الحكومة بين
استمرار الفورة، وبطء الدورة!
كان الدكتاتور
القذافي وهو يتلهى بسحقنا معنويا وماديا يردد ومن ورائه كومبارسه الأثيم العبارة
سيئة الصيت: الثورة مستمرة!
واستمرت ثورة
الفاتح أبدا في سحقنا العقود الطوال، ونجحت في ذلك أيما نجاح، إلا أنها فشلت فشلا
ذريعا في تأسيس دولة، ولو بمقاس دولة صغيرة فقيرة كدول ناشئة كثيرة نعرفها، والتي
وإن كانت قد حرمت من نفط الجماهيرية ونظريتها العالمية الثالثة وقائدها الأممي،
إلا أنها تمكنت من تأسيس دولة وشرعت عجلات قطارها الحضاري في التحرك.
يبدو أن الثورة أو
الفورة خاصتنا، نحن سكان هذه الأرض الخشنة قليلة الماء حد التيبس والمتحجرة حضاريا
حد التخلف والتكلس، هي حالة إدمان ما إن يستبد حشيشها برأس متعاطيها حتى يعقد معها
زواجا كاثوليكيا لا يفصلها عنه إلا الموت هادم تلك الرأس التي يسكنها هذا الإدمان.
إدمان القذافي تعاطي
حشيش ثورته المستمرة أبدا، لم تفلح عشرات آلاف أطنان الديناميت من اجتثاث جذوره
الضاربة في الأعماق، وانتشال فريسته، القذافي، من غيبوبة إدمانه الجنوني؛ وحتى وهو
يواجه هادم اللذة ونازع الإدمان من جذوره،
الموت، لم يفق القذافي من سكرة ثورته، حيث وهو بين الحياة والموت رأيناه ينحو
باللائمة على من جاءوا يفسدون عليه نوبة أو حقبة إدمانه ذات الأربعة عقود، لا بل إنه
وصف منتزعيه من سكرته تلك بأبناء الحرام ومرتكبيه!
والمدمن ليس في
حاجة أبدا لمن يمنحه مبرر إدمانه، وكذا شرعية وقانونية ما يفعله أثناء ذلك، حتى إنه
لا يمكنك إلا أن تتعاطف مع المدمن وهو ينسج ألف دليل ودليل من أكداس خيوط السكرة
الواهنة وهن خيوط العنكبوت، والتي تتراءى لناسجها الموغل في إدمانه أقوى وأمتن من خيوط
الفولاذ.
إن انهماك
الليبيين، وخاصة الشباب منهم، في الحرب التي دارت بينهم وبين القذافي وأعوانه،
والتي استمرت ما يقارب العام، وتحولهم بعد ذلك إلى كتائب مسلحة هشة الانضباط، مع
ما صاحب ذلك من أجواء درامية غشت مسلسل سقوط نظام سياسي معقد ومثير للجدل؛ إن كل
ذلك عمل على ملء الفراغ الكبير لدى هؤلاء الشباب الذين يعاني الكثير منهم من
البطالة، كما أن قسما كبيرا من الذين التحقوا بصفوف الثوار بعد انتهاء الحرب،
والذين يعدون بالآلاف هم سجناء جنائيون فكت الحرب قيودهم، ليجدوا أنفسهم دونما جهد
بذلوه في صف المنتصر مما منحهم أحقية حيازة السلاح وجمع غنائم الحرب المعنوية والمادية
المغرية، وهو حال من الصعب التفريط فيه مقابل عيون دولة ليبيا السوداء، والتي لا
يمكن لهؤلاء الشباب أن يرونها أبدا وهم يرتدون نظارات الفورة قاتمة السواد!
إن استمرار الثورة
أو الفورة هو الضامن الوحيد لتمتع هؤلاء بما كسيوا، وليس من السهل إقناعهم بالتخلي
عن هذه المكاسب إلا ترهيبا بواسطة القوة المكلفة وغير المتوفرة، أو ترغيبا بواسطة
ملء الفراغ الذي ستتركه فقاعات الفورة
التي تحاصر وتقف أمام عجلات قطار الدولة!
لم أمر بمجموعة من
الشباب، وخاصة عديمي الشغل محدودي الثقافة إلا ووجدتهم يخوضون في أمر الشأن العام
بمختلف درجاته؛ بدءا من نطاقه البلدي المحلي، وانتهاء بمستواه الأعلى المتمثل في
البرلمان والحكومة!
هؤلاء الشباب،
والذين معظمهم يحوز السلاح ويتبع كتيبة، تجدهم عندما يتكلمون في الشأن العام لا
يتكلمون بلسان حال الناقد الموضوعي لتصرفات الحكومة من أجل محاورتها بهدوء والوصول
إلى فهم مشترك للمشاكل المطروحة، ولكنهم يتكلمون من فوق وبلهجة مشحونة بالوعيد
والتهديد، وتراهم أسهل ما يقترحون من حلول هو القيام بتنحية شاغلي الوظائف الكبرى
المتعلقة بالشأن الذي يخوضون فيه.
ولأن الفورة
مستمرة، فإن النتيجة الحتمية لمثل هذه المناقشات في ظل الفراغ الأمني هو تحولها
إلى أفعال أقلها حملة فيسبوكية شرسة، وآخرها اقتحام وربما اعتداء وخطف المسئولين
المستهدفين. ودائما المبرر موجود وهو الفورة وشرعيتها!
تماما وبكل
الانطباق، نرى التقابل والتكافؤ بين شرعية الأعمال بل الجرائم الثورية التي كان
يقوم بها القذافي وأعوانه، وبين من يحملون نفس السلاح الذي خوفنا وأرهبنا به
القذافي وهو يردد: الثورة مستمرة والفاتح أبدأ. وكذلك وهو يقترف جرائمه الثورية
مدعيا شرعيتها بشرعية الثورة ذاتها.
ولكن ألا يكون
لهؤلاء الشباب المحتقنين بعض الحق، وهم يرون مؤشرات كثيرة تشي بوجود بؤر سلبية في
أداء الحكومة، وخاصة ما يعتري الحكومة من بطء دورتها وتراخي وتيرة حركتها، وأحيانا
تسيبها وإهمالها؟!
لابد أن الحكومة
تدرك أن شطرا كبيرا من عملها هو عبارة عن عملية إطفاء لحرائق كثيرة منها ما أشعله
النظام السابق، ومنها ما نجم عن عملية التغيير نفسها، وهذه الحرائق تتطلب سرعة
وذكاء كبيرين عند التعامل معها.
أجل يجب على
الحكومة في هذه الظروف الحرجة أن تنبغ كثيرا في فقه الأولويات وهي تؤدي أعمالها،
وأن ترى من أكثر من زاوية لقائمة مسئولياتها وأهدافها، وحبذا لو أعطت للزاوية
الثقافية والنفسية والاجتماعية حقها وهي تمارس دورها الصعب، ذلك أن هناك خيوطا
كثيرة تربط بين المحتجين على أداء الحكومة وحالتهم الثقافية والنفسية والاجتماعية.
ليس هناك أي مبرر
لتقويم عمل الحكومة بالسلاح، كما أن بطء الحكومة وقلة حنكتها وأحادية وضيق زاوية
نظرها يمنح الكتلة المحتقنة من عوام الناس مبرر إثارة الحكومة، وربما عرقلتها.
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق