الدائرة الانتخابية رقم "14" سقطت ذِكرا، فهل نذكرها فِكرا؟!
علوم الحساب
والجغرافيا والتاريخ والسكان والاقتصاد والسياسة والأمن، وحتى علوم النفس، كلها
ساهمت بقليل أو كثير في الطبخة الانتخابية الليبية الأهم الأولى.
تابعت بشوق وتوق
عملية إعداد الطبخة الليبية الانتخابية البكر في مراحلها الأولى، وبمجرد دخول المهندسين وخبراء
الكومبيوتر المطبخ الانتخابي، وشروع فرسان الهندسة والحساب في إظهار براعتهم
السامقة، وقدراتهم الفائقة في ترتيب مكونات وصفة الطبخة الانتخابية، وطريقة طهيها
وتهيئتها وتقديمها، بدأ دماغي البطيء الكسول بالفتور، وبدأت أصابع قدماي تقصر عن
ملامسة قاع البحر الارتماتيكي الانتخابي الذي علت وتلاطمت أمواجه، وتباعد على
الهواة قصار القامة مثلي قاعه.
"رحم الله
عبدا عرف قدر نفسه ووقف دونه". أجل، فكسل دماغي عرفني بقدري ومقداري، فوقفت
دون ذلك، ولم أتخطاه، وابتعدت عن المطبخ وما حواه، سائلا الله التعويض عن فقدان متعة
البقاء قريبا من طاجن العملية الانتخابية الذي عربدت رائحته المثيرة الشهية على
امتداد مساحة الوطن، وملأت كل زاوية من زواياه.
ولكن، ورغم
انسحابي الظاهر، لم يكن لمشاكس مثلي أن يستقر له حال، ويرتاح له بال؛ فبمجرد
ابتعادي عن محيط المطبخ الانتخابي، وتخلصي من أسر روائحه ونكهاته المختلطة الكثيرة
المثيرة، شرعتُ في تحسس ما علق بذاكرتي الكليلة من روائح ذلك المطبخ، فلم أجد في ثنايا دماغي الكسول وذاكرتي المثقوبة
سوى الرقم ثلاثة عشر المشهور، والذي اختاره مهندسو الطبخة الانتخابية، عن قصد أو
غير قصد، ليشير إلى عدد تلك الأكداس الانتخابية المسماة حسابيا وهندسيا بالدوائر
الانتخابية.
ومن بعيد، حيث
استقر بي المقام، بدت لي تلك الدوائر بوضوح أكثر، فانهمكت في عدها، لا شكا في
قدرات المهندسين على العد، ولكنني أحسست بأن ثمة شيء قد سقط سهوا، أو لهوا. هذا
الأمر الذي أعنيه، هو غياب الدائرة الانتخابية الأهم، الرابعة عشر!
الدائرة الانتخابية
الرابعة عشر المنسية تلك، كانت في مثل هذه الأيام من عام مضى ملء السمع والبصر،
ذلك أنها هي الدائرة الوحيدة التي بادر بالتسجيل فيها كل ليبي ضاق ذرعا بالطاغية وحكمه،
وجبروته وظلمه.
محيط هذه الدائرة،
تم رسمه بدماء الليبيين، وعصارة مهجهم، وخلاصة آمالهم وأحلامهم، حتى أحاط هذا الرسم بحدود
ليبيا من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
بداخل هذه الدائرة
الحمراء دارت حربا لم يشهد التاريخ لها مثيلا، وذلك لما تفردت به من سمات سيئة
كثيرة عديدة، ولكن أسوأ هذه السمات وأفظعها هو قيام حاكم بإعلان الحرب الشاملة على
شعبه الذي حكمه أزيد من أربعين عاما. كما اتسمت هذه الحرب بصفات حسنة عديدة كثيرة،
بيد أن أحسنها وأبلغها، هو ذلك الانحياز والاصطفاف الكامل لجنود الأرض والسماء إلى
جانب المظلومين طالبي حقهم في العدل والحرية والكرامة.
بُعيد انجلاء هذه المعركة
المشهودة، وبعد أن تحقق نصر الله للمظلومين، أخذت خطوط هذه الدائرة التي طوقت
ليبيا كلها تستقر وتترسخ، معلنة قيام دولة ليبيا الجديدة بمكونها المادي المعروف،
وكذا مصرحة بمكونها المعنوي الزاخر بالمثل والقيم المعنوية النبيلة؛ من حرية، وعدالة،
وديمقراطية.
بيد أن المكون المعنوي
الأنبل لهذه الدائرة الانتخابية الفذة، هو ذلك الفيض القدسي الغامر لأرواح قوافل
الشهداء على مدى أفق ليبيا المكاني الرحيب، ومدى عمرها النضالي المهيب.
آخر صف في كوكبة شهداء
ليبيا الأبرار، تشكل من عشرات الألوف من فرساننا الأشاوس الذين كانوا في مثل هذه
الأيام من عام مضى يتزاحمون على بذل أثمن ما لديهم، أرواحهم، من أجل صنع الدائرة الانتخابية
المركزية الكبرى، ليبيا، تماما كما نتزاحم نحن الآن، ولكن ليس من أجل أن نموت كما
مات أولئك الشهداء، بل من أجل أن نحيا حياة طيبة أهداها لنا شهداؤنا الكرام العظام
الأبرار.
ليت كل ناخب، وبعد
أن يدلي بصوته لاختيار من يمثله في المؤتمر الوطني، يرفع بصره إلى السماء المزدانة
بأرواح شهداء الحرية والكرامة ومحاربة الجور والتسلط والطغيان، ويدعو رب السماء
بإكرام أولئك الذين اشتروا كرامتنا وحريتنا بأعمارهم وأرواحهم!
ليت كل ناخب، وبعد
أن يخرج من مقر الدائرة الانتخابية التي تخصه، يرفع أصبعه المكلل باللون الأزرق،
علامة الانعتاق من طاغية العصر، ماحق وساحق الذات والإرادة، ويبصم بهذا الأصبع فوق كل حائط
سقط بجانبه شهيد، وكذا على سطح كل رصيف تحمم بعطر دم شهيد!
ليت كل مرشح، وهو
يقوم بحملته الانتخابية، يجعل من أسماء الشهداء في منطقته الانتخابية لازمة لفظية،
بها يبدأ حديثه، وبها ينهيه، وبها، بعد اسم الله، يشهد ويعاهد على تنفيذ وصية كل
شهيد!
ليتنا نسمي يوم
أول انتخاب وأعزه وأغلاه، بيوم انعتاق الإرادة الليبية وتحررها، وبيوم ولادة الصوت
الليبي الحر، ونقيم لذلك ذكرى سنوية نعيشها ونحييها كل عام!
ليت المفوضية
العليا للانتخابات، تضع في كل دائرة انتخابية صندوقا يخص الدائرة الانتخابية الرابعة
عشر، دائرة الشهداء الأبرار، بحيث يكون ذلك على هيئة سجل، يقوم كل ناخب بالتوقيع فيه بما يفيد تقديسه لدماء الشهداء، كما يؤكد في هذا السجل
الناخب والمرشح كلاهما على عرفانهما بجميل كل شهداء الحرية الأبرار، سكان هذه الدائرة
الانتخابية الأعظم التي لن نسهو عنها مستقبلا أبدا!
الدائرة الانتخابية رقم "14" سقطت ذِكرا، فهل نذكرها فِكرا؟!
تُرى هل تتشرف سلسلة
دروس سنة أولى ديمقراطية بأن يكون هذا الدرس هو درسها الحامل للرقم 30 ؟
آمل ذلك!
محمد الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق