ترمومتر
مبتلون، وأيضا محظوظون، نحن الذين عشنا لحظة
انفجار مراجل الدكتاتورية والاستبداد في آخر معاقلها؛ الجماهيرية العظمى!
أما ابتلاؤنا فمؤكد وشواهده وعلاماته أبلغ
من أن تعد أو توصف؛ وهل بعد خوض غمار حرب أهلية طاحنة من حاجة للتدليل على هذا
البلاء الوبيل.
وأما أننا محظوظون فلأننا شهدنا حدوث حدث
كان وقوعه أشبه ما يكون بمعجزة، وبتحقق وقوعه تحقق أمل تعسرت ولادته وطال انتظاره
حتى انقلب الأمل إلى ألم أو كاد.
وإننا إذ كنا ننتظر لحظة انفجار المرجل، وما
سيقذفنا به من عنيف ألم أو لطيف أمل، كانت عيوننا لا تتحول لحظة عن مؤشر بل مؤشرات
ترمومتر مرجل الظلم والطغيان والاستبداد وهي تتسارع نحو المنطقة الحمراء والنهاية السوداء؛ إعلان الحاكم
الحرب على شعبه.
ليس هناك من أحد أقرب إلى ترمومتر ذلك
المرجل من الدكتاتور السابق وزبانيته لأنهم هم وحدهم المسيطرون على أجهزة الدولة
جميعها، وهم الذين تعرض عليهم صباح مساء مؤشرات الفساد والمرض والجهل والفقر، وما
يحدثه كل ذلك في هيكل الدولة ونفوس مواطنيها من شروخ وتصدع وانهيار، وكذا ما يفعله
كل ذلك من تآكل واضمحلال في رصيد ثقة العالم بالدولة ونظامها.
مؤشرات ترمومتر المرجل جميعها تتحرك بوتيرة
متزايدة نحو نقطة الصفر ولحظة الانفجار، ومؤشرات تركيز أدرينالين الحكام الدكتاتوريين
الحمقى هي أيضا تتحرك، ولكن بكسل ظاهر وبوتيرة أقل.
وفي كل مرة يحسب فيها المراقبون الفرق بين
سرعتي المؤشرين، مؤشر انفجار الأوضاع ومؤشر ردة فعل الحكام لذلك، ترى المراقبون
يصرخون بأعلى صوتهم محذرين الحكام بالفارق غير المأبوه له بين المؤشرين. وبدل أن
تتجاوب صمامات المرجل مع أصوات التحذير، تزداد الثقة العمياء للحكام في أنفسهم، ورائدهم
في ذلك أنهم طالما لا زالوا يسمعون صوت الرصاص، إذن فهم أحياء!
رأينا ذلك بأم أعيننا ساعة سقوط دكتاتور
رومانيا ودكتاتور العراق ودكتاتور ليبيا، وها هو دكتاتور سوريا يتبعهم دون تردد!
أسدل الستار على تجربتنا الدكتاتورية المرة المكلفة، وأفرغ المضمار وهيئ للّاعبين الجدد المكونين من الفريقين الدائمين؛ الحكام، والمحكومين، مع الأخذ في الاعتبار أن كل شيء قد تغير في المضمار وكذا في الراكضين فيه، إلا أن شيئا واحدا ظل صامدا ولم يتغير؛ إنه الترمومتر!
وبسبب تغير معادلات الواقع وزيادة معدل حساسيتها، زاد تبعا لذلك توهج مؤشر الترمومتر، وزادت درجة تركز الأدرينالين لدى الحكام الجدد، وبالمقابل زيادة حساسية الفارق بين قراءة الحكام وقراءة
المحكومين لأرقام ذلك الترمومتر، أولئك المحكومين الذين تحولوا من ضحايا حكام إلى صناع حكام.
سوف لن ينتظر الشعب صانع الحكام طويلا كما انتظر في السابق، الأمر الذي سيقلب الوضع السابق رأسا على عقب، وهو ما يحتم أن يكون الفارق بين قراءتي مؤشر الترمومتر لصالح الحكام، وليس كما كان سابقا لصالح المحكومين؛ أي لابد للحكام هذه المرة من الحرص على قراءة المؤشرات قبل خروج المظاهرات وغلق الطرقات، بل وربما التفكير في الانقلابات، كما أشيع أخيرا!
بعد انقضاء العام على سيلان نهر الديمقراطية
وجريانه، وكذا مرور عامين على جريان نهر الدماء الرافد الوحيد لنهر الديمقراطية،
يكون من الصعب قبول خطأ الحكام في تهجي أبجدية التغيير، سواء كان أولئك الحكام في
غرفة المؤتمر الوطني، أو في الغرفة المجاورة؛ غرفة رئاسة الوزراء، أو في غرف كثيرة
أخرى تملك السلطة والسلاح.
الرئيس الأمريكي يلقي بيانا أسبوعيا يخاطب فيه أمته. لو لم يكن هناك تغييرا أسبوعيا إيجابيا يستحق الذكر لتوقف أكبر رئيس دولة عن الكلام، ولعم الصمت المكان، ولانفجر البركان!
وبعيدا عن الترف السياسي الفج، فإن الملفات
المعلقة المنتظرة التغيير لدينا كثيرة ومتنوعة، والناظرون إليها هم أيضا كثيرون ومتنوعون؛ منهم
من همه الحصول على عمل طال انتظاره، ومنهم من همه السكن، ومنهم من همه المركوب، بل
إن منهم من همه توفير صرف صحي لمنزله، أو مجرد تسوية الطريق المؤدية إليه.
الخطأ الجسيم الذي صبغ الفترة الدكتاتورية السابقة، هو إصرارها على استخدام ترمومتر واحد تسمر في باب العزيزية، واقتصرت قراءته على جهة واحدة، بل ربما شخص واحد.
كانت المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية
كثيرة، ولكن جميعهم لم يكونوا يملكون ترمومترا، سوى ترمومتر المحافظة على مزاج
القائد من أي تعكير تسببه أحيانا كلمة يخربشها صبي بقطعة فحم على جدار مدرسته!
يجب أن لا نكرر الخطأ ونكتفي بترمومتر واحد،
بل علينا زرع عشرات بل مئات الترمومترات، والتي يجب أن تكون محصلة قراءتها مطابقة
تماما لقراءة الترمومتر الرئيسي المعلق في قاعة المؤتمر الوطني، أو قاعة رئاسة الوزراء.
ــ أعمال صيانة بسيطة لطريق أو مدرسة، أو
استجلاب آلة لمستشفى، أو حتى توفير سيارة تسليك مجاري، أو غير ذلك من أعمال مهمة وملحة، لا تحتاج إلى دراسات فنية
معقدة أو عملية تمويلية ضخمة تبرر التباطؤ المريب في تنفيذها.
ــ نظام إداري عقيم في مؤسسة، لا يحتاج
إصلاحه إلى كثير جهد، ولكنه يبقى كما هو رغم أنف الثورة والتغيير.
ــ شركة مالية كبرى قذفها نزق الحمقى
والسفهاء إلى مكان ناء بعيد عن كل عمران ومفتقر إلى أبسط عوامل الجدوى، ولكن هذه
الشركة تبقى في مكانها، وتبقى صلوات تأليه هبل تتلى في محراب هبل رغم تحول هبل
العظيم إلى رميم.
ــ صبيان قصر يعربدون في الشوارع، بل
ويغلقونها، ولا ترى من يأبه لذلك أو يحرك ساكنا.
ــ بناء عشوائي في كل مكان سوف تكون له تبعات
فنية ومالية جسيمة سترهق خزانة الدولة وتهدر إمكانياتها ولا أحد من أي جهة كانت يقوم ولو بمجرد إزعاج المخالفين.
ــ العمالة الواردة غير المضبوطة تستغل الظرف وتبيعنا
بضاعتها بأسعار مضاعفة، وهو أمر يمكن تلافيه بإجراء إداري بسيط يعلمه أهل
الاختصاص، ولكن لا إجراء.
وكثير غير ذلك.
لا سبيل إلى إصلاح هذه الفتوق المنتشرة في
كل مكان من ثياب الوطن إلا بتعدد أدوات الرتق، والتي لن تتوفر إلا بتعدد
الترمومترات وانتشارها، وملاحظة مؤشراتها ساعة بساعة وشبر بشبر.
رب قائل يقول إن ترمومترات قياس هذه الظواهر
السلبية موجودة في كل مكان، ومؤشراتها تصرخ بأعلى صوت، ولكن لا أحد يترجم صرخات الترمومترات
إلى علاجات وإصلاحات ملموسة، بل الكل يصرخ والكل يشجب والكل يستنكر ولا شيء غير ذلك.
العجيب أن الكثير من المشاكل يمكن حلها على
مستوى محلي، وفي نطاق كل بلدية؛ ففي كل بلدية هناك مركز شرطة وكتائب ثوار ومجلس
عسكري ومجلس محلي وفرع شركة مياه وصرف صحي وفرع مرافق، وبإمكان هذه الجهات أن تقوم
بحصر ما تعترض منطقتها من مشاكل وتشرع في حلها بالتنسيق مع الجهات الأعلى قانونيا وإداريا وتمويليا.
كنا نبرر بقاء حفرة في شارع رئيسي السنين
الطوال بدون إصلاح وذلك لما اتصف به النظام الدكتاتوري السابق من انغلاق وكبح
لمبادرات المصلحين، إلا أن هذا المبرر سوف يكون جريمة لا تغتفر ونحن نعلي أصواتنا بأننا
ثوار ورواد إصلاح وبناء وتطوير.
كتبت هذا المقال بلغة بسيطة وأفكار ساذجة
سطحية، ولكن هذه اللغة البسيطة هي اللغة التي يتكلم بها عموم المواطنين، وتلكم
الأفكار هي أفكار السواد الأعظم منهم.
وببساطة أكثر:
الشعب غيَّر النظام، كي تتحقق الأحلام،
لا من أجل أن تتجدد الأوهام.
كل من يعلي شعارات الثورة ويصرخ بها ولا يلقي بالا لصراخ مؤشرات الترمومترات، فهو بائع للوهم!
كل من يهرول وراء الكاميرات ويرهقنا بعقيم التأويلات والتحليلات والاتهامات الممجوجات ويتجاهل صراخ مؤشرات الترمومترات، فهو بائع للوهم!
كل من يصب كل جهده من أجل أن يبني عرينه الحزبي ومجده الانتخابي، ولا يسخر شيئا من جهده لكبح جماح مؤشرات" العوج" المجنونة، فهو بائع للوهم.
كل من يعلي شعارات الثورة ويصرخ بها ولا يلقي بالا لصراخ مؤشرات الترمومترات، فهو بائع للوهم!
كل من يهرول وراء الكاميرات ويرهقنا بعقيم التأويلات والتحليلات والاتهامات الممجوجات ويتجاهل صراخ مؤشرات الترمومترات، فهو بائع للوهم!
كل من يصب كل جهده من أجل أن يبني عرينه الحزبي ومجده الانتخابي، ولا يسخر شيئا من جهده لكبح جماح مؤشرات" العوج" المجنونة، فهو بائع للوهم.
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
http://libyanspring.blogspot.com