدو أن تكون إحدى
هديتين: جرعة شافية من أفكاركم النيرة المتطورة
تنقذها، أو كفن من أطماعكم الضيقة يلفها!
محمد الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق