"الكوبيات اللعينة" ها هي تدك بنيان الوطن!
المجموعات، أو الكوبيات بأنواعها الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية
المختلفة، تمثل أبرز تضاريس لوحة المجتمع الليبي، تلك اللوحة التي هي الآن في أبشع
أشكال تشظيها واختلافها وتناقضها، وذلك بما تحويه من جزر متناثرة تسكنها قبائل
سياسية، وأحزاب قبلية، وتشكيلات عسكرية، وحتى روابط، وجمعيات، وغير ذلك من أجسام
الطفرة و"الطهقة" ذات الطلاءات والشعارات الثورية التي تولدت عن الثورة
أو الفورة، وتشكلت على عجل على حواف التشققات العميقة التي أحدثها زلزال الحرب
الأخيرة بين الحاكم ومواطنيه، وهي الحرب التي استنفذ فيها ذلك الحاكم قبل سقوطه كل
حيله الشيطانية في جعل ليبيا من بعده جبلا من شظايا، لا يتشكل منه بناء، سوى ما
كان على شاكلة مثلث برمودا!
على طبق التنوع والتعدد وبمبرره نما وتمدد الجيل الفبرايري الحديث من
الكوبيات، وارثا جينات سلفه الجيل الجماهيري. وعلى إيقاع الثورة والتغيير صنعت
الكوبيات طعومها القاتلة التي التقمها الليبيون البسطاء، وحسبوها منتجا ديموقراطيا
حديثا لابد من التعاطي معه وقبوله مهما علت تكلفته.
تكاليف الكوبيات فاقت المعقول، بل إنها أصبحت عللا وأسقاما جسيمة عبثت
بمخرجات العملية الديمقراطية؛ من مؤتمر وطني، وحكومة، ومؤسسات مجتمع مدني. وبدل أن
تعبر هذه المنتجات الديمقراطية بالبلاد من حالة الثورة والفوضى إلى حالة الدولة
والنظام والاستقرار، وجدناها بسبب فيروس الكوبيا المهجن الذي سكنها، تقصر عن
أداء ما كان مأمولا منها، بل إنها عملت في عكس اتجاهه.
ورغم أن كائن الكوبيا في شكله المشهور المعروف، هو جسم مستهجن اجتماعيا،
ومجرَّمٌ أخلاقيا وقانونيا، ويمارس عمله في الخفاء داخل الحدود الضيقة التي يتيحها
له تكوينه الكوبيائي المنعزل؛ إلا أن نموذج الكوبيا الليبي الوقح خرق هذه القاعدة،
فاعتز بإثمه، وجاهر بكل منكرات الكوبيا وبوائقها، منتهزا ظروف البلاد الاستثنائية
الصعبة.
وحتى إذا ما بدا هذا الفيروس الكوبيائي أنيقا نبيلا، وذلك باتخاذه الأشكال
المألوفة للكيانات الاجتماعية والسياسية والدينية المقبولة، إلا أنه لا يفعل ذلك
إلا تقية أو استنادا إلى فقه التمكين، وذلك لكي يسهل عليه المرور من بوابات
وصمامات المجتمع الموصلة إلى مفاصله وأماكنه الحساسة، حيث يسهل عليه هنالك فعل ما
يريد.
ولأن الكوبيا تعرف جيدا أن النخبة في تكوينها الطبيعي الحر هي عدوها
الحقيقي، عمدت الكوبيا إلى إفساد موسم ولادة النخبة الذي أيقظ أجنته ومنحها رعشة
الحياة الهبوب المفاجئ لنسائم الربيع الديمقراطي، والتي هبت على ليبيا بعد انتظار
مرهق امتد لعقود طويلة.
موسم تكوين النخبة في أوائله كان واعدا، إلا أن الوباء الكوبيائي تمكن من
إجهاضه مستخدما، كما هو ديدنه، تقنية المكر والتلبيس والخداع التي يتقنها؛ ففي
شهور عسل الثورة، وتحت إيقاع ألحان التغيير العذبة المثيرة، أعمل الفيروس
الكوبيائي سكاكينه التي أطلق عليها أسماء رنانة من مثل؛ الفرز الأيديولوجي، والعزل
السياسي، ومتابعة المحسوبين على النظام السابق(الأزلام)، وغير ذلك من أسماء، لم تخطر
على بالنا، ولم نتداولها، ونحن نعيش أجواء الثورة.
وبكل أسف، فإن أكثر ضحايا هذا الاجتياح الكوبيائي كانت النخبة! ألم
ينجلي غبار تلك المعركة الخبيثة عن تصفية مقننة لشخصيات نخبوية بارزة داخل
المؤتمر الوطني نفسه من مثل؛ المقريف، ونائبه عتيقة، وحسن الأمين، وربما الكثيرين
غيرهم من كائنات نخبوية، خنقت أنفاسها أدخنة النفير الكوبيائي السامة، ووارتهم
أغبرته وأتربته السوداء الكثيفة.
وإذا كان المتهم الأول في جريمة إفساد موسم ولادة النخبة الليبية، هي
الكوبيا في شكلها السيء المعروف، وهو ليس أمرا غريبا أو مفاجئا، إلا أن الغريب
والمحزن حقا هو تشكل كوبيا أخرى نبيلة من أفراد محسوبين على الثورة تمكنوا من
الالتحاق المبكر بركب الثورة بعد رجوع بعضهم من ديار الغربة، أو بعد نفض تراب
الاغتراب المحلي من على رؤوس بعضهم الآخر، وحصولهم على الفرصة الذهبية في التواجد
في أماكن تعين على بناء صرح الثورة ومن بعدها الدولة من لبنات النخبة الحقيقية،
وذلك قبل عصف موجة ذلك التدافع الغريزي الفاضح على غنائم الثورة. بعض هؤلاء اكتظت
بهم منصة الاحتفال بيوم التحرير، والذين بقدر ما عجزوا عن مجرد صياغة خطاب يليق
بيوم التحرير، عجزوا أيضا في مخاطبة النخبة التي كانت تنتظر إيعازا منهم يجمع
صفوفها ويوحد إيقاع سيرها. إن خطابا بأهمية خطاب التحرير، كنت أتوقع وغيري
دعوة كل كتاب الوطن ومفكريه إلى المشاركة في إنشاء كلماته!
رغم أن التحديات التي واجهت انقلاب القذافي أو ثورته، كانت أقل بكثير من
التحديات التي واجهت ثورة فبراير، إلا أن القذافي كان أذكى من المزدحمين في مطبخ
الثورة، حيث اتجه بسرعة وبقوة نحو بناء نخبة نظامه، وذلك بمجرد استتباب الأمر له؛
ندوة الفكر الثوري، ورابطة الطلبة الوحدويين الناصريين العرب، وربما غيرها كثير،
من أمثلة الأجهزة المبكرة لصناعة نخبة سبتمبر. أما الأجهزة المتأخرة فكانت أكثر
من أن تحصى!
إذا لم تكن للكوبيا اللعينة والنبيلة من أفعال ضارة سوى إفساد وإجهاض موسم
ولادة النخبة فكفاها؛ إذ لا يمكن للثورة التحرك خطوة واحدة ونخبتها مهملة مشتتة
منهزمة، وربما مطاردة ومجرمة. ليس ثمة من سبب يمكن أن نعزو إليه ما عليه أوضاعنا
الحالية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الأمنية من بؤس، سوى خصوبة أرحام
ولادة مخلوقات الكوبيا الطفيلية الضارة بأشكالها وألوانها المختلفة، وفي المقابل
جفاف وعقم أرحام ولادة النخبة، تلك الأرحام التي يبدو أنه قد تم استئصالها بالكامل!
أبشع نشيد جنائزي ينشده بعض الكوبيائيين على نعش ليبيا الثورة هذه الآونة،
هو ذلك النشيد النشاز المخزي، والذي تعلو فيه أصوات التشنيع على من قضى عمره
محاربا للدكتاتورية، وتضعه هو ومن مارس الديكتاتورية في سلة واحدة. ثم، وفي نفس
المقطع من هذا النشيد النشاز، نجد هذا الكوبيائي يبرر للقطاء الثورة المدعين لها
شعارا، والمحاربين لها مسلكا ومسارا، ما يقومون به من أعمال إجرامية شنيعة! وذلك
بحجة حاجة الكوبيا أو القبيلة أو الكتيبة أو الحزب لخدمات أولئك الفاسدين من أعضاء
هذه الكوبيات. وبهذا تحولت الكوبيا الليبية، الصفيقة منها والأنيقة، إلى مافيا
ليبية لها قوانينها الخاصة التي لا تأبه إلا بمصلحة أفرادها، ولو أدى ذلك إلى
التضحية بالمثل والقيم، وحتى الوطن بكامله.
على مدى العامين الماضيين وجد المخلوق الكوبيائي بيئته المثالية في
التورم والانتفاخ، وها نحن نراه الآن في أبشع صوره وهو يمزق الوطن ويعبث بأمنه
ومقدراته ويضرب بتضحايته عرض الحائط، بل وصل الأمر حد تفتيت الدولة وتجويع شعبها.
لا شيء أفضل وأجدى في هذه المرحلة الحرجة من خلع كل اللافتات
المرفوعة الآن، ورفع لافتة واحدة فقط مكتوب عليها: إنقاذ ليبيا وتطويرها.
وإلا فلنجهز لافتة مكتوب عليه: هنا كانت توجد بلد اسمها ليبيا !!!!!!
محمد
عبد الله الشيباني
aa10zz100@yahoo.com
Libyanspring.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق