سقط القذافي، وسقط من أسقط القذافي. احذروا من نفس السقوط أيها المتسلطون!
عند علمي بمغادرة
ساركوزي كرسي الحكم، استدعى ذهني، وبشكل تلقائي، حادثة سقوط القذافي عن كرسي
الحكم. وبشكل تلقائي أيضا، بدأ ذهني بعقد المقارنات، وإيراد الخواطر، والتي رأيت
أن أعرضها في شكلها الخام التالي:
ساركوزي رئيس ديمقراطي زحزحته بنعومة فائقة حبال
أراجيح اللعبة الديمقراطية المنسجمة الرائقة، وغيرت رقمه الوطني المسلسل من الرقم
"1" إلى رقمه المعتاد، كما فعلت بأسلافه في الجمهوريات الخمس.
القذافي حاكم دكتاتوري جبار اقتلعته جرافات النواميس
الإلهية، وقذفت به مجانيقها وكلاليبها من علو، ووضعته حيث يجب أن يكون من هوان ودنو،
واستكثرت عليه حتى الرقم المسلسل 6000000.
كان الحاكم الجبار القذافي كلما أسقطت اللعبة
الديمقراطية رئيسا أمريكيا أو أوربيا لم يكن على وفاق معه، يبالغ في إظهار سروره
وفرحه الفطري الساذج، مصاحبا ذلك باعتزازه بتسمره على كرسي الحكم السنين الطوال،
ورسو قدميه الأثيمتين في طبقات الوحل الدكتاتوري الذي أقام عليه قلعة مجده الزائف،
وهيلمانه الكاذب. وحتى عند نفاد إمهال الله له وتحقق سقوطه غير المأسوف عليه، أصر
على أن يُسقط قبل سقوطه آلاف الضحايا، وأن يملأ الأرض نحيبا وصراخا وضجيجا.
أين هذه الصورة من الانسحاب الصامت الهادئ
الأنيق لرئيس تربع على كرسي دولة عظمى كفرنسا، ووضع مفاتيح ترسانتها النووية في
جيبه لمدة خمس سنوات!
قبل أكثر من عام بقليل، شاء القدر أن يكون ساركوزي
في مكانه الصحيح على لوحة شطرنج الأقدار، ووجها لوجه أمام نمروذ ليبيا، والذي كان
على يقين أن لا أحد فوق رقعة الأرض يستطيع أن يمسه بأذى، فضلا عن أن يقتلعه كما
فعل ساركوزي به.
فوق رقعة شطرنج الأقدار الوحيدة الكبيرة
الخطيرة تلك، كانت هناك مجرد حجرة صغيرة،
يتكئ عليها دكتاتور ليبيا السابق، وبمجرد تحولها من مكانها الحرج الحساس، انفسح الطريق
أمام سيل العرم الذي اقتلع جبل القذافي الراسي من جذوره.
شاءت الأقدار أن تجعل يد ساركوزي أداتها في
القيام بتنحية هذه الحجرة، ومن تم السماح للسيل بالانطلاق جارفا معه كل شيء.
توجد على كل رقع الشطرنج الديمقراطي المنتشرة
على رقعة العالم السياسية حجرة صغيرة مصنوعة من وريقات انتخابية صغيرة الحجم نحيلة
القوام، ولكنها ذات أثر جسيم، حتى أنها تتصدى للقياصرة، وتسقط منهم من تشاء، وآخر هؤلاء
القياصرة، ساركوزي!
لا أحد أكبر من النواميس الكونية؛ بدءا من
فرعون، ومرورا بالقذافي، وانتهاء بساركوزي. كما أنه لا أحد في الحلبة الديمقراطية
مسموح له بتجاهل معادلاتها وقوانينها، ولو كان ساركوزي، حفيد صناع الديمقراطية، ومقتلع
ملك الجماهيرية الدكتاتورية.
إن في تنحي ساركوزي، ونزوله الأبدي من القمة
السياسية بكامل الانسياب والهدوء والأناقة، وبدون إحداث أي ضجيج، لهو أمر يهمنا
نحن الليبيين، والذين يدعي الكثيرون منهم زورا أنهم هم من قاموا بإسقاط القذافي ذي
البأس والجبروت، وأنهم بهذا يحق لهم أن يتشبثوا بالسلطة التي غنموها، ويتشامخوا
ويتفاخروا بها، وربما يتسلطوا ويتجبروا أيضا، وأنهم لن يتخلوا عنها وفق الطريقة
الساركوزية أبدا!
من نواميس رب العالمين، وقواه اللطيفة
الخفية، تلك القوى التي حركت كوامن نفس ساركوزي، حتى دفعت به ليقف ذلك الموقف
المشهود، وغير المتوقع أبدا، ويدخل في حرب مع حاكم هادنه وناصره معظم حكام الأرض، بما
فيهم ساركوزي نفسه، طامعين تارة فيما لديه من مال مسروق، وتارة أخرى مخافة ما قد يظهره
لهم من عقوق.
لازلنا نسمع الكثير ممن ينسبون لأنفسهم شرف
تحرير طرابلس، أو غيرها من مدن، وواقع الحال يؤكد أن كثيرا من هؤلاء لن يكونوا
شيئا مذكورا، إذا ما وضعوا إلى جانب الأعمدة العملاقة التي وضعت عليها قدرة الله
ثقل حدث التغيير الخطير في ليبيا، وفي مقدمتهم ساركوزي دون مراء. ولعل من مظاهر
إذعاننا لسنن الله، وتسليمنا بقضائه وقدره، هو تواضعنا، وعدم تباهينا بتحقيق نصر
لم يكن دورنا فيه بأعظم من دور ساركوزي المتنحي والمتواضع لتلك النواميس.
من هؤلاء الأدعياء المتباهين بما لم يفعلوا،
أولئك الذين التقطوا الأسلحة المبعثرة هنا وهناك، وذلك بعد انتهاء المعركة ومغادرة
فرسانها الحقيقيين ساحتها، وإصرارهم على القول بأنهم هم من صنع التحرير، وأنهم
بذلك هم أصحاب حق مقدس دائم، وجميل على
أعناق الليبيين قائم!
إن من يفعل ذلك ويصرح به ما هو إلا نسخة طبق
الأصل من القذافي وعصابته التي دأبت خلال العصر الدكتاتوري البائد على التلويح
بورقة الثورة، والتي أصروا على أن تكون مستمرة، (الفاتح أبدا) الآن (الله أكبر)، وذلك
ليستمر تسلطهم على الناس والتعدي على حقوقهم.
من المفيد لنا، نحن الليبيين، وفي أيام كهذه
نقوم خلالها بوضع حجر الأساس لدولة ديمقراطية أن نقف عند الدرس البليغ الذي كتبته
حادثة مغادرة ساركوزي، قيصر فرنسا الديمقراطية، قصر الإليزيه.
هذا الدرس يهم كل الليبيين، إلا أنه أكثر
أهمية لأولئك الذين منحهم الحظ فرصة الوقوف في الدوائر القريبة من كعكة السلطة،
وكذا أولئك التواقين المتشوفين إليها المتربصين بها، ومن هؤلاء من التحق في أوقات
متأخرة جدا بصفوف الثوار، وأصروا بعد انطلاق صافرة نهاية اللعبة على اللعب فرادى،
وقيامهم بتسجيل أهداف وهمية في مرمى لا حارس فيه!
إن درس سقوط القذافي العنيف المخيف، ودرس تنحي
ساركوزي الناعم اللطيف، لهما درسان أساسيان من دروس سنة أولى ديمقراطية، وهما أيضا
سؤالان إجباريان في كل امتحان سوف يتحتم علينا اجتيازه لإحراز شهادة الكفاءة
السياسية.
دفعنا من أجل إحراز شهادة الكفاءة السياسية
أبهظ ثمن تحمله شعب في العصر الحديث، وإنه لمن المحزن أن يستخف بعضنا بهذا الثمن، ويستهين
بأرواح عشرات الألوف ممن قضوا في حرب لم يكن لها من سبب ولا هدف سوى إزالة التسلط
وتنحية الطغاة المتجبرين المتكبرين.
إن العابثين بهذا الانجاز الضخم الباهظ
التكاليف، لا يمكن بحال أن يكونوا من أولئك الذين عانوا من عسف الدكتاتورية وكابدوا
ويلاتها، كما أنهم بالقطع ليسوا من أولئك الذين دفعوا ضريبة الدم، ولكنهم في
الغالب الأعم من القاصرين ثقافة وأخلاقا، ومن الطامعين فيما ليس لهم فيه حق.
إن فئة بهذه الصفات الدنيئة لا يمكن أن نتركها
بدون ردع، وإن أنجع الوسائل لردع هؤلاء هو فضحهم، وتعريف الناس بشرهم، وسن
القوانين القادرة على رصد جرائمهم وتشخيصها وتكييفها ووضع العقاب العادل الفعال
لها.
يجب على الحكومة والنخب المصلحة في المجتمع
أن يبادروا ويستبقوا مرحلة تشكل الأجسام الدكتاتورية أيا كان نوعها، فيجهضوها قبل
أن تولد، كما يمنعوا تجمع القائم منها.
بدل أن تنشئ الحكومة أجهزة الأمن التي تحمي شخص الحاكم،
وتطيل من عمر نظامه، كما كان يفعل حاكمنا السابق، يتحتم على الحكومة أن تقوم بإنشاء
جهاز حماية الديمقراطية، وتزوده بكافة الإمكانيات البشرية والمادية، مع الحرص على أن
تكون قيادته من قبل نخبة مخلصة من أصحاب العلم والفكر المشهود لهم بالسيرة الحسنة،
ويكون مجلس أمناء هذا الجهاز من ممثلين
لتجمعات سجناء الرأي، وذوي الشهداء وأصدقائهم، وكذا من كل الذين اكتووا من نير
الحكم الظالم، ودفعوا الثمن الباهظ في سبيل إزاحته.
وعلى غرار تلك المربعات الأمنية سيئة الصيت
التي كانت منتشرة على مسافات لا تزيد أحيانا عن الكيلومتر الواحد، تعد على الناس
أنفاسها وتراقب حركاتها وسكناتها، تقام فروع لجهاز حماية الديمقراطية تكون مهمتها
محاربة كل مظاهر العربدة والتسلط والتعدي على كرامة الناس وحرياتهم التي يقررها
لهم دستور البلاد.
...........................
....................................
..........................................
الخ
وفجأة زاحمت كل
هذه الخواطر التي ذكرت، وتسلطت وطغت عليها، خاطرة دكتاتورية أزاحت كل ما عداها، وألقت
بكلماتها المحبطة الثقيلة فوق أجنحة خيالي الرهيفة. ورغم ما أحدثته هذه الخاطرة
البشعة من غبار وصخب وضجيج، إلا أنني تمكنت من التقاط بعضا من كلماتها، والتي
ملخصها:
ساركوزي ليس القذافي، وفرنسا ليست ليبيا.
بفعل الذخيرة الثقافية لمعظم الفرنسيين؛ فإنهم
يسمعون ما يقال لهم، ويقرءون ما يكتب. ولكن معظم الليبيين ليسوا كذلك.
البيئة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، وحتى
الأخلاقية، طبعت العقلية الليبية بطابع يغلب عليه الجفاء والعنف والخشونة، والفهلوة،
وربما التمرد، وحتى العناد والكبر، مما يصعب معه انخراطهم في جوقة منظمة يمكن
توجيهها للحصول على نغم متناسق.
فترة السبي القذافي التي امتدت
أربعة عقود سيظل أثرها قائما، ما لم تتوحد الجهود من أجل إزالة ذلك الأثر، وتطهير
الذاكرة الليبية من قبح ورعب تلك الحقبة.
الكثيرون ترد على خواطرهم مثل تلك الخواطر
التي ذكرت، ويتشاركون في الشعور بآلام وهموم الوطن، ولكن افتقادهم لرابطة تجمعهم،
يحول دون توحيد كلمتهم، والاستفادة من جهودهم.
النوايا لدى الكثير منا سليمة، والرغبة في
الإصلاح متوفرة، غير أن أجهزة التنسيق وتقدير الأولويات لدينا لا تعمل بالكفاءة المطلوبة.
...........................
................................
......................................
الخ
انتهى الدرس"31" الطويل الركيك من دروس سنة أولى ديمقراطية .
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق