ترمومتر، أم صاعق بنغازي؟!
اختلاف وجهات النظر في أي وسط، والتدافع
والاحتكاك العادي المقبول خلاله، كل ذلك ينتج حرارة تدفع زئبق ترمومتر هذا الوسط نحو
التمدد، مسجلا قراءات متقدمة لحرارة ذلك الوسط. ثم ما تلبث هذه القراءات أن تنخفض،
وقد تعاود الصعود مرة أخرى، وهكذا وفق تذبذب مقبول ومسيطر عليه.
ذلك هو الترمومتر وحركة زئبقه المعروفة، وهو
جهاز يبعث وجوده على الارتياح، لكونه يؤمن الشعور بوجود حرارة الحياة في الجسم،
وكذا وجود العين الساهرة على متابعة شأنه وتأمين سلامته.
أما الصاعق فهي أداة تتشابه مع أداة
الترمومتر في تحسسها لحرارة ما حولها، ولكن ردة فعلها إزاء ذلك تختلف كثيرا عن ردة
فعل الترمومتر؛ إنها تفجر الوسط وتخرجه عن السيطرة، وتبلغ به النهاية.
في بنغازي نصب النظام البوليسي للقذافي
ترمومترات كثيرة، وسجلت هذه الترمومترات قراءات عديدة خطيرة خلال تلك الحقبة
الدكتاتورية، وبلغ بعض هذه القراءات المناطق الحمراء لدرجة حرارة بنغازي، إلا أن
ردة فعل النظام آنذاك اقتصرت على رش الماء الأمني البارد فوق الأماكن الساخنة، وهو
ما كفل في كل مرة الرجوع بزئبق الترمومتر الأمني
إلى الوضع الآمن.
في منتصف فبراير 2011 ارتفعت مؤشرات ترمومتر بنغازي إلى المستوى
الأحمر، وكالعادة، وبشكل أوتوماتيكي، تحركت أجهزة تخفيض درجة الحرارة الأمنية،
وتمكنت من استعادة درجة الحرارة الآمنة للوسط البنغزاوي، حتى كاد برد شتاء أول فبراير
أن يطفئ ما شهده آخره من ربيع حار.
لو اقتصر الأمر في ذلك الشهر الشتوي الربيعي
على ما أبدته الترمومترات ومؤشراتها، لسهل ذلك على كبار رجال القذافي الذين هبوا
إلى بنغازي من السيطرة على موقف بنغازي المتفجر، ولكن بنغازي تفجرت، وسال دمها، وأعقب
ذلك سماع انفجار كبير لسقوط حاجز الخوف، ذلك الحاجز الذي لم تسقطه خلال العقود كل
الأرقام المتوهجة الحمراء لترمومترات بنغازي التي ما عرفت سكونا طول سني وقوعها في
قبضة الدكتاتور.
بالتأكيد إن الذي أسقط حاجز الخوف هذه المرة
ليس ترمومترا ولا زئبقا، وإنما هو شيء آخر، إنه هذه المرة الصاعق المحرك لسلسة
طويلة مرعبة من الانفجارات عمت رقعة ليبيا كلها، وقذفت بالقذافي الأسطورة إلى جوف ماسورة!
جدير بأهل بنغازي هذه الأيام أن يرصدوا حركة
المؤشرات الكثيرة التي ترصد حركتهم وتجس حرارتهم، وحري بهم أن يفرقوا بين مؤشرات
الترمومترات، وبين ما للصواعق من صعقات قاتلات!
الذي حدث في الكويفية من حركات لمؤشرات كثيرة
بلغت درجات خطيرة من التوهج، هو بالتأكيد ليس من صنع الترمومترات المعروفة، وهو حال
قريب الشبه كثيرا بذلك الحال الذي اتخذ مكانا بارزا في ذاكرة أهل بنغازي، والذي
نقشه في أذهانهم ذلك الانفجار المشهود لذلك الصاعق الذي بث صعقته المدوية في كل
أوصال بنغازي ومن بعدها ليبيا كلها في فبراير 2011، وكان هذا الانفجار عنيفا جدا حتى
أنه تمكن من تحريك صفيحة بنغازي الجيولوجية السياسية وحقبتها الدهرية الحضارية من
الحالة الجماهيرية الدكتاتورية الجامدة المتكلسة إلى الحالة الوطنية الديمقراطية
النابضة.
زلزال الكويفية الذي بلغ عشر درجات على مقياس
ريختر العراقيhttp://libyanspring.blogspot.com/ ) ، وكذا هزاته الارتدادية اللاحقة، يجب
ألا يسمح لكل ذلك بالانتشار، وذلك بالتصدي له شعبيا من خلال الكتلة الشعبية التي
اكتفت حتى حينه بالصمت والاستنكار السلبي لما يدور حولها من تحركات مريبة، دفعت
وستدفع بدواليب الصاعق الخطير إلى التحرك، وإحداث انفجار، وربما انفجارات من الصعب
السيطرة عليه.
الكتلة
الشعبية بعد سريان الدم الديمقراطي في أوصالها لم تعد كما كانت عليه سابقا منعدمة
الحس ثقيلة الحركة. وهي أيضا وبعد خوضها معركتها التحررية الشاقة الأخيرة قد نهلت
من معين الخبرة التي تؤهلها خوض الأزمات والخروج منها بأقل خسائر ممكنة.
كل
من يقف ضد رأي الأغلبية الشعبية، مهما كانت قوته، هو ضعيف أمام تجمع هذه الأغلبية
واحتجاجها الذكي الذي لا يمكن مواجهته إلا بتجمع مثله وحجة أكبر من حجته، وهو ما
ليس يملكه إلا الشعب كل الشعب.
بعض
الكتائب المسلحة المستكبرة التي تراوغ الآن في المساحة الضيقة من عمرها، وعلى
الحبل الواهي من حجتها، لا يساعدها على هذا السلوك الانتهازي الارتزاقي سوى صمت
الأغلبية إزاء عربدة هذه الكتائب، والذي تجاوز مجرد الوجود المشرعن لهذه الكتائب
ومظهره الرسمي المعروف من شعار ومقر وكادر، حيث أخذت هذه الكتائب تفرز الكثير من المظاهر
السلبية المحسوبة، وبكل أسف، على الثوار ككل، حسنهم وسيئهم، مما أفسد على الليبيين
فرحتهم بقطف ثمرة ثورتهم وبناء دولتهم، بل وهز صورة كل الثوار في الأعين والأفكار.
الشباب الراشدون في الكتائب المسلحة، وهم لا شك
كثر، عليهم بالعودة بسرعة إلى الجذور؛ إلى الحضن الاجتماعي الشعبي الذي من نخاعه
تكونوا، وبدمائه تحركوا، وبوعيه ووجدانه صنعوا إرادتهم. ذلك الحضن الذي لولا تماسك
من فيه؛ شيبا وشبابا، رجالا ونساء، أميين ومثقفين، أيديولوجيين وغير أيديولوجيين،
إسلاميين وسواهم، لما انتصر الشعب الضعيف على الدكتاتور المخيف، ولكان مصير النخبة
التي لها الآن مقام وجناب، زنزانة موصدة الأبواب، أو حفرة في جوف التراب!
سلم
الله أهلنا في بنغازي، وفي كل مناطق الوطن وجهاته.
محمد
عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق