السبت، أغسطس 04، 2012



في الطريق إلى مجلس المصالحة.

+ لابد من تقييم ومحاكمة النظام.
ــ أي نظام تعني؟
+ النظام السابق بالطبع.
ــ ولكن هذا طلب متأخر، فمرحلة التقييم هذه كان يجدر بها أن تسبق مرحلة المطالبة بالإصلاح، وكذا مرحلة الإقدام على الإسقاط!
+ أجل، ولكن التقييم الذي أعنيه ليس من أجل ترميم وترسيخ نظام قائم، ولكن من أجل إقامة نظام جديد، مع عدم تكرار أخطاء سابقه.
ــ ما دمنا استطعنا إسقاط النظام، فنحن بلا شك قادرين على تقييمه، ورصد أماكن الخلل فيه التي أدت إلى إسقاطه، وكذا الدعوة إلى تلافيها ونحن نبني النظام الجديد.
+ حقيقة الأمر أن عملية الإسقاط كانت أمرا قدريا، ولم يكن دورنا فيه إلا دورا مساعدا بسيطا.
ــ لا يهم، فالعبرة بتمام السقوط. ولكن هل انتهينا؟
+ كلا. للتو بدأنا، فقد انتخبنا المؤتمر الوطني، وقريبا ستشكل الحكومة، ويستأنف الوزراء الجدد عمل الوزراء السابقين،........... وهكذا.
ــ سقط النظام السابق منذ تسعة أشهر، إلا أن النظام الذي كنا نحلم به لم نر شيئا من ملامحه حتى الآن.
+ ماذا تريد أن ترى؟
ــ أنا لا أريد أن أقوم صباحا فأجد المدن الليبية على غرار المدن السويسرية مثلا.
+ ماذا تريد إذن؟
ــ أريد أن أرى الليبيين كلهم على قناعة واحدة بأن ما دفعوه من تضحيات جسيمة كان له مقابل مجز تمثل في تغيير نظام قد تيقنوا من تخلفه وفساده، وأنهم الآن يشرعون في تأسيس نظام آخر متحضر خال من علل النظام البائد!
+ ولكن الليبيين كلهم تقريبا على هذه القناعة.
ــ كلا. إن القناعة التي أعنيها وأرجو تحققها، هي معرفة الليبيين الكاملة والمفصلة بالأخطاء الحضارية الجسيمة للنظام السابق، والتي نشأت مباشرة بسبب الوعي المعيب الذي كان سائدا.
+ كأنك لا تريد محاكمة الأشخاص المخطئين، وفي مقدمتهم بالطبع رأس النظام، القذافي.
ــ إن الشق الجنائي الصرف في القضية لا يهمني، فالناس خطاءون وسيقتص المظلوم من ظالمه عاجلا أو آجلا. ولكن الذي يهمني هو مقاضاة الوعي الذي كان مسيطرا علينا، وتحديد أخطائه الكبرى. تلك الأخطاء التي كانت وراء حرمان طرابلس من أن تكون كدبي، كما جعلت مطار بنينة يقصر عن محاكاة مطار كمطار أبو ظبي مثلا، أو تلك التي جعلت مستشفيات تونس أقرب من المستشفيات الليبية، ثم لم يقف الوعي المثقوب عند مجرد قصورنا الحضاري المعروف، بل دفع بنا إلى أتون حرب أهلية.
+ ولكن الليبيين كما ترى قد انتعش وعيهم السياسي الآن، وها هم منغمسون حتى آذانهم في مناقشات لا تنتهي عن الاتجاهات والمدارس الفكرية السياسية؛ من علمانية، وليبرالية، وحداثية، وتراثية، وكثير غير ذلك، بل إن بعضهم يطالب بالفدرالية.
ــ  بدأت أكره هذا النوع من الوعي، وذلك لأنه أخذ أكثر من حقه، وأدى الاهتمام المفرط به إلى التفريط في الشيء الذي ثرنا من أجله، وهو انتشال ليبيا بسرعة من التخلف إلى التحضر. 
+ كأن الوعي الذي تعنيه ليس مجرد الوعي الباني للأبراج السياسية، وإنما الوعي الباني للأبراج الحضارية المعنوية والمادية، وهو الوعي الحضاري الرشيد القائم على المُثل الأخلاقية السامية، والحقائق العلمية الراسخة، والمتصلة روافده بتيار الوعي الإنساني المتراكم والمتطور أبدا.
ــ هذا واضح، ولكن ما علاقة هذا بتقييم أوضاع نظام سابق، وما كان يسوده من وعي؟
+ إن العقود الأربع الماضية من عمر دولتنا الليبية بخيرها وشرها هي ملك لنا، وإن أقل ما يمكن أن نجنيه من التجربة المريرة السابقة هو تجميع أرشيفها وتحليله واستخلاص البلاسم الشافية منه لاستخدامها في مداواتنا من عللنا الجسيمة القائمة، والتي تمنعنا من مجرد التزحزح من المكان الذي سمرتنا فيه أغلال الدكتاتورية.
ــ أرى هذا الكلام فضفاضا. هل لك أن تعطي مثالا؟
+ إن أبرز ما يواجهنا الآن من مشاكل هي مشكلة المصالحة، وإن أبرز عناصر هذه المشكلة هو حصولنا على اتفاق الجميع على تقييم مشترك للوعي الجمعي الذي كان يحكمنا، ومدى مسئوليته في التسبب في الكارثة التي مرت بنا، ومن ثم المباشرة في اصطفافنا صفا واحدا من أجل ليبيا الواحدة.
ــ كيف نقيِّم وعينا الجمعي وآثاره، ونحن جميعا مسئولون عنه.
+ ألم أقل لك بأننا لن نقوم بمحاكمة أشخاص، ولكننا سنقوم بوضع إشارة صح أو غلط على مخرجات فعاليات وعينا التي أدت إلى أحداث هامة وخطيرة.
ــ ماذا تقول، إنك تتكلم عن أربعين عاما من حكم شخص مثير للجدل أصر على ديمومة الثورة حتى آخر رمق له.
+ ها أنت ذا تسجل التقييم رقم واحد والأهم للوعي الذي كان مسيطرا خلال حكم القذافي، ألا وهو إرهاق الناس بكلمة ثورة، تماما كما يفعل أدعياء الثورة الآن.
ــ هل تعني ثوار فبراير! إن تلويح الثوار بالثورة واحتفاظهم بأسلحتهم حتى حينه هو لأجل حماية الجماهير وثورة الجماهير.
+ تعني ممارسة الوصاية على شعب انتخب مجلسه الوطني ديمقراطيا. إن هذا السلوك لهو نسخة طبق الأصل لنواتج عمليات الوعي التي سوغت للقذافي لعب دور شيخ القبيلة المسماة ليبيا، ومن بعد ذلك تسمية نفسه وبدون حياء بملك الملوك.
ــ حقا إنك أنعشت ذاكرتي، وحفزتني على أن أوافيك بالكثير من نماذج الوعي المثقوب الذي كان مسيطرا علينا.
+ بكل تأكيد، فكل واحد منا يحمل في الجزء الأسود من ذاكرته الكثير من التجارب القاسية والذكريات الأليمة، إلا أن مجرد سرد واجترار هذه الذكريات ليس كل ما نريد.
إننا نريد أن نكون عمليين، وذلك بأن ندعو المؤتمر الوطني إلى تشكيل محكمة خاصة تكون مهمتها تقييم وعي الليبيين حكاما ومحكومين خلال العقود الأربعة الماضية، والخروج بأحكام عادلة وقطعية عن كل قسم من أقسام خريطة الوعي الذي أنتج أحداثا جسيمة، سواء كانت تلك الأحداث حسنة أو سيئة.
قضية "لوكربي" مثلا، ذلك اللغز المحير، تُرى أية حالة من الوعي كنا عليها حتى أسقطنا أنفسنا في تلك الهاوية التي لا قرار لها. أيضا تورطنا في حروب ذهب ضحيتها الآلاف منا، وكلفتنا الكثير من مقدرات الوطن.
تُرى أي وعي بائس كان يسكننا حتى أعمى بصائرنا عن السقوط في هاوية الموت والخسارة تلك.
بالإضافة إلى القضايا الأمنية والعسكرية الكثيرة والخطيرة التي مارسناها بوعي أخرق ظاهر النزق والسفاهة، فإن ذات الوعي القاصر هو المسئول الأول عن تخلفنا الاقتصادي والاجتماعي.
ــ هذا صحيح، وخير دليل عليه الحالة التي عليها البلاد الآن.
+ المشكلة أن الكثير منا لا يقنعه ذلك، وهذا من حقه.
ــ  ما الحل إذن؟
+ ليس هناك حل أفضل من التقييم المحايد، والقيام بوزن المشكلة بميزان القضاء العادل.
ــ أجل إن أحكام المحاكم العادلة هي أحكام حق يرضي بها الجميع، وتوفق بين المتخاصمين، وتزيل الضغائن والأحقاد، وتجمع الشتات وتوحد الصفوف.   
أما ما عدا ذلك من أحكام شخصية، فهي أحكام باطلة يطلقها الكثير منا الآن، فلا تزيد إلا الصدور توغرا، والجموع تشتتا، بل قد تشعل الحروب وتخرب الأوطان.
فهل يا تُرى تجد هذه الدعوة، دعوة محاكمة وعي النظام السابق وتقييمه، آذانا صاغية.
آمل ذلك.
محمد عبد الله الشيباني
  

ليست هناك تعليقات: