الأربعاء، نوفمبر 21، 2012

الكلمة وذراعها



                                              من خواطري القديمة

الكلمة وذراعها

 يعمد المعلمون في مناسبات  كثيرة  إلى استخدام وسائل الإيضاح من أجل توصيل معلومة عسر فهمها، وتقريب فكرة أشكِل على صاحبها توصيلها. وعادة ما يتم استعمال الشكل المادي الملموس المحسوس لتقريب الشيء المعنوي الخفي المدسوس . وقد بلغ هذا الاستخدام وما استخلِص  منه من نتائج  وعبر مبلغا من الأهمية حتى أصبحت تلك النتائج والعبر أمثلة  تجري على كل لسان ، مثال ذلك قولنا ، كل إناء بما فيه ينضح ، للتعبير عن التلازم بين محتويات كل إناء وما ينضح منه ، وقولنا كذلك لا يفل الحديد إلا الحديد ، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، وغير ذلك كثير .

اسمحوا لي أيضا بتقمص دور المعلم قليلا ، لأذكركم بقانون الروافع المعروف وهو  : القوة x ذراعها = المقاومة x  ذراعها ، ذلك القانون الذي يؤكد على التلازم التام بين أثر القوة وطول ذراعها ، وعلى التناسب الطردي بينهما ، حتى أن القوة  قد يكفيها لتحقيق هدفها قليل  العزم وضعيفه وذلك عند توفر طويل الذراع وقويه .

أذكركم بذلك لأضيف مثلا رأيته يلحُّ عليَّ وأنا أشاهد الطوفان الهائل من الكلمات يتزايد قدرا ويقل أثرا ، الأمر الذي جعلني أتساءل وبإلحاح أيضا عن أسباب هذه الحالة، والتي يمكن وصفها بالظاهرة لشيوع أمرها وعظم أثرها ، وهو ما دفعني كذلك ، وتأسيسا على قانون الروافع ، أن أهمس  بهذا هذا المثل :

الكلمة بدون أسماع كالقوة بدون ذراع

أجل ما كان للكلمة مهما بلغت قوتها، ووضحت حجتها، وبالغت في تبرجها وزينتها، من أثر وهي تتسول الأسماع  فلا تجدها ، وتستجدي الأفهام والأذهان فـتحجب عنها.

ولعلكم تدركون فظيع ما آلت إليه الأمور ، عندما تضاءل حجم ما للكلمة من أثر في أسماع من حولنا كبارا وصغارا ، رعاة ورعية ، ومردود ذلك على بنية المجتمع المعنوية ، وما جرَّ ذلك من كوارث ظهر أثرها واضحا على بنيته المادية .

إن مخزوننا من الكلمات كثير وكثير جدا ، إلا أننا نعاني من عجز وشح مخيف في رصيد أذرع هذه الكلمات التي تؤمِّن وصولها إلى أسماع  وأذهان  من خاطبنا ، كما أن ركام الحوائل والموانع التي حالت دون ذلك تطاولت بتطاول الزمن الذي قضيناه نلد كلمات مشوهة لا أذرع لها ولا سيقان ، فلا مدى قطعت ولا أذنا طرقت ، بل وقفت متعجبة متحسرة على أرصفة شوارعنا المكتظة بالسائرين التائهين الحائرين  الباحثين عن كلمة بذراع تأخذ بأيديهم ، وأخرى بساق  لتوصلهم حيث يريدون ، إلا أن ما تكدس من كلماتنا كسيحة لا ساق لها ولا ذراع .

إن ذراع الكلمة الذي تبطش به ، والساق التي تسعى بها هو تلك القوة ، أو الإرادة ، بل قل السلطة التي تجعل من الكلمة مرسوما وقانونا وإجراء نافذا يلمسه الجميع ، ويعود أثره على الجميع ، فيكبرون  الكلمة وقائلها ، ويثقون في لفظها ومدلولها ، وعندئذ سيتحول جهدنا الضائع في تقيؤ الكلمات الكثيرة المجترَّة المشوَّهة ،  إلى طاقة خلاقة تلبس الكلمات أذرعا تصنع بها المستحيل ، وتمنحها سيقانا تطال بها النجوم .

وفي البدء كانت  الكلمة 

ولكن أيُّ كلمة           


ليست هناك تعليقات: