الاثنين، مايو 13، 2013

الشخصنة المنتنة


الشخصنة المنتنة صيرتنا كباشا تتناطح في حظيرة جزار!

كان هَمُّ الليبيين الأكبر وهم يواجهون نظام القذافي في الحرب الناعمة والخشنة معه هو القضاء على القذافي في شخصه، وكأن القذافي وهو الشخص العادي الواحد بحجم وعدد وقوة كل ما تملكه الدولة من سلاح ومال وما لها من جند وأعوان. وبموت القذافي وسقوط هامته وتحولها عن المشهد انفسح المجال أمام الأشخاص أو الشخصيات الواقفة وراءه ليتصدروا المشهد في طابور ورقم مسلسل تنازلي من الأهم إلى الأقل أهمية، وذلك وفقا لما وقع في أنفسنا من آثار شخصياتهم. 

وبقدر ما تكلف القذافي في تضخيم شخصه حد الإسراف، بقدر ما كرس في أنفسنا نحن الليبيين عادة شخصنة كل شيء، حتى غضضنا أبصارنا عن أشياء كثيرة مهمة خطيرة، وذلك لا لشيء إلا لأنها غير مرتبطة في أذهاننا بأشخاص؛ فطالما أن الكائنات الشريرة المهلكة مثل الفقر والجهل والمرض، وكذا الكائنات الأخرى الخيرة مثل الحق والعدل والبذل والولاء للوطن، هي كائنات ليس لها رأس وأطراف واسم، فإننا في هدنة معها، وليست من أولويات اهتمامنا.

وللشخصيات التي أثرت فينا ظلال وامتدادات؛ فصورة القذافي على الحائط ومقولاته وشعاراته تحولت في أعيننا وأذهاننا إلى أشخاص، ترانا نفسح لهم الطريق، ونحذر صولاتهم وجولاتهم، وذلك ليس لخطر يسكن هذه الرسوم ولكن لما نراه من ظل شخصية من نرهب عليها.

كذلك أبناء القذافي وأفراد عائلته وقبيلته وحتى أفراد بعض القبائل الأخرى المعروفين بولائهم المميز له ولنظامه، جميعهم وقعوا في مجال تأثير شحنة شخصية القذافي وشكلوا امتدادا لظله.

إن تغول الشخص في أذهاننا، وهوان الأشياء الأخرى معنوية كانت أو مادية خيرة أو شريرة ضارة أو نافعة، قلب في وعينا الإحساس الطبيعي بالأشياء، وبالتالي ردة الفعل العادلة تجاهها.

تراجعت في عقل التلميذ الصغير صورة المدرسة التي صارت ثكنة، وكذا تراجعت شخصية مدير المدرسة عندما رأى هذا التلميذ الضابط الأكثر شبها بالقذافي أو من يقوم مقامه هو الأكثر تأثيرا في أحوال المدرسة وشؤونها، وأضحى المدير الذي كان التلميذ في أول عهده بالمدرسة يهابه هو الذي يهاب الكائنات الجديدة الطارئة على منظومة التعليم والتكوين الذهني، والتي هي المصدر الثاني بعد البيت التي يستمد منها الصغير مفردات وعيه ويبني من لبناتها درجات سلم إدراكه.

وفي الشارع والمحيط خسرت منظومة القيم، وهي منظومة معنوية إيجابية خيرة كالحق والعدل والصدق والبذل والولاء وغيرهم، حربها أمام الأشخاص وأسلحتهم الفتاكة المدمرة، حتى قام الكثير من المفتونين بوضع الرب إلى جانب شخص الدكتاتور دعاية ولفظا، بل إنهم أعلوا شأن الدكتاتور على الرب سلوكا وفعلا. 

كنت مفرطا في التفاؤل عندما تصورت أن ليبيا وبمجرد خلوها من شخص القذافي وما حوله من أشخاص ستتحول أوتوماتيكيا وفي طرفة عين إلى غير ليبيا الأولى. تصورت أن تعود الأمور إلى نصابها، ونرى الشخص الطبيعي في هيئته الطبيعية المجردة، كما نرى الأشخاص المعنويين خيرين وشريرين على حقيقتهم، فننحاز إلى منظومة القيم الخيرة المنهزمة طيلة عقود الطغيان وننفض عن ثوبها تراب الهزيمة.

لم يحدث ذلك، وإنما الذي حدث هو استمرار غبش العيون واضطراب العقول، وبدل أن نتعافى مما تركه كابوس شخص القذافي بدأنا نرى شخص القذافي في كل مكان، وبدل أن نرى أعداءنا الحقيقيين في صورتهم الحقيقية بتنا نبصرهم أصغر وأهون بكثير مما هم عليه؛ فمنحهم ذلك مددا مجانيا زادهم قوة وزادنا في مواجهتهم ضعفا وانهزاما.

عندما يطرق أحدنا موضوع ظاهرة سيئة تهدد المجتمع لا يجد الاهتمام المطلوب من سامعيه، رغم إجماعهم على صدق ما يقول، إلا أنه وبمجرد الإشارة إلى شخص ما، مادحا له أو ذاما إياه، فيجد المتكلم اهتمام الجميع قد انهال عليه كل بما يستطيع.

نخوض الآن حرب عزل الأشخاص، وخاض قبلنا القذافي نفس الحرب عندما جاء إلى السلطة، ورغم الفارق الزمني الكبير بين زمن عزله وعزلنا إلا أن الفارق الموضوعي في التعاطي مع هذا الموضوع يكاد يكون منعدما.

أتصور أنه لو قام أحدنا بالدعوة إلى مشروع عزل ومحاربة أي من أعدائنا الحقيقيين، الفقر الجهل المرض الفساد، والذين لم نفعل ما فعلنا إلا من أجل الوصول إليهم وعزلهم واستئصالهم، فإن ذلك الشخص لا يتبعه إلا القليل. بيد أن عزلا يتعلق شأنه بشخص ما، تقوم من أجله الدنيا ولا تقعد.

إن جزارنا المطبق علينا في حظيرته وبيده سكاكين التخلف والفقر والجهل والمرض والفساد والمخدرات والانحطاط الأخلاقي والتعصب والتزمت بكل صوره، لا يهمه اسم الفائز في مباريات النطح التي أدمناها في هذه الحظيرة، والتي تزداد ضيقا وكآبة كلما زادت نوبة النطح استعارا.

بدأنا في أوليمبياد النطح مبكرا جدا ولم نكن نفرغ بعد من تهنئة بعضنا بعضا بالخلاص من الهلاك المحقق على يد الدكتاتور، ثم استعرت نوبة النطح إبان انتخابات المؤتمر الوطني وتشكيل الحكومة، وها هي الآن تتأجج بما سكب عليها من زيت العزل، وهكذا.

حقا إن الشخصنة منتنة، وإنها بنزين التناطح المهلك!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: