من خواطري القديمة
رجل كألف
وألف كأف؟
أجل، إنه مثل جرى على ألسنة الناس منذ القدم، وزاده قبولا وتصديقا
ورسوخا في الأذهان ما يتفضل الله به على شخص ما من مواهب، وما يفتح له من أبواب
حكمة ومعرفة وعلم، وغير ذلك من الهبات الإلهية المقدرة والموجهة بعناية
لتصنع من ذلك الشخص الموهوب أداة إرادة ربانية، وشراع مشيئة إلهية تدفع بسفينة
الحياة إلى الأمام صوب مرافئ نجاة البشرية وتقدمها.
وقد سرد علينا التاريخ سير أشخاص كثيرين حكموا الناس وقادوا الجيوش
وأحرزوا الانتصارات العسكرية والسياسية الباهرة، فما أنتجت كل تلك الأعمال سوى
تغيير مؤقت في خطوط الخرائط السياسية لتلك الأمكنة التي عبروها، ثم ما لبثت تلك
الخرائط أن تبدلت وتغيرت على يد أشخاص آخرين غيروا ونسخوا ما فعل سابقوهم، وربما
بما يسيء إلى ذكرهم. وهكذا دواليك.
كما سرد علينا التاريخ
أيضا سير أشخاص وقادة آخرين حملوا بدل السيوف والبنادق سرج هداية ومصابيح معرفة ومعاول
إصلاح وتحضر ورقي، ولم يقودوا مجرد طائفة واحدة من الناس في مواجهة طائفة أخرى، أو
سيروا جيشا لدحر جيش آخر، ولكنهم قادوا بتلك السرج والمصابيح البشرية كلها، فجعلوا
منها جيشا واحدا، مهمته الأساسية القضاء على العدو المشترك للحياة، فتغيرت وتقلصت
خطوط خرائط الجهل والمرض والفقر والظلم الاجتماعي وغيره. ولم نعرف أبدا عن خريطة
رسمها هؤلاء العظماء ثم جاء أحد من بعدهم فتجرأ على نقض ما فعلوه أو طمaس ما رسموه، بل على العكس من ذلك فقد أتم الخلف فعل السلف.
ليسوا برجال تاريخيين من صنعهم حال التدافع والتنافس وربما التناحر
والتقاتل من أجل الاستحواذ على مصدر ماء أو رقعة أرض أو ربما على شيء أتفه من ذلك
بكثير، من مثل حب السيطرة والغلبة والظهور والتعلق بالجاه والكرسي والسلطان مما لا
يشرع معه على الإطلاق تسيير جيوش أو إسالة دماء.
مثل هؤلاء الرجال، وإن حازوا من الألقاب ما حازوا، أو تغنى باسمهم
من تغنى، فإن صفحة كتابهم لم تخل أبدا من مظالم، ولم تنج سيرتهم من قدح وذم، وفوق
كل ذلك لم يتركوا إرثا نافعا تتقاسمه البشرية وتذكرهم به.
وعلى النقيض من هؤلاء نجد رجالا آخرين ربطتهم بحال الناس وواقعهم
علاقة شرعية، وأفرزتهم حالة التنافس الشريف من أجل إنهاء الشر ودفع الخطر وقتل
الفقر، فتوجهوا بمواهبهم وإمكانياتهم صوب ذلك الحال السيئ، فأزالوا مثالبه
وأصلحوا معايبه، ومنحوا نسخته الجديدة المستصلحة المطورة وبدون مقابل يذكر
لكل من هم حولهم، وجعلوا ذلك إرثا دائما سابغا حتى شمل الأرض وساكنيها جميعهم.
ذهب حال وزمن العنتريات، ونزال الفوارس في الساحات، كما ولى إلى
غير رجعة زمن القائد الأسطورة والزعيم الموهوب وربما السلطان الموحى إليه، وها نحن
في زمن نرى فيه الرجال الأفذاذ هم الرجال الأكثر التصاقا بحال الناس، وأكثرهم
تعبيرا عنه، ووفاء له، وأشدهم حرصا على تغييره والنهوض به وتطويره.
وكذلك ذهب حال وزمن الرجل الذي بدون بصمته الفريدة لا يمكن فتح أي
باب، وها نحن في زمن ثبت لنا فيه أن الرجل الأسطورة هو الذي يملك تلك البصمة التي
تحمل في خطوطها ورموزها شفرة فك رموز كل بصمات رجال الوطن ونسائه، وتصنع منهم
جميعا جيش بناء وحضارة ورخاء، ولنا في رجل ماليزيا الفذ مهاتير محمد الذي استوعبت
بصمته بصمات الخمسة وعشرين مليونا من الماليزيين وجعلتهم بصمة رجل واحد، فكان
مهاتير محمد ليس مجرد رجل كألف بل كان رجلا كملايين. وما كان ليكون كذلك سوى
انبعاثه من رحم حال الملايين والتصاقه بهم لدرجة التماهي والانصهار.
يخوض أوباما هذه الأيام معركة توطيد قناعة الأمريكيين به ربما
للفوز بولاية ثانية وأخيرة. لم يتسلل أوباما في ظلمات الليل إلى حاملي الأصوات
الفقراء حاملا فوق ظهره أكياس النقود ليشتري بها تلك الأصوات، كما أنه لم
يقف أمام الأضواء والكاميرات ليعدد مناقبه ويسرد قصص فتوحاته القديمة، ولكنه توجه
هناك إلى حيث التربة التي صنعته والحال الذي أفرزه. توجه إلى تطوير النظم
الاجتماعية والاقتصادية التي ينظر إليها جميع الناخبين الأمريكان ويرصدونها، ولا
يرضون بغير إصلاحها وتطويرها ثمنا لأصواتهم.
لم يقنع الناخب الأمريكي ويغريه مجرد زعيم ذلق اللسان، موفور
الحجة بليغ البيان، وإنما يقنعه ذلك الزعيم الذي يملك أصابع ذهبية يلمس بها حال
الناس فيرتق ثقوبه، ويضمد جروحه، ويوافق بين تناقضاته، ويجمع ما تناثر وتباعد من
مكوناته. وعلى هذا الأساس تصرف ذلك الناخب عندما قام بعمله التاريخي وغير المسبوق
وسلم أمريكا لرجل أسود بسيط ، مفضلا إياه على رجل أبيض وجيه نبيل، وذلك لا
لشيء إلا لما ظهر على وجه أوباما الأسود من آثار تراب الحال الذي عفره ولامسه بكل
خلية من خلاياه، عازما على جعله مزرعة كل حلم أمريكي جميل لطيف، ومقبرة كل هاجس
أمريكي عنيف مخيف.
أجل الكل هنالك يهمه الحال، لأن الحال عندهم هو الذي يصنع الرجال
التاريخيين الأفذاذ، وليس العكس. أما عندنا فالحال يأتي في المرتبة الثانية، وترى
رجالنا همهم الأول صنع أنفسهم وأمجادهم الشخصية المزيفة باستغلال غفلة من يحكمون،
وسوء أحوال البلاد التي يسوسون.
ترى هل يكفيني في الختام أن أستشهد بالكارثة الوطنية الحاملة للرقم
الإشاري ( 146 شفافية ـــ 2010 ) لأثبت أن الهوة عميقة
والعلاقة منقطعة بين الرجال الذين يحكمون بلادنا والحال الذي عليه بلادنا؟
وإذا كان الجواب نعم، وهو الأرجح، فهل علينا لإزالة الكارثة هو
مجرد محافظتنا على أولئك الرجال القليلين والمتسمرين في أماكنهم لعقود، وعدم جرح
مشاعرهم بإعلامهم بحقيقة أنهم بلغوا سن التقاعد، والطلب منهم بكل أدب إفساح المجال
أمام من يرى فيه جموع الليبيين القدرة على تغيير أحوالهم، تماما كما يفعل معظم سكان
الأرض الذين لا يستحون أبدا من تكرار طلب تنحي حكامهم واستبدالهم بآخرين كل أربع
سنوات. وبدونما زعل يذكر.
لا نريد مزيدا من التنافس الخبيث بين الأسماء والشخصيات والرجال،
وإنما نريد تنافسا نبيلا يغير بل يزلزل ما نحن فيه من سوء أحوال.
وإلا فلنتوقع جميعا مزيدا من الخسران وسوء المآل، وربما لعنة
اللاحقين بنا من أجيال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق