الأربعاء، أغسطس 08، 2012



هيا بنا نقتسم تركة القذافي!

مكرٌ ناعم، ومكرٌ خشن؛ مكران فرَّقانا، فهل تُراهما يوحداننا؟
المكر بنوعيه الناعم والخشن سلاح كل حاكم مستبد، يمارس استبداده ليس اضطرارا أو حزما منه، وإنما بدافع غريزة حب السيطرة والتحكم وبناء مجده الشخصي الذي لا ينبغي لأحد من بعده سوى بني صلبه الحاملين اسمه والمادين حبل مجده بعد رحيله.

الحاكم المستبد الذي على هذه الشاكلة، هو حاكم عامل لحسابه الخاص، وليس له لتحقيق ما يريد سوى المكر برعيته مكرا ناعما يغريهم به فيؤيدونه، أو يسومهم مكرا خشنا يدفعهم به عن طريقه فلا يعيقونه.


في بداية رحلة المكر بنوعيه الناعم والخشن، تكون صورة الحاكم غير جلية، وذلك بسبب التداخل بين صفات الحاكم المستبد بدافع الاضطرار والحزم والصرامة من أجل مصلحة الجماعة، وصفات نقيضه الذي يمارس الاستبداد لأجل نفسه.

خلال الأربعين عاما من سنوات الاستبداد، تشرنق القذافي وسط أربعين طبقة من طبقات المكر الناعم والخشن، تلك الطبقات التي شطرت الليبيين إلى قسمين: قسم استجاب لجرعات المكر الناعم المتعدد الدرجات، بداية من درجة رجل الخيمة الوجيه الواصل المميز، وانتهاء بدرجة عضو مؤتمر شعبي أساسي هزيل، لا يحمل سوى بطاقة عضوية تمنحه حق الحصول على بضاعة الجمعية الاستهلاكية البائسة. وقسم آخر لم تظهر عليه علامات القابلية للمكر الناعم، فلم يكن أمامه إلا تجرع وجبات المكر الخشن التي تتدرج من وجبات الإعدام والسجن ، وتنتهي بوجبات المكر الشعبية السائدة التي يراعى فيها مقدرتها على إبقاء الكتلة البشرية الليبية حية حياة دودية صالحة لتشييد مملكة الاستبداد عليها.


حتى ساعات الدكتاتور الأخيرة حافظت الكتلة البشرية الليبية المغرر بها على الحالة التي صنعها المكر الناعم للقذافي، بينما فعلت الكتلة الأخرى غير المؤيدة عكس ذلك، فبمجرد ارتخاء سلاسل المكر الخشن فكت هذه الفئة قيادها وانخرطت في  الثورة ضد من مكر بها السنين الطوال وجرعها صنوف الابتزاز والهوان.

المعلم الأبرز في هذه الصورة هو وضوح خطوط كل من المكر الناعم والمكر الخشن في خارطة مشهد الثورة المتفجر، حيث لم يغير كلا الفريقين من موقفهما، وهو ما يعني رسوخ تلك الخطوط واستقرارها في النسيج الليبي الرخو.

إن المؤيدين من ضحايا المكر الناعم، لا يمكن لهم، وهم يرون قلعة المكر والاستبداد على حالها التي يعرفون، إلا أن يبقوا على الحال الذي أدمنوه، لا سيما بعد زيادة جرعة التغرير، وذلك بتلوين مشهد الصراع بلون تعرض البلاد لغزو أجنبي بدا وجوده شرطا أساسيا لحسم الموقف المتسارع الخطوات، وهو غزو ما كان ليلحق بالبلاد لولا الفراغ الذي صنعته سياط المكر الناعم والخشن بالجسم الليبي الواهن الضعيف.

أما الفئة الأخرى التي يصنفها النظام بالقوى المضادة، فإن أثر المكر المعنوي والمادي الخشن الذي كابدوه خلال السنين الطوال زادته ردة فعل النظام العنيفة تجاه انتفاضتهم السلمية  وضوحا ورسوخا، فحزموا أمرهم وخلعوا جميع الأقنعة التي لبسوها اتقاء لسياط المكر الخشن الذي لم يكن في سلة ولي أمرهم سواه.

لا يمكن للسقوط غير المتوقع وغير المنظم للنظام أن يفعل شيئا يذكر في خطي مكر الاستبداد العتيقين وتيارهما المعربد، حيث صارت كمية الحركة الكبيرة لهذين التيارين هي الفاعل الرئيسي على الأرض التي تلونت هي الأخرى باللونين المعروفين؛ مخطط، و(سادة)!

أما الآن، وبعد أن انتهت المعركة بين الحاكم وشعبه، وعلى عكس ما يعتقد البعض، فإن الاعتراف بوجود أثر مكر الاستبداد على وجوه الفريقين، ضحايا المكر الناعم والمكر الخشن، يمنح كلا منهما مبررا يقلص مساحة مسئوليته على ما قد ارتكبه من مخالفات في حق الطرف الآخر، لاسيما وأن الطرفين لم يكونا يوما على خلاف، سوى الخلاف الذي صنعه مكر الحاكم بهم.

فالطرف الذي عارض القذافي إنما فعل ما فعل دفعا لمكر مارسه عليه حاكم مستبد، كما أن الطرف الذي أيد القذافي إنما فعل ذلك تمشيا مع واقع حال استمد من حال المغالبة المزمن بعض شرعيته، وهو حال ما كان ليتغير لولا القوة القاهرة.

لا يمكن أن تخلو أي صحيفة دعوى يقيمها طرف ليبي ضد آخر من إشارة لهذين الجرحين الغائرين للمكر الاستبدادي القذافي بنوعيه. وهما جرحان من السهل تحويلهما إلى حجة لأي من الطرفين ليس ضد بعضهما البعض، وإنما ضد طرف ثالث خطط وأغرى وأجبر وابتز وورط، ثم رحل.

أما إذا استوعبنا الدرس أكثر، ولجأنا بدل التقاضي إلى الجلوس تحت دوحة المصالحة ممتدة الأغصان وارفة الظلال، فإنه سرعان ما يعرف كل منا الآخر، وذلك بمجرد تبادل بطاقات الهوية الليبية التي يظهر في منطقة بارزة منها آثار سياط كل من المكر الناعم والخشن الممتدين بامتداد حقبة السبي القذافي الطويلة.


في خلفية بطاقة هويتنا الليبية يرى كل منا بوضوح المدى الزمني والمكاني الشاسع لرحلة السبي تلك، والتي بدأت بمغامرة ملازم بلغ به الانهزام وعدم ثقته في نفسه حد التستر بجنح الليل، وإخفاء هويته علينا حتى تمكن منا.

لماذا لا نحاول رد عقارب الساعة إلى الوراء، ونعمد إلى تحسس خيوط شبكة مكر الماكرين التي التفت حول أعناقنا، ولوت رؤوسنا بحيث لا يرى أحدنا الآخر، ثم قذفت بنا جميعا في حفرة تخاصم وتشاحن واحتراب.

أيها الليبيون:

هيا بنا نقتسم تركة القذافي التي، ورغم أنها تحوي أبشع ما ترك حاكم لقومه، إلا أن كومة البشاعة تلك تحوي بقايا سياط المكر الناعم والخشن التي يطابق قطرها تماما آثار ما في وجداننا من شروخ، وما في أعماق قلوبنا من ندوب، وتلك لعمري بينة واضحة على براءة الوجدان الليبي المظلوم، ودليل قطعي على تورط الحاكم المشئوم.

فهل ترانا بعد إدراكنا لكل ذلك نختلف؟
لا أظن.

محمد عبد الله الشيباني

ليست هناك تعليقات: