مبادرة كتاب الوطن
دعوة عامة للمساهمة في:
بنك المصارحة، وبنك المسامحة، الممولين الحصريين لمشروع المصالحة
أولا: دعوة مشابهة سابقة:
ما أشبه الليلة بالبارحة
في غمرة، أو قل
سكرة القذافي بعيد انقلابه الأربعين، وما صاحب ذلك من فرح معربد، ونشوة منفلتة،
صنعها برأس القذافي الكأس الأربعين من كؤوس الحكم
الشمولي، قمت بكتابة مقال، تم نشره في الفضاء الإلكتروني، بعنوان: أيُّ
شيء في العيد أهدي إليها، حيث ضمير الهاء يعود إلى ليبيا، وحيث الهدية هي المصالحة
الوطنية المفضية إلى عودة آلاف الليبيين الهاربين من القذافي من أرض الغربة. وفيما
يلي بعض ما جاء في نص الدعوة، مع اعتذاري على بعض الطول فيه:
بعد أيام تطل علينا العيد، عيد الفطر، وفي أجواء
العيد تفوح وتعربد روائح الهدايا، فتشرأب الأنفس إليها وتتطلع الأفئدة نحوها، ذلك
أن الهدايا رسل الحب وعلاماته المشاهدة المحسوسة.
أم رؤوم اسمها ليبيا، تحمل قلبا خفاقا يخفق بحبنا
جميعا نحن الليبيين، هي وحدها تستحق كل هدايا الأعياد السابقة، وهدايا هذه العيد
القادمة على وجه الخصوص.
ولكن ما الذي تُراه يسعد أمن ويفرحها؟!
هل يسعد بلادنا ليبيا ويفرحها تطريزها بالمباني
والأبراج الشاهقة؟
أم هل تُراه يفرحها شق الطرق وإقامة الجسور على مدى
قدها الفارع؟
أم هل تُراه يفرح ليبيا تكليل صدرها بقلادة من السكك
الحديدية التي تمنت السنين الطوال اقتنائها؟
أم هل يفرحها ويطربها دغدغة جسمها العملاق بقنوات من
ماء عذب رقراق، يجعل وجهها المصفر الشاحب وجها غضا يتدفق حيوية واخضرارا؟
أم هل يفرح أمنا وينشيها إطلاق الأسماء الفضفاضة
عليها، وإرهاق اسمها الوديع البسيط بما لا
يطيق.
أم هل يسعد أمنا إجبارها على الرقص على إيقاع طبول
الثورة والثوار، وألحان السياسة والسياسيين المتكلفة، والمختلفة كليا عن إيقاع
همومها الطويل الحزين؟
كل تلك الهدايا، وبلا أدنى شك، سوف تفرح وتسعد أمنا،
غير أن أمنا سوف تفرح بشدة، وسوف تغتبط بعمق، لو أهديناها تلك الهدية التي تاقت
واشتاقت وتطلعت إليها نفسها السنين الطوال.
ليس ثمة من هدية تسعد الأم، أي أم، وتنعش قلبها أكثر
من إحساسها بدفء فلذات كبدها، وهم مجتمعين حولها، ملتصقين بصدرها، ساكبين في
عينيها المجهدتين بلسم بسمتهم المشتركة، وماسحين جفنيها المتورمتين بأكفهم البيضاء
المتصافحة.
ترى إلى متى نحرم أمنا هذه الهدية الثمينة التي
انتظرتها طويلا، ونؤجل هذا الإجراء الضاغط الملح الذي مضى على تأجيله، بل نسيانه
العقود الطوال؟
إلى متى نغض الطرف عن أشقاء لنا، ألجأتهم ظروف سيئة،
ساهمنا جميعا في خلقها، فاضطروا مكرهين إلى مغادرة حضن أمهم، ليصنعوا في قلبها
شرخا، ويتركوا داخله فراغا، سبب في حرماننا نحن الملتصقين بهذا القلب الالتذاذ بدفئه
والاستمتاع بهدهدته! كيف لا، وجزء من كبد هذه الأم منقطع موزع في أصقاع
الأرض!
إلى متى نغض الطرف عن إخوة لنا، لسعهم جمر بأس بعضنا
الشديد الذي أذكت جذوته ريح خبيثة تجأشتها أنفسهم الأمارة؛ فانتشرت على امتداد
الوطن رائحة التخوين، وأجواء انعدام الثقة التي كرستها ظروف وملابسات تبين لنا
عوارها، واكتشفنا أن جلها نشأ عن سوء فهم، وقصور ثقافة عام، وربما سلبيات وهنات
مرحلة مراهقة فكرية، مررنا بها، كما مرت بها دول وشعوب كثيرة غيرنا، وكان من
الممكن تلافي شرها، لو التمس بعضنا لبعض العذر، وهو ما انتبهنا إليه مؤخرا، وبعد
فوات الأوان!
ليس هناك هدية تليق بأي شخص، يتصدى لجلائل الأمور،
وعظائم الأعمال، أكبر من هذه الهدية، هدية إرجاع قطعة الكبد المقطوعة المنهوبة،
وضمها ولصقها وللأبد بأصلها.
لو قلت أن هذه الهدية، هدية المصالحة ولمِّ الشمل، هي
أكبر من كل الهدايا التي سبق أن قدمها ليبي إلى أمه ليبيا، فصدقوني.
لو قلت أن هذه الهدية أطيب وقعا على قلب أمنا من دماء
الشهداء الزكية من أجل تحريرها من الغازي المحتل، فصدقوني.
لو قلت أن هذه الهدية أسعد على قلب أمنا من إعلان
استقلالها وجلاء الغريب عنها، فصدقوني.
لو قلت أن هذه الهدية أعظم من كل الهدايا التي
قدمناها لها بعد هدية الاستقلال، فمن فضلكم، وأرجوكم، صدقوني.
من ذاك يهنأ له عيش دنيا،
ويطمئن إلى حسن مصير آخرة، وهو يحمل على عاتقه مسؤولية المساهمة في تشريد إنسان
وإبعاده عن وطنه، ولأسباب معظمها واهية.
من ذاك يستمتع بضم أحفاده إليه، وهو يعلم بأن هناك
جدودا وجدات يعيشون بجواره حرموا فيما مضى من عمرهم، وربما إلى الأبد، من تكحيل
أعينهم برؤية أحفادهم، والذين حتى وإن صادف والتقوهم بعد زمن التغرب الطويل هذا،
فإنهم سوف يجدونهم غرباء الهوى والملامح واللسان، وربما الدين.
أيّ صدقة جارية يمكن أن يتصدق بها أيٌ منا، فتلتهم
كبائر ذنوبه وصغائرها، أعظم من إعادة أسرة مهجرة إلى وطنها، حيث يظل الجيل تلو
الجيل لهذه الأسرة، وحتى يوم القيامة، يدعو لكل من ساهم في إرجاعهم ، ولو بكلمة
طيبة.
أيّ عمل وطني
يستحق الإشادة به وبفاعله أعظم من عمل يزيل به فاعله أوصاب وأسقام الغربة القسرية
وغير المبررة من قلوب وأنفس مواطنين ليبيين ولدوا وترعرعوا رغم أنفهم في أرض غير
أرضهم ووطن غير وطنهم وفي ظروف استثنائية شملت العمر كله دونما جرم اقترفوه.
إنني وبحق، أسخر من نفسي، وممن هم حولي، ونحن نستقبل
العيد تلو العيد، ونتفنن في جعل مراسم الاحتفال بالعيد القائم أعظم من الذي سبقه،
بل وندعو الغرباء ونتوسل منهم إضفاء شيء من بهجة العيد علينا، ولو كانت مصطنعة متكلفة،
في الوقت الذي يتوسل مواطنونا منا قبلة صادقة، واحتضانة عيد دافئة حلموا بها
السنين الطوال.
العمر يمر بسرعة غير معهودة، والموت يطرق باب
الكثيرين من المحتفلين بهذا العيد، هامسا في أذنهم بصوته المزلزل المرعب بأن حظهم
في عيد آخر ربما يكون ضئيلا، بل منعدما، ناصحا إياهم باغتنام فرصة حضورهم هذا
العيد أحياءً، ليصنعوا من إحياء بعض النفوس، ومن جبر بعض الخواطر والقلوب، زادا
لهم في رحلتهم القسرية الطويلة القادمة، والتي لا صاحب للإنسان فيها سوى عمله.
تبا للسياسة ومتاهاتها المضنية، وسحقا للتنافس
الطفولي الرخيص من أجل تسجيل أهداف في شِباكٍ صورية، نسج الشيطان كل خيوطها، ونفث فوقها
لعابه الإبليسي المصنع لهرمونات السفاهة المثيرة لنزوات الكبر والتغطرس والتعالي،
والمؤجج لنعرات القبيلة والشلة والفئة، وغيرها من أجسام غريبة، مزقت الوطن، وشتت
ساكنيه.
سوف يشعر أولئك المتبارون السذج من كلا الجانبين، ممن
أفرحتهم أهداف سجلوها في مرمى الخصم الوطني، بالحزن كله، وذلك عندما يكتشفون أن كل
تلك الأهداف التي سجلوها، هم أو خصومهم المفترضون، قد جمعت جميعها، وسجلت على حساب
الوطن، ليدفع الجميع فاتورتها الباهظة.
.....................................................
...............................................................
الخ
انتهى نص دعوة محاولة المصالحة الأولى، والتي، ويا للأسف، باءت بالفشل، وبفشلها
بدأ العد التنازلي لاشتعال الحرب بين حاكم سد أذنيه عن أنات بني شعبه، وبين شعب لم
يجد بدا من صب صهارة بركان غضبه في أذن حاكمه غير المبالي.
نص دعوة المحاولة الثانية الحالية:
خلال سنين طويلة
قبل نشر الدعوة عاليه، وخلال حوالي العامين، بين تاريخ هذه الدعوة، وتاريخ نشوب
الحرب بين السلطة وشعبها، لم يشأ القذافي ومن حوله من رجال السلطة القائمة آنذاك،
والذين كلهم، ويا لسخرية القدر، هم خارج السلطة الآن، أن يتعاملوا مع مشروع
المصالحة بالجد المطلوب، كما لم يفتحوا الباب أمام محاولات المهتمين بشأن المصالحة؛
فاحتقنت الأوضاع، واضطرم المرجل، وأحدث انفجارا هائلا قذف بالقذافي وأنصاره إلى الخارج،
وأتى بالذين أخرجوهم من ديارهم إلى وطنهم.
لو قام القذافي
وأبناؤه ووجهاء قبيلته وكبار أعمدة نظامه، ولو قبل وقت يسير من يوم انفجار
الأوضاع، بمصارحة أنفسهم، وحاولوا قبول الأسباب التي دفعت بآلاف الليبيين إلى
الهجرة، ثم قاموا بالتعامل مع هذه الأسباب، وعمدوا إلى إزالتها، وفتحوا بوابة الوطن
على مصراعيها لأبناء الوطن .. لو فعلوا ذلك لما قامت تلك الحرب المرعبة بين أبناء
الوطن الواحد، ولما وجد الناتو ولا غير الناتو منفذا يمرق منه بين الظفر واللحم،
حيث نشأت عن هذا المروق رائحة كريهة جدا، كشفت عن آلاف القتلى، ومئات آلاف
المهجرين.
القذافي ورجال
خيمته هم وحدهم يتحملون وزر من أهلكته الحرب، وكذا وزر من شردته، كما يتحملون أيضا
وزر منع غيرهم من الليبيين المغلوبين على أمرهم من ممارسة دور المصالحة ولم الشمل،
والذي كان سيمنع، في حال تحققه، نشوب تلك الحرب التي لا منتصر فيها.
يجب أن نربأ
بأنفسنا عن تعالي القذافي وصمِّ أذنيه، كما يجب أن لا نلدغ من الجحر الذي لدغ منه
القذافي أمام أعيننا، فنغلق الباب في وجه المغتربين، ونصنع منهم قنابل موقوتة، سوف
يهلك الجميع انفجارها المحقق.
إن ما
تبدو عليه الصورة الآن، يبعث على التفاؤل؛ فسلطة الدولة القائمة، وغالب جمهور
الناس، يدعون إلى المصالحة الذكية العادلة، ويسعون إليها، ولكن ذلك لا يمكن أن
تتحقق إلا بعمليتي الجراحة الخطيرتين؛ المصارحة من طرف، والمسامحة من طرف آخر، ذلك
أن المصالحة طائر عملاق جناحاه المصارحة والمسامحة.
عمليتان جراحيتان خطيرتان،
لا يمكن إجراؤهما مهما بلغت حنكة الجراح دون الإعداد والتهيئة المسبقة للحالة
المرضية، والتي تتطلب أول ما تتطلب القيام بإنشاء بنكي المصارحة والمسامحة
المذكورين، والقيام بتجميع أكثر ما يمكن من صكوك المصارحة والمسامحة، الأصول
الوحيدة لهذا النوع من البنوك.
جراحة خطيرة، ومعادلة صعبة
إن
المجهول الأبرز الذي ستحل به هذه المعادلة الصعبة جلي واضح، ألا وهو قيام الأشخاص
الطبيعيين، ممثلين في أفراد المجتمع في الداخل والخارج، ممن توجد بينهم تارات
وعداوات سياسية، وهم يعرفون بعضهم بعضا، بممارسة العملية الصعبة، والصعبة جدا، وهي
المصارحة والاعتراف والندم من طرف، والمسامحة والصفح وقبول التعويض من الطرف
الآخر.
ولتكبير الصورة أكثر ونزع أغلفتها، نقول:
من المعلوم أن الأشخاص
الذين ألجأتهم الحرب الأخيرة إلى مغادرة الوطن بعد تغيير النظام ينقسمون إلى
قسمين؛ قسم، وهو الأكبر، يعلم، ويعلم خصمه داخل الوطن، أن مشكلته تتعلق في أقصى
حدودها بقيامه بارتكاب جناية يمكن وصفها بالسياسية، حيث ساهمت الأوضاع السياسية التي
عاشتها ليبيا في سلمها وحربها في شطر كبير منها، ومن هؤلاء موظفون نظاميون
بالأجهزة الأمنية، وأعضاء أجهزة ذات طابع سياسي، وغيرهم. وهؤلاء ارتكبوا بحكم
وظيفتهم جرائم ذات درجات جنائية متفاوتة، يمكن للقضاء أن يبث فيها، آخذا في
اعتباره تلك الأوضاع الاستثنائية التي لازمت النظام السابق ولونته، والتي ستساهم
كثيرا في تيسير حل المعضلة، عندما يتيقن الجميع أن عدوهم مشترك، وأنه هو الجاني
الرئيسي في كل الجرائم التي ارتكبت في ليبيا على مدار العقود، وهو فهم لابد أن
يقود إلى تكييف استثنائي للقضية ككل.
ليس ثمة شك في أن
هؤلاء، وهم كثير، سيرجعون إلى حضن بلدهم بمجرد ممارسة القضاء لمهامه، والذي سوف لن
يكون بعيدا بعون الله.
من
المفيد جدا أن تبادر الحكومة منذ الحين بترتيب وتهيئة الأوضاع التشريعية والقضائية
لهذه العملية، ولو اضطر الأمر إلى إصدار تشريع خاص يأخذ في اعتباره كل حيثيات ومحددات
وملابسات هذه الحالة، والتي لابد وأن يكون لها شبيها في تجارب دول أخرى مرت بنفس
ما مررنا به. كما يجدر بالحكومة أن تقوم بتكوين غرفة اتصال مع هؤلاء المواطنين،
وتنظيم برامج إعلامية وترشيدية تزيل كل المخاوف والهواجس لدى إخواننا الذين
ألجأتهم هذه الظروف إلى الحال الذي هم فيه.
أين المشكلة الأعقد إذن؟
المشكلة الحقيقية
هي مع القسم الثاني من النازحين بسبب تغير النظام، وهو القسم الأقل عددا، والذي
يضم الفئة القليلة التي ارتبطت ارتباطا طويلا ووثيقا بالنظام الظالم السابق،
وبالغت في مناصرة الدكتاتور، بل بدا بعض أفراد هذه الفئة، في أحيان كثيرة، ملكي
أكثر من الملك نفسه، كما يقولون.
بعض هؤلاء تورطوا
في دماء، وبعضهم تورط في هتك أعراض، وبعضهم أوغل في الفساد حتى مداه.
هذا الصنف من
الناس يعلمون أن مشكلتهم بدأت يوم بايعوا الحاكم الظالم على ظلمه، ولن تنتهي
مشكلتهم إلا في تلك اللحظة التي يقتنعون فيها بأنهم وقعوا في شراك ساحر سلب
إرادتهم ومسخ ذاتهم وجعلهم أزرارا تحت سبابته، حيث كانوا يقومون وبلمسة واحدة منه بتنفيذ
ما يأمرهم به، ولو أفضى ذلك إلى هلاكهم وهلاك ذويهم، وهو ما حدث فعلا!
وهؤلاء أيضا
يعلمون أن الدم الذي سفكوه، له ولي، والعرض الذي هتكوه، هو أيضا له ولي، وبأن هذا
الولي لم يقم بتوكيل الحكومة أو لجان المصالحة بالتصرف نيابة عنه، كما أن هذا الولي
لا يمكن إسكاته وإرضاؤه إلا بقيام خصمه، وبصورة شخصية وصريحة، بتقديم الندم
والاعتذار، والتماس العفو من أولياء الدم والعرض، وتقديم التعويض المناسب.
وحتى تتضح لهؤلاء
الصورة أكثر، أدعو كل واحد منهم بالخلو إلى نفسه، واضعا نفسه في مكان أحد أقارب
ضحايا بوسليم، أو أحد أهالي قرابين السابع من أبريل، أو أحد أقارب متظاهرين فبراير
2011 العزل، والذين جوبهوا بمقذوفات مخصصة للدروع، لمجرد أنهم مدوا ألسنتهم الرطبة
ببضعة حروف وكلمات.
بنك المصارحة، وبنك المسامحة
ما من ليبي يسمع
عن تلك المليارات من الأموال التي تملأ خزائن بنوكنا في الداخل والخارج، إلا ويرقص
فرحا لما سمع، ويطمئن بالا بذلك، كيف لا وهو يرى في هذه الأموال ضمان مستقبله
ومستقبل بنيه.
صكوك المصارحة
والمسامحة المكونة لأصول بنكي المصارحة والمسامحة، أثمن وأعز وأغلى من كنوز الأرض
كلها، لا سيما وأن جميعنا، في داخل الوطن وخارجه، تملؤنا الهواجس، وتفترسنا
الظنون، جراء ما عليه حالنا من فرقة، وما عليه جمعنا من تشتت، وما يشوي قلوبنا من
تباغض وتنافر، سيتراكم ويتعاظم مع الزمن، صانعا بركانا من كراهية لا تبشر إلا
بالهلاك للجميع.
بنك المصارحة، ونظيره
بنك المسامحة، اللذان ندعو لإنشائهما، هما مستودعان يقابل أحدهما الآخر ويسنده،
حيث تودع في أحدهما صكوك المصارحة
الممهورة بمواثيق الاعتراف والندم وعروض التعويض المنطقية عن جنايات ارتكبت تحت
ظروف يعرفها ويعيها الجميع.
وبالإضافة إلى
الأصول الأساسية لبنك المصارحة، سيكون من المفيد جدا أن يشتمل هذا البنك على صندوق
خيري يساهم فيه أصحاب السعة في الرزق ببعض مالهم الذي سيخصص لدفع الديات
والتعويضات المتفق عليها، كما يساهم فيه ذوي العلاقات الاجتماعية والسياسية
المؤثرة بثقل علاقاتهم هذه في تحفيز المصارح، وكذا المسامح على إبداء أقصى درجات
المصارحة من كليهما.
أما ثاني هذين
البنكين، بنك المسامحة، فتودع فيه صكوك الصفح، وشهائد قبول مواثيق الاعتذار من قبل
أولئك المتضررين، والذين جلهم يعلم أن مشكلته في أساسها ليس مع الأداة التي نفذت
الجرائم، ولكن مشكلته مع اليد التي أحكمت قبضتها على هذه الأداة، ومارست عليها
أقسى أنواع المكر والتغرير والابتزاز.
حقا إن المشكلة في
أساسها مع حاكم استغل سلطته، وسخر المال الذي اغتصبه في التأثير على الناس وفتنتهم،
حتى ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم وآثام في حق إخوانهم. إن الشواهد لا تحصى في تعمد
القذافي انتقاء أنواع من الناس غير أسوياء نفسيا، ليستخدمهم بعد غسل أدمغتهم في
تنفيذ معظم جرائمه وموبقاته.
بنك المصارحة،
ونظيره بنك المسامحة، هما بنكان يسند كل منهما الآخر، ويغذي أحدهما الآخر، ذلك أن أصول البنك الأول والمتمثلة في صكوك المصارحة والاعتذار،
سوف تساهم هي نفسها في تأسيس البنك الثاني، كما أن أصول ومبادرات السادة مؤسسي بنك
المسامحة، سوف تمسح الكثير من سخائم النفوس، وتدفع من أخطأ، وجلَّ من لا يخطئ، إلى
بسط يده بالاعتذار، بعد أن أدرك أنه كان صريع مكر الليل والنهار، وضحية طاعة الكبراء
الأشرار الفجار.
وسيلة إيضاح مبسطة
بمجرد قيام
الحكومة، الراعية لهذه العملية الخطيرة، بتشكيل اللجنة التأسيسية لهذين البنكين،
تقوم هذه اللجنة بتوفير حسابات إيداع كل من صكوك المصارحة، وصكوك المسامحة، ووضع
هذه الحسابات تحت تصرف المودعين المحتملين، وفتح قناة اتصال مسئولة ومضمونة يتأتى
من خلالها لكل من يريد تقديم ما يريد إيداعه من صكوك فعل ذلك. وعلى الفور يقوم
المنسق لهذه الحسابات بإجراء المقاصة اللازمة، والمفضية بكل تأكيد إلى تصفير رصيد
العداوة بين الليبيين، ضحايا حقبة الطغيان والاستبداد، بعون الله تعالى.
هل من طريق آخر أمام هؤلاء وأولئك؟
غالب الظن، لا.
إذ أن أحدا ممن
يشملهم فريق الدوائر الأولى حول الدكتاتور الراحل، لن يفكر أبدا في العودة إلى
ليبيا، وهو يعلم أن الصفح الرسمي الذي قد تتبناه الدولة مهما كانت قوته، لا يؤمِّن
له النجاة من انتقام شخص ما، يترصده ويتابع أخباره، حاملا في نفسه بذور الانتقام، ولديه
أدوات الانتقام، بل ربما، وهو الأخطر، يحس بأنه يملك شرعية الانتقام.
وبالمقابل فإن
جميع أولياء الدم سوف يظلون في حالهم المعهود، يئنون من ثقل ما يعتمل في نفوسهم من
نار حقد وانتقام تجاه من يصورهم لهم الشيطان أنهم معتزون بإثمهم، متكابرون على
ضحاياهم، متربصون بهم الدوائر، منتظرين سانحة إعادة الكرة لهزيمة أعدائهم،
مستعينين بكل من يقدم لهم يد المساعدة، ولو كان ذلك على حساب تقسيم البلاد
ومعاناتها.
وبعد ...
ربما الكثير ممن
يعنيهم الأمر، وخاصة أولئك الموجودون بالخارج، يرى فيما قلناه تجنيح في سماء
الخيال وعدم الواقعية، ذلك أن طلب الندم والاعتذار من قبل أحد طرفي الخصام يعني
الحكم عليه بالإدانة ابتداء، وهو أمر ليس من المعقول قبوله.
وإلى هؤلاء نقول:
1 ــ القذافي ونظامه في ذمة التاريخ، واصطفاف الكون
ضده رسالة إلهية سهلة الفهم.
2 ــ من بدأ بارتكاب الظلم، هو الأولى بإبداء الندم،
ومن المعلوم أن القذافي وأجهزته الأمنية وكتائبه هم من بادر بتوجيه السلاح نحو
صدور العزل، وعلى مدى شهر كامل قبل تدخل الناتو. هذا عدا عن الممارسات الإرهابية
التي حفل بها نظام القذافي خلال العقود.
3 ــ تداول الأيام سنة كونية وحقيقة تاريخية تجاهلها
الطابور الطويل من الحكام الطغاة الذين أصر القذافي على الانضمام إليهم واللحاق
بطابورهم. وإذا التمس القدامى العذر في إتباع طغاتهم لِما أحاطتهم به ظروف عصورهم
الغابرة من جهل وتخلف، فإن أتباع طغاة العصر الحديث، كالقذافي، وبشار، وغيرهم، لا
يمكن لهم التذرع بعدم معرفة ما يفعله طاغية يعلن على رؤوس الأشهاد تحويل بلاد
حكمها أربعة عقود إلى جمر، ويهدد باستقدام المرتزقة للحرب معه ضد بني شعبه، ولا
هدف لديه من وراء ذلك سوى إشباع غريزته في التسلط، والوفاء بعهد قطعه لأولاده بتوارث
مجده الدموي من بعده.
4 ــ الكل يعلم أن القذافي أخذ أكثر من حقه بكثير في
حكم ليبيا، ودخول الحرب في صفه لإطالة فترة حكمه وتوريث ذلك لأولاده من بعده، لهو عمل يخزي صاحبه ويخجله،
قبل أن يدينه ويجرمه.
5 ــ الشواهد تقول بأن القذافي لم يوفق أبدا في حكم
الدولة، ولو أن للشواهد والأحداث رأي وقرار، لحكمت على القذافي بترك سدة الحكم يوم
سرق كل قوانين البلاد ووضعها تحت قدمه عام 73، أو بحد أقصى يوم صادر كل أموال
الناس وسرقها في ليلة واحدة عام 80.
6 ــ لقد مد الله كثيرا حبل الإمهال للقذافي، وعندما
أخذه، كان أخذه في منتهى الشدة والإيلام، وهو مشهد رآه المحظوظون فقط من المحاربين
مع القذافي، والناجون من نفس مصيره، وذلك رأفة من الله بهم، وتمديدا لفرصة
المراجعة، وتوسيع فسحة اتخاذ قرار التبرؤ من ظلم المتبوعين قبل أن يقولوا لتابعيهم:
ما كان لنا من سلطان عليكم إلا أن دعوناكم فاستجبتم لنا، فلا تلومونا ولوموا
أنفسكم. وهل سيقول القذافي لأتباعه غير ذلك!
7 ــ الموقف السياسي للفرد، لا يبرر له الهيام بمثله
السياسي حتى الجنون، ولكن الموقف السياسي الرشيد للفرد هو قيامه بدعم الرمز السياسي
الرشيد ما دام على رشده، وإلا فلا منطق ولا شرعية في تأييده والسير في ركابه.
8 ــ ما لحق بالكثير من المناصرين للقذافي من أذى
مادي أو معنوي، خلال الحرب، لا يعدو عن كونه ردة فعل منطقية إزاء موقفهم المنحاز
جدا إلى جانب القذافي وأولاده وخلصائه، ولم يكن معظم ذلك موجه إليهم في أشخاصهم،
ولكن بسبب مقاتلتهم مع شخص يحمل في رقبته الكثير من المظالم والدماء، وسيجد
المتفحص في هذا الحيز من الصورة علامة واضحة ودليلا بينا من فتنة الحاكم لبني شعبه
والتغرير بهم وإضلالهم.
9 ــ مشجب الناتو
العملاق الذي كدس عليه الكثير من الليبيين وغيرهم أعذارهم في مناصرة القذافي، كان
القذافي وحده من صنعه، وذلك عندما أثار حفيظة العالم كله، وهو يستنسخ خطابات
موسيليني وهتلر وستالين، ويشحذ على الملأ سكاكينه ليقطع بها رقاب شعب لا يملك إلا
أن يصطف مشرع العنق أمام جنازيره الممتدة عشرات الكيلومترات، وتحت صواريخ طائراته
المتربصة بكل جسم يتحرك. وهو خطأ استفاد منه بشار كثيرا، ذلك أن بشار فعل كل ما
فعله القذافي من جرائم وموبقات، باستثناء الإرهاب الإعلامي الصريح الذي بزَّ
القذافي فيه طغاة التاريخ.
10 ــ سكين الناتو رغم قسوته وحدته، إلا أنه كان
الأداة الوحيدة التي منعت رَونَدة ليبيا، أو على أقل تقدير صوملتها. وها نحن نرى
أنه ليس أمام تعنت أسد سوريا، وإصرار مواطنيها على تنحيه إلا طريقان ؛ أحدهما تصنعه
سكين حادة كسكين الناتو، فينتج عن ذلك حل سريع للمشكلة، وثانيهما حرب ذات إيقاع
بطيء منهك، كإيقاع مأساة داحس والغبراء، والنتيجة في كلا الحالين واحدة، حتمية انتصار
إرادة الشعب على إرادة طواغيته. تُرى أي
الحلين أقل سوءا من الآخر؟
11 ــ الإعجاب بالرمز، والهيام به، وربما الذوبان فيه،
حالة نفسية، يزخر أولها بالتسلية والدغدغة المرضية، وبما يبرر لدى المريض الجهد
الذي يبذله في عبادة الرمز والتهافت عليه، بيد أن الحالة المتطورة لهذا المرض هو
انسحاق كامل لذات المريض ومسخ لكيانه، دونما تسلمه أي شيء، وإلا فما هو مبرر هيام
بعض البسطاء الليبيين بالقذافي، وهو المتحدث إليهم دائما من أبراج الآلهة البشرية،
لولا انسحاقهم أمامه وذوبانهم بين أصابعه.
12 ــ الدرس
العملي الراهن، والذي يجري على الساحة السورية، هو وسيلة إيضاح بالغة الأهمية. ذلك
أن الذي يجري في سوريا هذه الأيام بروفة لاحقة للتراجيديا الليبية، ولابد لبعض
الأذكياء، ممن ورطهم القذافي وغرر بهم، يرى نفسه بين الحين والآخر في أحد زوايا
مسرح البروفة السورية، فيظهر له ذلك التشابه، بل التطابق، في درجة سعار السلطة
وهرموناتها المعربدة التي تلعب الآن برأس بشار الأسد، ومثيلتها التي كانت تلعب
برأس القذافي في مثل هذه الأيام من عام مضى، وهي حالة مرضية بررت للرجلين اتخاذهما
من جماجم رؤوس ملايين أفراد شعبيها خوذة يحفظان بها رأسيهما، ومن صدورهم درعا يرد
عن صدريهما الرصاص.
13ــ يجب أن يعترف الملوحين بحجة الربط بين تدخل الناتو واستعمار ليبيا من قبل دوله، بأن ذلك لم يتحقق، ودليل ذلك عدم رؤيتنا لأي مظهر من مظاهر التواجد العسكري الأجنبي الواضح في أي مكان من ليبيا. وحتى فاتورة التدخل العسكري لم تظهر أمامنا كما صورها بعض المتشائمين.
13ــ يجب أن يعترف الملوحين بحجة الربط بين تدخل الناتو واستعمار ليبيا من قبل دوله، بأن ذلك لم يتحقق، ودليل ذلك عدم رؤيتنا لأي مظهر من مظاهر التواجد العسكري الأجنبي الواضح في أي مكان من ليبيا. وحتى فاتورة التدخل العسكري لم تظهر أمامنا كما صورها بعض المتشائمين.
وفي الختام، هناك التماس، ورجاء، وعشم
وحتى تلامس هذه
الفكرة الواقع، فإننا نلتمس من الحكومة تشكيل لجنة
تأسيسية لهذا المشروع الخيري، مشكَّلة من ذوي الكفاءة والمقدرة والحماس، حيث يناط
بها الشروع في عمل تصور لهذين البنكين، واتخاذ الخطوات العملية التي تجعل من هذا
الحلم حقيقة واقعة محسوسة.
رجاؤنا نرفعه إلى كل صاحب فكرة سابقة في تأسيس مثل
هذه البنوك الخيرية، بأن يرفد دعوتنا المتواضعة هذه بما فتح الله عليه من معرفة،
مما يساعد على قبول هذه الدعوة ونشرها،
ونقلها من سراديب الخيال إلى دنيا الواقع.
رجاؤنا أيضا نرفعه
إلى ذوي السعة في الرزق بأن يقوموا بتحويل جزء من أموالهم باركها الله إلى ماء
وفاق يطفئون به نيران الفرقة وجمر الثار والحقد والتباغض، بل ربما يبعدون به شبح الحرب
الطارقة ديارنا من كل اتجاه. كما نرجو ممن يتمتع بعلاقات اجتماعية، القيام باستثمار
هذه العلاقات في بناء ما تقطع من صلات.
أما عشم محرر الدعوة فهو قيام زملائه من كتاب الوطن الأماجد، وكل المهتمين
بالشأن الوطني بالموافقة على هذه الدعوة، وإثرائها بملاحظاتهم وآرائهم، والعمل على
تدويرها ونشرها بكل الطرق الممكنة لتصل إلى كل من يعنيهم الأمر.
التوقيع
كتاب ليبيا
محرر الدعوة: المدوِّن / محمد عبد الله الشيباني
مدونة ربيع ليبيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق